مازن عبود حكاية الإنسان – المقاوم
بمناسبة انطلاقة "جمّول" وتحيَّة منَّا لبطلاتها وأبطالها، الشهداء والجرحى والأسرى وللشهداء الذين ما زالت جثامينهم محتجزة، حتى اليوم، لدى العدو الإسرائيلي وهم: جمال ساطي عملية تدمير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي 1985، حسن علي موسى عملية أبو قمحة- حاصبيا 1985، الياس حرب، وحسام حجازي، وميشال صليبا عملية تدمير إذاعة العملاء 1985، فرج الله فوعاني عملية كفر فالوس ضد العملاء 1987، إياد قصير وحسين ضاهر عملية تلة ماروس – جزين 1987، يحيى الخالد عملية أبو قمحة – حاصبيا 1987. نتوقف عند محطات رئيسية في مسيرة مازن عبود النضالية التي من خلالها نتعرف على نضالاته، وعلى مراحل سياسية رئيسية مرَّ بها لبنان وكان لها الأثر الكبير في تبلور الوعي السياسي الوطني المقاوم للاحتلال وللقوى الفاشستية واليمينية لدى العديد من المقاومين الوطنيين ومنهم القائد المقاوم الراحل مازن عبود، ودور الحزب الشيوعي اللبناني، والقوى اليسارية والقومية الوطنية، في مواجهة الاحتلال والمشاريع الطائفية وحماية المقاومة الفلسطينية، بمشروع سياسي وطني تحرري تلتحم فيه مقاومة الاحتلال بالتغيير الديمقراطي من أجل حكم وطني ديمقراطي عَلماني مقاوم. هي محطات سياسية تبرز، في الوقت نفسه، انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ودورها في التحرير، وموقع مازن عبود فيها.
مازن عبود النشأة والواقع السياسي في لبنان
" الحياة أعز شيء بالنسبة إلى الإنسان، إنها توهب مرة واحدة، فيجب أن يعيشها عيشة لا يشعر معها بندم معذب على السنين التي عاشها، ولا بلسعة العار على ماضٍ رذلٍ تافهٍ، وليستطيع أن يقول وهو يحتضر: كانت كل حياتي، كل قوايَّ موهوبة لأروع شيء في العالم، ألا وهو النضال في سبيل تحرير الإنسانية" (نيقولاي اوستروفسكي).
هكذا كان مازن، القائد المقاوم المناضل وهكذا بقي إلى آخر لحظة من حياته، إنه "واهب الحرية"، إسم الفيلم الوثائقي للمخرج العراقي قيس الزبيدي، أرَّخ فيه لبطولات المقاومين الأوائل منذ السادس عشر من أيلول العام 1982 إلى تحرير العاصمة بيروت من الاحتلال الإسرائيلي في السادس والعشرين من أيلول العام 1982.
بيروت احتضنت عائلة مازن التي قدمت إليها من الجنوب اللبناني وذلك في بداية العام 1950، بحثاً عن فرصة عمل تؤمن من خلالها حياة أفضل. عائلة مازن حالها كحال العديد من العائلات التي قدمت إلى العاصمة بيروت، من الجنوب، وأيضاً من البقاع والشمال، سعياً وراء ايجاد عمل لتأمين المستلزمات الضرورية للحياة. ويعود سبب القدوم إلى بيروت، أي الهجرة الداخلية، للسياسات الاقتصادية – الاجتماعية، القائمة على حرمان تلك المحافظات والمناطق من التنمية وإهمالها، وبالتالي تكريس الارتهان للزعيم الاقطاعي، وهذا ما رفضته العديد من العائلات.
ولد عبد الكريم (مازن) حسين عبود في 1/11/ 1958 ببيروت- عين المريسة، عرف أحياء بيروت وزواريبها منذ طفولته، وتلقى تعليمه في مدارسها الرسمية. في تلك الفترة بدأت تحركات سياسية واقتصادية – اجتماعية مطلبية، في العاصمة والعديد من المناطق اللبنانية، احتجاجاً على سياسات النظام السياسي – الطائفي الذي عمل على فرض، بالقوة، "حياد" لبنان في الصراع ضد العدو الإسرائيلي، وإدخاله في أحلاف سياسية معادية للتحرر الوطني وللقضية الوطنية وللمقاومة؛ وهو ما رفضته القوى الوطنية واليسارية وناضلت ضده وعملت على إسقاطه؛ كما شهدت تلك الفترة حركة احتجاجات مطلبية، وعمالية، ضد السياسات الاقتصادية - الاجتماعية للنظام السياسي التي تكرس الاستغلال وتحمي رؤوس الأموال ومصالحها، إنها حركة نضالية من أجل حقوق العمال، والفقراء، الحق في العمل، والضمان الاجتماعي للعمال، والطبابة، والسكن، والتعلم... تعرضت تلك الحركات الاحتجاجية الوطنية والمظاهرات للقمع وسقط فيها شهداء وشهيدات دفاعاً عن حق مقاومة العدوان الصهيوني على لبنان، ودفاعاً عن حقوق العمال والفقراء، حاملة مشروعها السياسي من أجل لبنان ديمقراطي عربي.
في ظل هذا المناخ المفعم بعبق النضال التحرري الوطني والمطلبي – الاجتماعي، الذي خاضته القوى الوطنية واليسارية والقومية، وفي القلب منها الحزب الشيوعي اللبناني، وجد مازن، كما الآلاف من أبناء جيله، مكانه السياسي النضالي، وحدد خياره الانتساب إلى صفوف الحزب الشيوعي اللبناني، وكان ذلك من خلال انتسابه إلى منظمة الحزب في منطقة عين المريسة التي كانت قيد التأسيس، حيث كان يعيش مع أهله. هذا الخيار السياسي وانتماء مازن إليه عبَّرَ من خلاله عن انتمائه الواضح إلى جانب الجماهير الشعبية والفقراء، والانخراط في نضالاتها، إنه الانتماء الواضح إلى قوى التغيير الديمقراطي ومشروعها السياسي الوطني التحرري التغييري الثوري دفاعاً عن لبنان الوطني الديمقراطي العلماني المقاوم.
خاض مازن، من خلال نضالات حزبه، العديد من النضالات المطلبية والسياسية، التي رأت فيها القوى اليمينية الفاشية، مصدر خطر حقيقي على نظامها السياسي – الطائفي ومصالح الطغمة المالية، فقد أظهرت النضالات السياسية والمطلبية والنقابية والعمالية، اتساع جماهيرية القوى الوطنية واليسارية وجذرية مشروعها السياسي الوطني، فكان رد القوى اليمينية الفاشية تفجير الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975 حفاظاً على نظامها السياسي – الطائفي.
تطوع مازن، منذ بداية الحرب الأهلية، في القوات العسكرية التي شكلها الحزب وانخرط فيها، فتدرب على حمل السلاح للدفاع عن المقاومة والشعب الفلسطيني اللاجىء في لبنان الذي تعرض للمجازر والقتل على يد القوى اليمينية الفاشية، وانخرط في العمل العسكري من أجل الدفاع عن عروبة لبنان وتطوره الديمقراطي ضد الانعزاليين ومشروعهم التقسيمي.
برز مازن، في تلك الفترة، كقائد ميداني يتمتع بالقدرة على القيادة وتقدير الموقف والمبادرة، واتخاذ القرار الصائب، وتنفيذ المهام المكلف بها بدقة عالية وتفانٍ، كما تحلى بالانضباط والشجاعة، والأخلاق الحزبية الشيوعية والنزاهة، والعلاقات الطيبة مع الرفاق، خاصة الرفاق الذين قاتلوا معه. أنها صفات القائد المقاوم الملتزم قضية شعبه وقضية حزبه ومشروعه السياسي الوطني التحرري. مناقبية مازن وتفانيه بتنفيذ المهام المكلف بها دفعت قيادة الحزب إلى العمل على تطوير قدرات مازن العسكرية والفكرية من خلال اخضاعه للعديد من الدورات في لبنان والخارج. كان مازن في تلك الدورات، وفي مهامه الحزبية، نموذجاً لبناء قيادة جديدة تتقدم صفوف المقاتلين في الميدان، فقد كان يناقش مع رفاقه المهمة التي سوف تنفذ، يدفعهم ويحثهم على المشاركة في رسم خطة المهمة، ويقودهم نحو تنفيذها، هي سمات قائد يُشرِك رفاقه في جميع جوانب المهمة ليكونوا جزءاً منها منخرطين بجيمع تفاصيلها، هي سمات أساسية لنجاح أي مهمة. كما كان مازن حريصاً على سلامة كل رفيق مقاتل عمل معه، وبقي لآخر يوم من حياته، يجيب، بافتخار، عندما يُسأل عن تلك الفترة وتنفيذه للمهام، بأنه لم يستشهد معه أي رفيق أثناء تنفيذها، وذلك على الرغم من صعوبة العديد من المهام التي خاضها وخطورتها. لم تتوقف قيادة مازن للعديد من المهام عند هذا الحد، بل كان له دوره في حماية الحزب ومقراته والرفاق، حيث قدم العديد من التضحيات الجريئة لحماية حزبنا من أعمال عدوانية تخريبية خلال سنوات الحرب الأهلية.
الاجتياح الإسرائيلي للبنان العام 1982 وصمود بيروت:
بدأ العدو الإسرائيلي اجتياحه للبنان في السادس من حزيران العام 1982 وسط مقاومة وطنية شرسة خاضها الحزب الشيوعي اللبناني وقوى وطنية وقومية لبنانية والمقاومة الفلسطينية ضد الجيش الإسرائيلي. وبقيت المعارك مستمرة والتصدي للتقدم الإسرائيلي اتجاه بيروت يزداد شراسة، مثلث خلدة، محور كلية العلوم، ملاحم في التصدي تكبد خلالها الجيش الإسرائيلي خسائر فادحة في العديد والعتاد، إلى أن حاصر، مع عملائه، بيروت. الحصار الذي استمر لمدة ثلاثة شهور مانعاً عنها وصول المواد الغذائية، والماء، والأدوية، في محاولة منه لكسر صمود بيروت الوطنية العربية المقاوِمة، ولكن بيروت بإرادة مقاوميها بقيت صامدة شامخة، "هذا الحصار الذي استمر شديداً إلى أواخر شهر آب: فلا ماء ولا كهرباء ولا مواد غذائية غير تلك الموجودة في المستودعات. حصار ترافق مع تصاعد في عنف القصف والتدمير: القنابل تحصد العشرات والمئات؛ أجساد الأطفال المحترقة تتلوى على أسرة المستشفيات والمستشفيات الميدانية التي أقيمت على عجل في ملاجىء البنايات. وأبناء وسكان بيروت الذين بقوا صامدين فيها، وهم مدركين أهمية صمودهم وبقائهم وسط الصمت الذي ساد العالم العربي خاصة. الكل كان يدرك ما يحققه هذا الصمود، من أشرس مقاتل إلى أصغر طفل: إنهم يقاومون إسرائيل ويموتون لكي يستمر وطنهم في الحياة. لقد سطر المدافعون عن بيروت والصامدون فيها أروع البطولات واستحقت بيروت فعلاً بكل من فيها وما فيها لقب "أم العواصم". ("الاحتلال والمقاومة دراسات ووقائع").
خاضت التشكيلات العسكرية للحزب والقوات المشتركة للحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية معارك بطولية في الدفاع عن بيروت وصمودها بوجه قوات العدو الإسرائيلي، وفي هذه المعركة البطولية تابع مازن وفصيله العسكري تنظيم المقاومة والدفاع عن بيروت عند مداخلها من جهة البحر وصولاً إلى منطقة المتحف – البربير والجامعة العربية، حيث كبد العدو خسائر كبيرة كلما حاول التقدم لكسر دفاعات المقاومين.
وكانت بيروت ملحمة بطولية بصمودها وبمقاومتها للاحتلال بفعل إرادة المقاومين الوطنيين الذين سطروا البطولات في مقاومة العدو الصهيوني طيلة ثلاثة شهور متواصلة من الحصار والقصف، واستكملوا البطولة في عمليات "جمّول" ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي دخل بيروت.
احتلال بيروت وإعلان انطلاقة "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية":
في الأول من أيلول العام 1982 انسحب المقاتلون الفلسطينيون من بيروت على دفعات وهم يحملون أسلحتهم في مشهد بطولي وبيروت وأهلها يودعونهم بنثر الأرز والزغاريد، الانسحاب حصل بموجب اتفاق بين المقاومة الفلسطينية ووزير الخارجية الأميركية فيليب حبيب، وكان عبر البحر إلى خارج لبنان، وتم رفع السواتر والدفاعات التي كانت موجودة في محاور المواجهة، وتسهيل دخول الجيش اللبناني لاستلامها، وكانت الخديعة، فبعد انسحاب القوات الفلسطينية، حسب الاتفاق، ورفع التحصينات حول بيروت، تقدمت قوات العدو الإسرائيلي، بمساعدة عملائها في الداخل، القوى اليمينية الفاشية، ففي 15 أيلول بدأ الهجوم الصهيوني وارتكب العدو الصهيوني مع عملائه مجزرتي صبرا وشاتيلا، بعد محاصرة المخيمين، التي ذهب ضحيتها أكثر من 3000 ضحية أغلبهم من كبار السن والنساء والأطفال. يشار إلى أن انسحاب القوات الفلسطينية من بيروت حصل تحت إشراف ما سُمي "القوات المتعددة الجنسية" المؤلفة من قوات أميركية وفرنسية وإيطالية التي انسحبت من بيروت في 10 أيلول قبل موعد رحيلها الرسمي.
من خلال المتابعة لتقدم العدو الإسرائيلي، تأكد مازن انهم أصبحوا وحدهم في مواجهة التقدم وانه من المستحيل وقفه، بناء على هذا التقدير وحفاظاً على أرواح الرفاق، وفي الوقت نفسه، العمل للانتقال إلى المرحلة الأخرى من المقاومة، أمر مازن المجموعات الملحقة به بالانسحاب إلى داخل بيروت والاختفاء في منازلهم ومنازل أقربائهم، واخفاء أسلحتهم، وانتظار الأوامر الجديدة لمقاومة العدو من خلال عمليات مباغتة وسريعة. بقي مازن مع مجموعة صغيرة من الرفاق، لا يتعدى عددها الخمسة رفاق، يواجهون تقدم العدو عند محور الجامعة العربية، عملت المجموعة على إبطاء تقدم قوات العدو، وتمكنت من إنزال خسائر فادحة فيها بالمعدات والأرواح، بقيت المجموعة تبطىء تقدم قوات العدو إلى أن نفدت ذخيرتها، فانسحب أفرادها سيراً على الأقدام إلى المنزل المتفق عليه وهناك "استحموا وغيروا ملابسهم".
كان لدخول قوات العدو إلى بيروت العاصمة وتدنيسها، والمجازر التي ارتكبها في مخيمي صبرا وشاتيلا، وحالة الهلع لدى بعض الناس، ورفع رايات بيضاء على بعض المنازل، وما شاهده مازن خلال انسحابه مع مجموعته من رمي للسلاح على المزابل، كل ذلك كان له أثره العميق عليه وعلى الرفاق، وشكَّل حالة من الغضب الشديد وإصرار أكبر على مقاومة العدو.
في السادس عشر من أيلول العام 1982 كان إعلان الرد الثوري من بيروت، على احتلالها، القرار الذي اتخذته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني، إعلان انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية الذي أعلنه الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني الشهيد جورج حاوي والأمين العام لمنظمة العمل الشيوعي الراحل محسن إبراهيم، من قلب بيروت، بتوقيع الحزب الشيوعي اللبناني، ومنظمة العمل الشيوعي، وحزب العمل الاشتراكي.
"(...) أيها اللبنانيون الحريصون على لبنان بلداً عربياً سيداً حراً مستقلاً.
إلى السلاح استمراراً للصمود البطولي دفاعاً عن بيروت والجبل، عن الجنوب والبقاع والشمال.
إلى السلاح تنظيماً للمقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال وتحريراً لأرض لبنان من رجسه على امتداد هذه الأرض من أقصى الوطن إلى أقصاه.
أيها اللبنانيون،
إن واجب الدفاع عن الوطن هو أقدس واجب. إن شرف القتال ضد المحتلّ هو الشرف الحقيقي الذي ينبغي لكل وطني أن يفاخر به.
فلتنتظم صفوف الوطنيين اللبنانيين كافة، وبغضّ النظر عن انتماءاتهم السابقة وعن الاختلافات الإيديولوجية والطائفية والطبقية، في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، كسراً للقيد الذي تحاول أن تفرضه اليوم أميركا وإسرائيل على عنق شعبنا الحر ورفعاً لراية التحرر الحقيقي لشعبنا العظيم".
أتى إعلان انطلاقة "جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة" في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد: استمرار الحرب الأهلية اللبنانية التي فجرتها القوى اليمينية الفاشية لحماية نظامها السياسي الطائفي من السقوط أمام رياح التغيير الديمقراطي الوطني المقاوِم؛ تآمر عربي رسمي رجعي مع العدو الصهيوني واجتياحه للبنان؛ القوى اليمينية اللبنانية الفاشية، نفسها، تعاملت مع العدو الصهيوني وشاركت جيشه في حصار بيروت الوطنية العربية الديمقراطية المقاوِمة، للهدف نفسه الإبقاء على نظامها السياسي وترسيخه. في ظلّ هذه الظروف كان الرد الثوري للحزب الشيوعي اللبناني، بإعلان انطلاقة "جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة"، فكان فعل "جمّول" مقاومةً للاحتلال الصهيوني وعملائه ونظامهم السياسي، ولدعوات الاستسلام التي اعتربت إعلان انطلاقة "جمّول" مغامرة.
لم يكن إعلان انطلاقة جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة "جمّول" وليد لحظته ولا قراراً ارتجالياً أو فردياً، إنه امتداد ثوري لنضال الحزب الشيوعي اللبناني ضد الاحتلال: حركات مقاومة شعبنا ضد العدو الصهيوني وعصاباته، والحرس الشعبي وقوات الأنصار، واجتياح العام 1978. إنه خيار سياسي ثوري اتخذه الحزب، في موقعه الطبقي، للتحرير ولمقاومة الاحتلال وافشال أهدافه وأهداف المشروع الامبريالي، ففي وثيقة المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي اللبناني ما نصه أن الحزب لم يفاجأ بالاجتياح الإسرائيلي بل توقع حدوثه وتوقع وصوله إلى العاصمة بيروت، وقد ورد هذا التقدير في تقرير اللجنة المركزية أواخر العام 1981، كما عقدت اللجنة المركزية للحزب اجتماعاً في شهر آذار العام 1982 كرّس للتحضير للمواجهة السياسية والتنظيمية والعسكرية للاجتياح المرتقب، واتخذت اللجنة المركزية سلسلة من التدابير، أهمها إعلان التعبئة العامة في صفوف الحزب، سياسياً وعسكرياً. أما القرار الملموس تشكيل جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، فقد اتخذه المكتب السياسي في الأيام الأولى لبداية الاجتياح، وأكدته اللجنة المركزية في أول اجتماع لها في ظل الحصار. وبعد الاجتماع استكمل الحزب التحضيرات العملية في بيروت وفي سائر المناطق. (الحزب الشيوعي اللبناني، وثيقة المؤتمر الوطني الخامس. ص 172، و ص. 178).
في 17 أيلول العام 1982 كان مونشيت جريدة "النداء":
مقاومة ضارية تواجه الغزو الاسرائيلي – الاميركي لعاصمة البطولة
تدمير 46 دبابة وآلية إسرائيلية ومعارك طاحنة على كافة المحاور
حاوي وابراهيم يدعوان الشعب اللبناني لمقاتلة الغزاة دفاعاً عن الأرض والوطن
بدأ تنفيذ العمليات ضد العدو الصهيوني من ليل 19 – 20 أيلول إلى 25 أيلول، تلبية لقرار "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية". أبطال "جمّول" لاحقوا العدو في شوارع بيروت وأزقتها، صيدلية بسترس – الوردية أول عملية لـ "جمّول" 20 أيلول، 22 أيلول عملية في منطقة زقاق البلاط قرب محطة أيوب للوقود، وفي كورنيش المزرعة "مقر منظمة التحرير" الذي أقام فيه العدو تجمعاً لقواته وآلياته نفذت ضده عمليتان في 23 و 25 أيلول، 24 أيلول عملية مقهى الويمبي الحمراء، وعملية في 25 أيلول بالقرب من جامع عائشة بكار، عملية في منطقة الجناح، وفي 25 أيلول نفذت "جمّول" عملية أخرى، أيضاً، قرب صيدلية بسترس.
مازن عبود تعرفه أحياء بيروت وأزقتها وشوارعها قائداً من قادة صمودها في وجه الحصار الإسرائيلي لها مع عملائه، مازن عبود القائد المقاوم لبى نداء حزبه، الحزب الشيوعي اللبناني، فأطلق رصاصة "جمّول" الأولى مع رفاقه في "جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية": صيدلية بسترس- الوردية، محطة أيوب زقاق البلاط، جامع عائشة بكار، وبقي مع رفاقه يلاحق جيش العدو الإسرائيلي في كل زاروب من زواريب بيروت ملحمة الصمود والمقاومة الوطنية. ازداد عدد المقاومين. وكان مازن لا يهدأ يغير بطلقاته على قوات العدو الإسرائيلي الموجودة في شوارع بيروت وأحيائها.
بعد تنفيذ مازن ورفاقه لعملية بسترس – الصنائع، مباشرة، تسلم قصاصة ورق من الأمين العام للحزب مكتوب عليها "انه لشرف عظيم أن تكونوا أنتم من أطلق اسم جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية".
أتسعت عمليات "جمّول" ضد الجيش الإسرائيلي ولم تهدأ، عن تلك العمليات كتبت جريدة يوم الأحد 26 أيلول 1982 في مونشيتها
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الغزاة تتسع
ضربات تشتد ضد المحتلين: أربع عمليات في بيروت في يوم واحد
وممّا جاء في المونشيت: كان يوم أمس (25 أيلول 1982) يوم رعب حقيقي لقوات الاحتلال الاسرائيلية في بيروت الوطنية. أربع عمليات في يوم واحد توزعت بين الصباح والمساء، وفي أكثر من منطقة من مناطق بيروت وضاحيتها، في عائشة بكار وفي كورنيش المزرعة وفي منطقة الجناح وفي منطقة الكونكورد، وأدت الى عدة اصابات في آليات قوات الاحتلال وفي عناصرها بين قتيل وجريح. ويوم أمس هو اليوم الرابع على التوالي الذي تشن فيه عمليات جريئة ضد قوات الاحتلال الاسرائيلية وتنزل بها الخسائر وتجعل الرعب الرفيق الدائم لوجودها المرفوض في بيروت الوطنية. ويشير تطور هذه العمليات وتصاعدها بهذه الوتيرة الى اتساع نشاط جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية للاحتلال وتشديد ضرباتها ضد قواته.
وفي 26 أيلول "حصل ما لم يحصل قبلاً في تاريخ (تساحال): العدو يطلب من المواطنين عدم مهاجمته لأنه منسحب فوراً. لكن العمليات لاحقته إلى كل مكان تواجد فيه" ("الاحتلال والمقاومة دراسات ووقائع"). وسارت آلياته في شوارع بيروت متوسلة تنادي بمكبرات الصوت "يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا نحن منسحبون". وكان مازن ورفاقه، وكانت بيروت محررة من دون قيد أو شرط في 27 أيلول، تنفيذاً للقرار التاريخي الذي اتخذه الحزب الشيوعي اللبناني بإعلانه انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، قرار أكد فيه الحزب وأبطال "جمّول" للعالم وللتاريخ انه بالإمكان غزو بيروت، ولكن لا يمكن أن تبقى بيروت محتلة.
يوم الإثنين في 27 أيلول 1982 صدرت جريدة "النداء" بعنوان:
المواجهة الوطنية تفرض انسحاب الغزاة من بيروت
واستمرار الابتزاز الاسرائيلي يستدعي خطة وطنية للتصدي
"انسحبت قوات الاحتلال الاسرائيلية من بيروت الغربية امس وبقيت وحدات منها في المرفأ وفي المطار. ويأتي الانسحاب بعد مضي 11 يوماً على دخول الغزاة الى بيروت الوطنية حيث واجهتها مقاومة بطولية، كما تعرضت الى موجة من العمليات الجريئة على امتداد ما يقرب من الاسبوع قبل انسحابها، كانت ذروتها يوم امس الأول الذي شهد اربع عمليات متتالية ضد الغزاة انزلت به اصابات عديدة في العناصر والآليات".
في ذلك التاريخ حررت بيروت بفعل عمليات "جمّول" التي بقيت تلاحق العدو في جميع المناطق اللبنانية المحتلة ملحقة به وبعملائه أكبر الخسائر، معطية المزيد من الزخم الوطني والشعبي ضد الاحتلال "دون أن تقع في مخاطر البروز والعنجهية؛ وهذا الأمر ظاهر جليٌّ في البيانات التي صدرت وتصدر حول العمليات: هذه البيانات الموحدة تدلّ على وضوح الهدف وعدم الإنجرار في أي سباق إعلامي، حتى ولو كانت المجموعات المقاومة لا ترتبط بقيادة مركزية عسكرية". ("الاحتلال والمقاومة دراسات ووقائع").
"جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية" ودورها في تحرير الأراضي المحتلة:
يَعبرونَ الجِسرَ في الصبحِ خفافاً
أَضلُعي امتَدَّتْ لَهُم جِسْراً وطيدْ
مِن كُهوفِ الشرقِ/ مِن مُستنْقعِ الشَرقِ
إِلى الشَّرقِ الجديدْ
أَضْلُعي امْتَدَّتْ لَهُم جِسراً وطيدْ
بقيت "جمّول" تعبر الجسر ملاحقة جيش العدو الإسرائيلي إينما وجد على أية حبة رمل من تراب الوطن، فارضة عليه انسحابات متتالية وهو مهزوم مذلول، "جمّول"، بعد تحريرها للعاصمة بيروت، حررّت الضاحية الجنوبية والجبل والبقاع الغربي وصيدا والاقليم والنبطية....، "جمّول" حررت معظم الأراضي اللبنانية المحتلة من دون قيد أو شرط أو قرارات دولية، عابرة بالوطن إلى شرق جديد: أن الاحتلال إلى زوال وان العملاء مكانهم مزبلة التاريخ. أدَّت عمليات المقاومة بمختلف أحزابها وتياراتها السياسية إلى محاصرة جيش العدو الإسرائيلي مع عملائه في "الشريط الحدودي" الذي حرّر في 25 أيَّار العام 2000 وهو التحرير الذي لم يترافق مع التغيير الديمقراطي، إنها المعركة التي يخوضها الحزب الشيوعي اللبناني لاستكمال التحرير بالتغيير الديمقراطي.
محاولة اغتيال مازن عبود:
تحررت بيروت، واتسعت رقعة المقاومة الوطنية، فحررت الجبل والخط الساحلي وصولاً إلى مدخل صيدا، عمليات فرضت على العدو انسحابات متتالية وإعادة تمركزه.
العدو لن يسامح من سبَّب بضرب سطوة جيشه وهزيمته، فعمل جاهداً، مع عملائه، على اكتشاف مطلق أولى عمليات الجبهة وصانع الانتصارات من بيروت مروراً بالجبل وصولاً إلى صيدا العام 1983. فأرسل من حاول اغتياله، ولكن مازن كان يجيد فن التخفي والتخلص من المتابعة، فاستطاع النجاة من محاولة اغتياله. وعندما فشلت المحاولة، تمَّ تفجير منزله في عين المريسة. في هذه المرحلة أصيب مازن بعدة انتكاسات صحية ونفسية سببها التعب والارهاق وظروف الحياة التي فرضها الاحتلال، لذلك طلبت القيادة الحزبية من مازن أخذ قسط من الراحة لمتابعة علاجه الذي كان بحاجة ماسة إليه. وافق مازن على مضض ولكن بشرط البقاء مع الرفاق المقاتلين في أماكن تجمعاتهم ومواقعهم العسكرية التي كانت منتشرة، في ذلك الوقت، في العديد من المناطق غير الواقعة تحت الاحتلال، مثل الجبل والشمال والبقاع. كان وجود مازن بين المقاتلين يزيدهم عزيمة ومعنويات، وبحكم خبرته التي اكتسبها خلال نضاله الحزبي والعسكري، كان يقدم لرفاقه النصائح والارشادات التي تغني عملهم المقاوم وتطوره.
في العام 1985 بعد تحرير صيدا، ومن بعدها تحرير صور والنبطية جنوب لبنان، انخرط مازن، مجدداً، في قطاع خاص للمقاومة في الجنوب، كان من مهامه التهيئة الفكرية والسياسية والعسكرية والأمنية للمقاومين الجدد. هنا عمل مازن بالاستفادة من خبرته التي اكتسبها خلال مسيرته النضالية المقاومة، على تطوير طاقات المقاومين الجدد. وكان هو من اكتشف وأعد نخبة من المقاومين الجدد الذين استطاعوا، لاحقاً، بعد التدريب والاستعداد، من تنفيذ مهمات معقدة جداً. وقد كتبت المناضلة سهى بشارة على غلاف كتابها" المقاومة" الاهداء التالي: "إلى من علمني أن أمشي...، على طريق النضال، إلى مازن".
بعد أن أخذ مازن يستعيد صحته وعافيته، اثر الانتكاسة الصحية التي تعرض لها أراد بناء عائلة فتزوج، مرة ثانية، من فتاة أحبها وأحبته تعرف عليها، صدفة، في بلدته عنقون، اسمها جومانا، تزوجا وأنجبا سهى ووفاء. سمى سهى على اسم سهى بشارة التي بقي على تواصل معها، وكانا يلتقيان كلما أتت لزيارة لبنان. جومانا كانت تشعر أن مازن يستعيد صحته وضحكته، وترتفع معنوياته كلما اتصل بسهى بشارة أو التقى معها، جومانا لم تكن تعرف سر هذا التبدل الذي يحصل مع مازن، ولم تكن تعرف الكثير عن الأسرار الكثيرة حول هوية زوجها، وبقيت كذلك إلى حين وفاته، حيث تعرفت على القليل عن مازن من خلال ما حكي وكتب عنه، لم تكن تتخيل ان حزباً بانتشاره الجغرافي على امتداد الوطن وبتنوعه الاجتماعي يكن لزوجها كل هذا الحب والاحترام والتقدير. جومانا كانت تعرف أن مازن شيوعي وانه كان مقاوماً، ويعمل سائق تاكسي، وبحاجة إلى عناية صحية دائمة، تمنعه من العمل بشكل مستمر، لذلك كانت تعلم أن عليها العمل للمساهمة في متطلبات المنزل والعائلة. مازن قليل الكلام، "كتومي"، كانت تعرف انه كان شقياً في صغره وانه يتمنى لها ولسهى ووفاء حياة أفضل، وتعرف انه أعطاهم كل ما يملك ولم يبخل عليهم بشيء. مازن أعطى عائلته أغلى وأعظم ما في الدنيا العزة والافتخار، قدم لهم المحبة والدفء الصادق، أعطاهم الوضوح في الرؤية حب الوطن، أعطاهم التسامح. غرس فيهم الدفاع عن الوطن والوقوف بوجه الظلم من أي جهة أتى. ربى فيهم البعد عن الطائفية، علمهم قول الحقيقة مهما كان الثمن.
مازن قاوم، بصمت وصلابة إرادة، المرض الخبيث الذي أصابه، لم يدع المرض يهزمه، من زار مازن في تلك الفترة كان يأخذ قوة الإرادة منه.... وهكذا بقيَّ مازن إلى أن رحل في 18 آب 2022 صامداً شامخاً، تاركاً إرثاً غنياً في المقاومة ودروساً عن كيف يلتحم الانتماء السياسي بالممارسة الثورية، إنه مازن عبود الإنسان - المقاوم المناضل في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني... مازن ناضل من أجل وطن ديمقراطي عَلماني مقاوم، من أجل "وطن حر وشعب سعيد" وكان له فخر إطلاق رصاصة "جمّول" الأولى ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي. إنه مازن عبود الإنسان – المقاوم الذي اتخذ من مقولة الشهيد مهدي عامل "لست مهزوماً ما دمت تقاوم" مبدأً له مارسه قولاً وفعلاً في جميع مراحل حياته.
وهنا نستحضر قصيدة شاعر الثورة الكوبية خيسوس أورتا رويث” (Jesús Orta Ruiz) المهداة إلى شيوعيي العالم:
إذا لم تأتِ لتعطي،
تعطي الوقت،
القلب،
والحياة،
لا تدخل؛
فمن حيث دخلت ستغادر..
إذا جئت رغبةً
بامتيازٍ
أو مكسب،
لا ينبغي أن تكون هنا؛
حيث الجُرح هو أجمل الورود..
هذا المكان يعلّمك
حبّ التّضحية؛
هنا يجب أن تكون،
آخر من يأكل،
وآخر من ينام،
وآخر من يملك،
وأوّل من يموت.
أعدّها رفاق مازن عبود في جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية