الخميس، تشرين(۲)/نوفمبر 14، 2024

الجولان وعقوبات بومبيو وفساد السلطة

عربي دولي
أفضل طريقة للدفاع هي الهجوم، تلك هي القاعدة التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية بعد سلسلة الضربات التي منيت بها في لبنان وسوريا والعراق... فبعد أن أعلن ترامب سحب قواته من سوريا بصورة نهائية، وبدأت بعض الدول العربية تستعد لفتح سفاراتها في دمشق والعمل لعودة سوريا إلى الجامعة العربية، عمدت الإدارة الأميركية إلى التراجع فجأة عن قرارها وأبقت على هذه القوات بضغط صهيوني ورجعي عربي.

وإذا كانت هذه الإدارة في عهد ترامب قد اعتادت تغيير موقفها من القضية الواحدة بين ليلة وضحاها تبعاً لما تقتضيه مصالحها في ظروف متغيّرة، إلا أن هذا الواقع يعكس بوضوح حال التخبط التي تعيشها الإدارة الأميركية، كما يؤشر على عمق تأثير الضربات التي تلقّاها المشروع الأميركي في المنطقة على المستوى الاستراتيجي.
وارتباطاً بتراجع الولايات المتحدة عن قرارها، تراجع أيضاً القيّمون على قرار الجامعة العربية وأعادوا إطلاق هجمتهم في ساحات المنطقة: فالقمة العربية التي ستعقد في تونس أواخر هذا الشهر لن تطرح على جدول أعمالها بند عودة سوريا، كذلك فإن القمة الثلاثية المصرية-الأردنية-العراقية المنعقدة مؤخّراً تجاهلت هي أيضاً هذه العودة. وتنفيذاً لصفقة القرن، أطلق هؤلاء العنان لكل أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني كما تجلّى في مؤتمر وارسو، وعملوا ويعملون على منع عودة النازحين السوريين كما حصل في مؤتمر بروكسل، مؤكدين على مشروعهم الرامي إلى تقسيم سوريا وفدرلة العراق ومواصلة الحرب على اليمن ومحاصرة إيران...
وبالاستناد إلى الخلافات بين الثلاثي تركيا وإيران وروسيا حول عدم حسم موضوع إدلب والشمال الشرقي من سوريا، بادرت الإدارة الأميركية إلى رفع مستوى العقوبات الاقتصادية على سوريا وإيران وروسيا، جاهدة لتجميع أوراقها لمنع الحل السياسي في سوريا في ظل اختلال موازين القوى لغير مصلحتها. فبعد قرار ترامب بإعطاء القدس عاصمة للكيان الصهيوني ونقل سفارته إليها، جاء قراره بضم الجولان السوري المحتل للكيان الصهيوني ليصعد من الهجمة ويضرب القرارات الدولية ذات الصلة، بما فيها القرار 242، ليأخذ بطريقه كل المراهنين على تنفيذ هذه القرارات من دون مقاومة، وتبقى الإدانة والتضامن مع الشعب السوري ومع قواه الوطنية والتقدمية واجب بكل المقاييس مع التأكيد على أهمية الرد على هذا القرار من خلال إطلاق مقاومتها الوطنية والشعبية ولو جاءت متأخرة فهي أفضل من أن لا تأتي أبداً.
هذا بالإضافة إلى وجوب استعداد القوى اليسارية والتقدمية العربية وكل في بلده وعلى المستوى القومي العام للعب الدور المطلوب منها في مواجهة تداعيات هذا القرار الترامبي الذي قرع طبول الحرب على جبهة الجولان -التي ظلّت منذ حرب تشرين محكومة باتفاقية فك الاشتباك- التي إذا ما وقعت لن تبقى محصورة بالجبهة السورية.
ولعلّ الاجتماع العسكري لرؤساء أركان جيوش الدول الثلاث إيران وسوريا والعراق الذي عقد في دمشق، جاء ليحاكي توسّع هذه الحرب المتوقعة وليوجّه رسالة واضحة بأن هذه الحرب التي إذا ما فتحت ضدّ أيّ من هذه الدول الثلاث أو ضدّ المقاومة في لبنان، فإن الردّ سيكون من قبل الجميع وعلى طول الجبهة من جنوب لبنان إلى طهران مروراً بسوريا والعراق.
وإذا كان قرار ضم الجولان السوري المحتل يندرج في إطار الدعم الانتخابي المتبادل بين ترامب ونتنياهو وكورقة أميركية-صهيونية تطرح في المفاوضات اللاحقة، إلا أن هذا القرار يستدعي من جهة أخرى خوض المعركة المطلوبة، وبالاتجاه الصحيح، عبر إعادة إبراز الصراع العربي-الصهيوني إلى الواجهة، وهو الصراع الذي طالما استهدف المشروع الأميركي طمسه وإلغاءه عبر الفتن الطائفية والمذهبية المتنقلة تعزيزاً للانقسامات، حيث لم يعد لدى الإدارة الأميركية من أدوات إرهابية قادرة على المضيّ في تأجيجها داخل سوريا، في حين أن قضية الجولان توحّد السوريين ولا تفرّقهم.
وفي الفترة الأخيرة كان للبنان النصيب الأكبر من رزمة العقوبات والضغوط السياسية والاقتصادية والمالية التي طالت حزب الله عبر القرار البريطاني باعتباره "تنظيماً إرهابيّاً" بجناحيه السياسي والعسكري، إضافة إلى ما حمله المبعوث الفرنسي دوكين من تعليمات وتحذيرات للمسؤولين اللبنانيين من عدم إقرار ما يسمى بإصلاحات سيدر ليخلص إلى تكليف السفير الفرنسي في لبنان للقيام دور المراقب على عمل الحكومة اللبنانية بدل أن يكون هو المراقب من قبل السلطة اللبنانية. وفي ذلك مسّ بسيادة لبنان وخرق الأصول الدبلوماسية، كما أنه مؤشّر فاضح على ما آل إليه وضع الحكم والقوى الحاكمة في لبنان من عجز وفساد.
ثم كرّت السبحة الأميركية مع وصول المبعوثين الأميركيين ديفيد هيل وديفيد ساترفيلد وتوّجت مع زيارة مايك بومبيو، حيث شكلت هذه الزيارات تدخلّاً سافراً في الشؤون اللبنانية الداخلية من خلال التصريحات الفجّة لهؤلاء ومحاولاتهم فرض الإملاءات على لبنان، وممارسة المزيد من الابتزاز والتهديدات العدوانية والضغوط السياسية والاقتصادية عليه. وهو الأمر الذي جرى التحرك لشجبه من قبل الحزب والتحذير من نتائجه عبر الدعوة لتنفيذ الاعتصام أمام السفارة الأميركية في عوكر، لما تحمله هذه الزيارة من تهديد بتفجير الأوضاع الداخلية في لبنان.
إن الضغوط السياسية الأميركية تتمثل أوّلاً بمحاولة فرض تنفيذ صفقة القرن على لبنان عبر توطين الفلسطينيين فيه ومنع حق العودة للاجئين الفلسطينيين خدمة للكيان الصهيوني في تصفية قضيتهم، وثانياً في سحب سلاح حزب الله، وثالثاً في منع عودة النازحين السوريين عودة آمنة إلى سوريا وبالتنسيق مع حكومتها.
أما الضغوط الاقتصادية والمالية على لبنان، فتتمثّل أوّلاً في منعه من المشاركة في إعمار سوريا، وثانياً في فرض ترسيم الحدود البحرية مع الكيان الصهيوني بما يستجيب لمصالح هذا الكيان في نهب ثروتنا النفطية والغازية، وإلا منع لبنان من استخراج النفط والغاز، وثالثاً في ابتزاز لبنان بأموال سيدر وتحميله كل الأعباء المالية المترتبة على إقامة اللاجئين الفلسطينيين بعد أن توقفت الأدارة الأميركية عن دفع الأموال المتوجبة عليها لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) – وعلى إبقاء النازحين السوريين، مستفيدة من مخاطر الأنهيار المالي والأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي أوصلتنا إليها الحكومات المتعاقبة.
كما تندرج هذه الضغوط الأميركية في إطار الصراع الدولي والإقليمي حول موقع لبنان من هذا الصراع في محاولة أميركية، أوّلاً لوقف الاندفاعة اللبنانية نحو روسيا في ملفّي النازحين والتسليح والنفط، حيث أتت زيارة بومبيو إلى لبنان عشية سفر رئيس الجمهورية ميشال عون الى موسكو، وثانياً في إطار التوظيف الداخلي وشد عصب حلفاء أميركا وتشجيعهم على إعادة اصطفافاتهم لتفجير الوضع الداخلي عبر إدارة الأزمة المالية المهددة بالانهيار بالتزامن مع العقوبات على حزب الله لتنعكس الأزمتين معاً سلباً على بيئته وتؤدّي الى إرباكه في الداخل. وهو ما يفسر عدم انخراط حزب الله، لا هو ولا حلفائه الأقربين، في النزول إلى الشارع لا في مواجهة الأزمة المالية، ولا في أيّ تحرّك اعتراضي ضدّ زيارة ترامب خشية تغيير الأولويات.
هكذا تضغط الأمبريالية بالعقوبات الاقتصادية والمالية على الشعب اللبناني، وتضغط معها السلطة السياسية عبر المزيد من الإفقار والفساد ونهب المال العام. فأي فارق بين هذين النوعين من الضغط؟ إن المعركة ضد الأثنين يجب أن تكون معركة واحدة، وتتجسد في تغيير النظام الطائفي المذهبي، نظام المحاصصة والفساد الذي يستند إليه الطرفان: الإمبريالية من الخارج والسلطة السياسية ونظامها الرأسمالي الريعي من الداخل، ولا يمكن الانتصار في مواجهة الامبريالية عبر أنظمتها الرأسمالية التابعة لها .
ومع تداخل كل أشكال الضغوط السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية، لا خيار سوى توسيع مفهوم المقاومة ليشمل كل هذه الجوانب: تحرير القرار السياسي والاقتصادي من التبعية للخارج، ومن النظام السياسي الطائفي والمذهبي ودولته الفاشلة وسلطته الفاسدة من الداخل، وهو ما حاولنا التعبير عنه في مبادرة الحزب المزدوجة في إطلاق الحراك الشعبي حول القضية الاقتصادية-الاجتماعية من جهة وفي الاعتصام ضد زيارة بومبيو في عوكر لما تحمله من شروط سياسية تمس القضية الوطنية في الصميم من جهة اخرى، مؤكدين على تلازم العداء للإمبريالية مع العداء للرأسمالية المحلية وصولاً إلى الانعتاق من أسر التبعية ودمج التحرر الوطني بالتحرر الاجتماعي.
ولا شك في أن المقاومة في مثل هذه الظروف -أيّ مقاومة- لا تجد نفسها تواجه العدو الخارجي فقط، بل هي تصطدم أيضاً بالقوى السياسية والطائفية الداخلية المرتبطة بهذا النمط من الدولة والنظام والاقتصاد، المتعارض مع المصالح الحقيقية لغالبية اللبنانيين. وبذلك، تكون القوى الدينية الممانعة -المستهدفة بمقاومتها- أمام مفترق طرق اليوم، إما أن تواجه الخطرين معاً لإنقاذ مقاومتها بتحويلها إلى حركة تحرر وطني واجتماعي، او أن تبقى مستمرة في تغييب الاستغلال الطبقي والاجتماعي وإخفائه لتجد نفسها بالنهاية تتلاقى موضوعيّاً عند منتصف الطريق مع طبيعة مشاريع تقسيم المنطقة طائفيّاً ومذهبيّاً التي لا تتناقض مع تركيبتها.