الأحد، كانون(۱)/ديسمبر 22، 2024

ليست أزمة مالية، إنّها أزمة الرأسمالية

رأي
العالم اليوم على مفترق طرق. ما كان يبدو ضرباً من الجنون منذ عقدين، صار خطاباً منتشراً على كل لسان اليوم. الرأسمالية في أزمة بنيوية، في دول المركز كما في دول الأطراف. النظام العالمي "الجديد" الذي نشأ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1990، صار عالماً قديماً ينتظر اليوم مراسم طيّ صفحته. الرأسمالية التي اعتُبِرت "نهاية التاريخ" تعيش اليوم خريفَها، واليد الخفية التي اعتبرها "آدم سميث" ناظمةً لتوازنات الاقتصاد والمجتمع في ظل الصراع بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، اتّضح أكثر للناس حول العالم بأنّها يدُ الاستغلال الطبقي الظاهرة، التي تراكم الثروة لدى فئةٍ محدّدة من المجتمع على حساب باقي الطبقات الاجتماعية. ما يشهده لبنان اليوم ليس حدثاً عابراً نتج عن قرارٍ داخلي أو خارجي، أو عن ردة فعل على قرار ظالم. إنّه انفجارٌ حتميّ نتيجة الانعكاسات المدمّرة للسياسات الليبرالية المتبعة منذ عقود، واستفحال الاستغلال الطبقي من خلال آليات الدين العام وخدمته الذي ينال من نصف إيرادات الخزينة التي ندفعها نحن من جيوبنا. آلية ذات هوية طبقية واضحة، تجبي المال العام من عموم الناس، لتعطي نصفه على طبق من ذهب لدائني الدولة، وهم بضعة عشرات العائلات التي تمتلك المصارف ورؤوس الأموال الكبيرة المتحكمة بسياسات الدولة الاقتصادية. تجمع الدولة الأموال من الأكثر حاجةً لتعطيهم إلى كبار الطغمة المالية. هي آلية نهبٍ منظّمة لمراكمة رأس المال، تزيد من تركّزه وتمركزه، لتترك العاملين والأجراء والموظفين والمُعطّلين عن العمل وصغار التجار وذوي الدخل المحدود رهينةَ سيادةِ الهيمنة الطبقية المطلقة عليهم. جهاز الدولة في خدمة رأس المال كما قال لينين في "الدولة والثورة"، وسياساتها مكرّسة لخدمته وتعزيز سيطرته على مفاصل السياسة والاقتصاد، فيما الناس يعملون ليل نهار لتحصيل ما لا يكاد يكفي عيشهم، ولتسديد فاتورة خدمة الدين العام، أي فاتورة خدمة رأس المال اللبناني. لبنان ليس جزيرةً معزولة، والأزمة ليست محصورةً فيه. السمة العامة للرأسمالية اليوم هي سمة الأزمة الكونية. تأخذ أشكالها المختلفة في كل مكان وزمان بحسب الظروف الموضوعية السائدة فيه. انتفاضات الشعوب في العراق والسودان والجزائر وغيرها هي تعابير مختلفة عن أزمة تتشابه في مضمونها. حرّاس رأس المال قد يكونون أركان دولة طائفية أو أركان جيوش مستبدة أو ملكيات تابعة، إذ تتعدّد الأشكال لكنّ المضامين تتلاقى. وفي حين تأخذ ارتدادات الأزمة طابع الانتفاضات الشعبية المطالبة بالتغيير في لبنان والعراق والسودان والبرازيل وإيران والتشيلي وغيرها، تتمظهر الأزمة نفسها بأشكال مختلفة في دول المركز الرأسمالي. ولعلّ أبرز مظاهر التحولات السياسية هناك هو الحالة الشعبية الواسعة التي بات يستقطبها التيار الاشتراكي في بريطانيا والولايات المتحدة بقيادة جيريمي كوربين وبيرني ساندرز اللذين يبنون شعبيتهم الواسعة على وعود العدالة الاجتماعية، بدءاً بتأميم قطاع النقل العام والبريد والطاقة والمياه، وتوسيع التغطية الصحية المجانية وبناء المساكن الشعبية كما هو الحال في برنامج حزب العمال البريطاني، أو بإقرار التغطية الصحية الشاملة وإلغاء ديون الطلاب وجعل التعليم مجانياً بالكامل وتمويل كل ذلك من خلال ضرائب واسعة على ثروة الرأسماليين كما هو برنامج "ساندرز" في ترشحه للرئاسة الأميركية. قبل سنوات، كانت هذه البرامج لتثير موجة من الاستنكار الإعلامي وحتى الشعبي في هذه الدول، مع أنّها برامج ذات مناحٍ اشتراكية ديمقراطية خاصة في حالة "ساندرز"، لكنّها صارت الآن تلقى التفافاً شعبياً متجذّراً ضدّ سياسات رأس المال. وفي حين تعمل الطبقات الحاكمة، وأجهزتها الإعلامية والأمنية على منع فوز أي من هؤلاء، وهي تنجح في ذلك حتى الآن، غير أنّها لا تستطيع أن تغيّر من حقيقة التفافِ تيارٍ شعبيّ واسع خلف الأفكار الاشتراكية ودعوات التغيير في النظم القائمة. لا يتردد "كوربين" و"ساندرز" في طرح الاشتراكية كحل مستقبلي تقدمي لبلدانهم، ولا تتردّد فئات اجتماعية واسعة، خاصة الشباب والطلاب، في تبني هذا الطرح خياراً وحيداً لحلّ الأزمات الاجتماعية المستفحلة. إنّ انتفاضاتِ شعوبِنا العربية وشعوبِ أميركا اللاتينية التي سبقتها وصعودَ التيار الاشتراكي في دول المركز الرأسمالي، أوجهٌ مختلفة للتعبير عن حقيقة واحدة: الرأسمالية في أزمة، وقد وصلت إلى حدودها التاريخية. لقد استوفَتْ مهمتها التاريخية، وظهر جليّاً انحسار أفقها، في ظل التعاظم المتسارع في مستويات اللامساواة بين الأكثر غنىً والأكثر فقراً، وفي ظلّ التناقض القائم بين قوى العدوان والاحتلال والهيمنة والشعوب المنتفضة والقوى الصاعدة. أزمتُنا ليست مالية، ولا نقدية ولا رقمية، وليست مشكلة موظف فاسد أو مشروع جرت سرقته زوراً. أزمتنا بنيوية، في صلب نظامنا الذي يولّد الفساد من بنيته المذهبية واعتماد الزبائنية في إدارة القطاع العام، وفي صلب سياساته الاقتصادية المكرّسة لخدمة المصارف ورؤوس الأموال. أزمتُنا جزءٌ من الأزمة الرأسمالية الشاملة، وحلولها لن تكون إلّا جزءاً من حلول الأزمة الشاملة نفسها. منذ شهرين كان هتافُ "الوطن للعمال تسقط سلطة رأس المال" أشبهَ بصرخةٍ في صحراء ليس فيها من يسمع أو من يجيب. اليوم هذا الشعار يكاد يكون داخل كلّ بيت. اليوم قد يعتبر البعض أنّ تجاوز الرأسمالية، وكسر الهيمنة الامبريالية ضرباً من ضروب الخيال، لكن خلال سنوات معدودة، قد يصير هذا الطرح مطلوباً، الآن وهنا، داخل كل دولة.