الخميس، تشرين(۲)/نوفمبر 14، 2024

لسنا رعايا طوائف ولا أهل ذمّة

لبنان
بلغت عملية الاستشارات النيابية، التي كانت مقرّرة الاثنين الماضي، والتي تأجّلت مجدداً لفترة أسبوع، مرحلة خطيرة، ليس بمفاعيلها أو بسبب عدم إجرائها، بل لكونها دخلت، وبقوّة، في مهبّ المحاصّة الطائفية وبزار المزايدات المذهبية. وفي تطور مريب توقيتاً وشكلاً، خرجت من دار الفتوى تسمية مرشح لتأليف الحكومة بعينه، ضاربة بذلك عرض الحائط، بالدستور والطائف وبكل الأعراف، حتى ولو كانت شكلية، وواضعة، في الوقت نفسه، الحرم المذهبي على أي ترشيح آخر. إنّ هذا الأمر، ما هو إلّا استكمال للمنطق المتداول منذ الانتخابات النيابية الأخيرة، والقائم على مقولة "الأقوى في طائفته"، أي بمعنى أدق تحالف الأقوياء في طوائفهم وليس أيّ أحد آخر. وفي السياق ذاته، يندرج ما جاء به كلام مطران بيروت، حول التلميح، والذي هو أوضح من التصريح، بحقّ مكوّن سياسي في لبنان ومن زاوية استقدام عامل السلاح كمحدّد للثقل السياسي، والردود على تلك التصريحات، السياسية منها أو من المرجعيات الدينية، يُضاف إليهما السجال الحاصل حول أحقيّة القانون الكنسي على القانون المدني في قضايا، هي من صلب القانون الجزائي، وبخاصة أن القضية المشار إليها هي قضية تحرش بأطفال قصّار. وإذا أضفنا إلى تلك الأمور المذكورة تصاعد الخطاب الطائفي، الذي يستبطن إشاعة جوٍّ من إعادة الفرز في الشارع، فإن ذلك يعني، بأنّ الأوضاع في الأيام القادمة ستشهد على الأسوأ، وبأن القوى المتحكمة في القرار السياسي لجأت إلى سلاحها القاتل، وذلك من خلال استقدام الطوائف وجمهور المذاهب إلى ساحة المواجهة، تثقيلاً لمواقفها في عملية التفاوض في ما بينها، أو تصويباً عليهم أو على من سيكون معهم. إنّ هذا الأمر ينبئ بتصاعد الانقسام العمودي، وإعادة البلد إلى ساحات طوائفه ومذاهبه، بعدما أسقطت الانتفاضة الشعبية المتواصلة منذ أكثر من خمسين يوماً تلك الحالة، وأسّست لنمطٍ جديدٍ من الاعتراض، قائم على أساس القضايا والمطالب. وعليه فإنّ الأمور ستتّجه في الأيام القادمة إلى المزيد من التوتّر ربطاً بتلك المستجدات، وستشهد الساحات السياسية المزيد من الخطابات المزايدة في الحرص على حقوق الطوائف وزعاماتها، والتي ستكون دوماً تحت مسمّيات العيش المشترك. وعليه فإنّ الأمور ستذهب، من جانب قوى السلطة، نحو إيجاد المخرج الذي يثبّت هذه الحالة ويقوننها بطريقة ما للسير فيها. وستشهد الأيام والساعات القادمة المزيد من التشاور بين أطرافها، بهدف إبقاء الحالة الطائفية على ما هي عليه. من هنا نرى، بأنّ استخدام عامل الدين واستقدامه من قبل أصحاب الغبطة والسماحة والنيافة والفضيلة إلى مسرح الأحداث، مشاركين أو محرّضين، متّخذين المواقف إلى جانب مشاريع سياسية أو أطراف بعينها، ومسخّرين كل ما لديهم من إمكانيات ووسائل، ومستنفرين كل عدتهم وعديدهم للقضاء على أي أمل، ولو كان مفترضاً بإحداث تغيير سياسي أو اجتماعي، سيكون له الأثر الأكبر في منع البلد من الانتقال من دولة المزارع والرعايا إلى دولة وطنية مدنية يشعر فيها المواطن بالانتماء، وينال حقوقه المدنية والسياسية والاجتماعية. ليس أمام جمهور الشعب اللبناني، الرافض لكل تلك الممارسات والسياسات والسلوكيات التي خرج من أجلها إلى الشارع ولا يزال، إلّا الاستمرار في تلك المواجهة. فأيّ عملية تراجع اليوم ستُعطي للمنظومة الحاكمة مشروعية سياسية افتقدتها طوال هذه الفترة؛ فنزعُ الصفة الدستورية عن تلك المنظومة إجراءٌ يجب اللجوء إليه. لقد صادرت دورُ الطوائف وصروحها أدوارَ المجالس الرسمية ونصّبت نفسها في المكان الذي يقرّر من يكون الرئيس ومن هو المسؤول، وحرّمت ذلك وحلّلت ذاك. لقد سقط الطائف بشكلٍ نهائي، وما إكرام الميت إلّا دفنه، لذلك فلتكن الدعوة وبوضوح، إلى إنهاء هذا النظام السياسي القائم على المحاصّة الطائفية، ولإعادة تشكيل السلطة السياسية من جديد وعلى أساس مختلف، يمنع التدخلات فيها الداخلية منها أو الخارجية، من خلال كسر القيد الطائفي. وعلى ذلك فإن الإشهار بذلك الموقف يجب أن يكون في كل الساحات، صوتاً وقولاً وفعلاً واحداً. بالإضافة إلى العمل وبشكلٍ جاد لإنضاج مشروع سياسي بديل عن سلطة الطوائف وأمرائها. إنّ التعنّت و"الدلع" السياسي لبعض الأطراف من خلال وضع الشروط والشروط المضادة تحسيناً لموقعه، معطوف عليها استغلال دولي مشتبه فيه، هو أمر يجب التنبه له لأنه سيُدخل البلد في حالة من الفوضى الموصوفة والتي ستطيح بما تبقّى منه. وبناءً على ما تقدم، فإنّ تشخيص المشكلة ومسبّباتها وحصرها في مسبّبيها، من قوى سلطوية واقتصادية- مالية، تابعة ومرتهنة سيكون الأساس الذي سيُبنى عليه استمرار الانتفاضة وتفعيلها. إنّ وصول الوضع إلى هذا المستوى المتأزّم من التوتّر لا يُنذر إلّا باستنفار الطوائف وقواها مجتمعة لإعادة تمتين ركائز نظامها السياسي، الذي اهتزت بعض ركائزه خلال الفترة المنصرمة. إنّ الدفع باتّجاه بلورة خطاب سياسي واضح، وباتّجاه تقديم السياسي كأساس للمواجهة ربطاً بطبيعة النظام الحاكم، المتداخل فيه السياسي بالاقتصادي وبالاجتماعي من خلال الريع والفساد والمحسوبيّات وغيرها من عدة إخضاع الشعب اللبناني بلقمة عيشه ومستقبل أولاده، لدفعه إلى الولاء الأعمى، يتطلب منّا جرأة باتجاه قول الأمور بأسمائها، من دون أي اعتبار لأي قضية، وطرح ذلك على كل من يشاركنا الرأي لنسير معاً في هذا الاتجاه؛ فالمسؤولية الكاملة في كل ما وصلنا إليه تتحمله، إذن، المنظومة السياسية بأدائها وسياساتها الاقتصادية، المفرطة في الليبرالية، المعتمدة على الاستدانة وبفوائد عالية جداً من دون ربطها بمقتضيات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتي في صلبها ومعها، بلغ الفساد مستويات غير مسبوقة. لقد أصبحت هذه المعادلة التي حكمت لبنان منذ الطائف وحتى اليوم خطراً واقعاً على البلاد والنظام، هذا ما يشكل المقدمة لولادة وعي جديد لدى فئات اجتماعية واسعة، يقوم على ضرورة تغيير عميق في بنية الاقتصاد اللبناني باتّجاه تحويله إلى اقتصادٍ منتج، واستعادة أو إنتاج دور وظيفي ربطاً بحاجات الإقليم، وهذا سيشكل أساساً لتحالف واسع. ومن المفيد الإشارة هنا، بأنّ على الانتفاضة الشعبية إدراك هذه الضرورة، كي تتحول، من حالة الاحتجاج إلى مشروع سلطة وإلى اجتراح مخرج حقيقي وتاريخي لأزمة لبنان البنيوية والمتجذرة منذ نشأة الكيان. إنّ تعقيدات الداخل وتطورات الخارج، وبالتّحديد ما يجري في المنطقة، تربك الحسابات المتناقضة لقوى السلطة وتبدّل منطلقاتها. فأي من تلك المنطلقات يمكنها أن تشكل قاعدة اتفاق في ما بينها؟ لا أحسب أنّ ثمة جواباً حاسماً عن هذا السؤال عند أيّ فريقٍ من أفرقاء معادلة التسوية الأخيرة. فجميعهم ينظرون إلى الموضوع من زاوية التركيبة الداخلية للنظام السياسي، وهنا، بالنسبة إليهم، الرؤية أكثر وضوحاً؛ فهناك مصالح مشتركة يمكن أنْ تشكّل قاعدةَ أمانٍ لحكمٍ، أطرافه راضون عنه، وعلى ذلك هم فريق واحد. وأيضاً ينظرون من زاوية قضايا المنطقة، وبالتحديد المرتبطة منها بالصراع الدائر وحسابات أطرافه، وهنا تبدو الرؤية مغشاة حدّ العمى، وبذلك يتكوّن الانفصام الواضح في الخطاب السياسي لتلك المنظومة السياسية والاقتصادية-المالية. فبين التحذير، من قبل بعض أطراف السلطة، من التدخلات الغربية على خطّ الانتفاضة ومن خلال قوى سلطوية، وبين النقاش في الشأن الداخلي الدائر اليوم حول كيفية إعادة إنتاج التسوية التي كانت قائمة والاستماتة في إعادتها بهدف إعادة تثبيت السلطة، يكمن التناقض الأساس، ما جعل خطة التشويش على الشيء الإيجابي المحقق اليوم في الشارع، تكون من خلال التشكيك والتخوين واستدراج التوتر المذهبي والطائفي والمناطقي وهذا ما يحصل اليوم. إنّ ذلك يتطلب بناء النقيض، والذي لا يجب أن يكون محلّ مراوحة أو محطّ استمهال، بل أن يتقدّم، وبمشروع واضح يقدم نفسه من خلاله؛ مشروع يجسّد تطلعات الشعب اللبناني المنتفض في كل الساحات وآماله في بناء وطن على قدر التضحيات التي قُدمت. هناك خطوات جدّية في هذا الاتجاه: الصمود في الساحات هو مطلوب، الوضوح في الموقف هو أساس، والبرنامج السياسي للخروج من الأزمة يجب أن يُعلن ومن أصحابه الحقيقيين، والذين هم في الشوارع منذ أكثر من خمسين يوماً. في النهاية، ولأخذ العلم فقط، نحن مواطنون ولسنا رعايا طوائف ومذاهب وأهل ذمّة عند من يصادرون أمر السماء وأمر الأرض.