الخميس، تشرين(۲)/نوفمبر 14، 2024

السودان تعلّمنا

لبنان
هو عضو اللجنة المركزية، وعضو المكتب السياسي، عضو سكرتاريا اللجنة المركزية، سكرتير الإعلام، والناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي السوداني فتحي الفضل.لم نجد وقتاً لإجراء المقابلة قبل غداء آخر يوم من المؤتمر المتوسطي الرابع لأحزاب اليسار. فهو مشغول بإجراء المقابلات والنقاش مع الناس. هو بشكل ما، كان أبرز وجوه هذا المؤتمر. متمرّس في العمل السياسي ومشاركٌ في المظاهرات الآنية في السودان الرائعة – العنيفة. وهو أيضاً الخارج "طازة" من سجون قمع السلطة ليزور بيروت. قمنا بهذه المقابلة معه، في محاولة لاستخراج صورة أوضح عن مظاهرات السودان، لتقريبنا أكثرحول ما يجري هناك.

تقول إحدى الروايات المتداولة عن المظاهرات في السودان، بأن صبية أرسلت رسالة تستفسر عن صحّة حبيبها، فما كان منه إلّا أن أجابها قائلا "حكومة تحرمني منك... تسقط بس". لطالما قرأنا بأن العاطفة والشغف جزءٌ لا يتجزّء من المقاومة والثورة والانتفاضات. والسودان تعلّمنا ذلك، كلّ يوم.

كيف بدأت المظاهرات؟
بدأت في مدينة اسمها "عطبرة"، وهي مدينة العمّال، مدينة الحديد والنار. أخبرني أحد الرفاق من هناك تفاصيل البداية. كانوا بضعة مئات يمشون في الشارع، وفجأةً انطلق نداءٌ لا يُعرف مصدره "خبز، خبز، خبز". ثم تحوّل إلى مظاهرة لمئة ألف عامل. وقد كانت هذه أضخم وأقوى المظاهرات، فاحتلّوا مراكز الشرطة، وأحرقوا مقرّات الحزب الحاكم. ثم انتقلت المظاهرات إلى باقي المدن.
وعلى عكس الانتفاضات السابقة، هذه المظاهرات بدأت خارج العاصمة. بل هي بدأت في شمال شرق السودان، وامتدّت نحو شمال وشرق وغرب السودان. حتى أنها بدأت في 19 كانون الأول/ ديسمبرعام 2018، ولم تصل إلى العاصمة حتى الخامس والعشرين منه.
بالطبع لا يمكننا القول بأنها ظهرت فجأة أو بأنها كانت منظّمة، لكنّها جاءت نتيجة تراكمٍ بدأ منذ حراكات كانون الثاني/ يناير عام 2018 التي كان الحزب الشيوعي السوداني قد دعا إليها.

لماذا بدأ الحراك الآن؟
تم أخذ القرار في الحزب الشيوعي السوداني. نزل 51 عضواً من أعضاء اللجنة المركزية في الحزب إلى فروعه بعد كانون الثاني/ ينايرعام 2018. وقد كان لهذا القرار أثر في تكوين لجان المقاومة الشعبية في المناطق. وقد كان ذلك ممكناً إذ أن هؤلاء الأعضاء كانوا يعملون على تقديم تقارير شهرية حول ما يجري في المناطق والفروع، وبناء التحالفات، ودعم الحركة الطلابية الديمقراطية والاتحادات العمالية وإعادة بناء الاتحاد النسائي، ممّا أسّس صورةً واضحة عن الوضع القائم.
في حزيران/ يونيو عام 2018، وخلال اجتماع للجنة المركزية، تمّت مناقشة الوضع العام وخلص إلى استنتاج يقول بأن الوضع العام يتّجه نحو مرحلة نضج. لذلك تم الاتفاق على تكوين جبهة عريضة من القاعدة. لذا فنحن نرى اليوم حركة جماهيرية تتصاعد، لأن القرار جاء من القيادات الميدانية، من الشارع، وهو الضمان الوحيد لاستمرار التحركات. اليوم المركز ليس في القمّة، بل هو في القاعدة.
من ناحية أخرى مثلاً، هناك أحزاب وسطية معارضة تفاجأت بالحراك، لأن موقفها السياسي وتركيبتها جعلها تستجيب للضغوطات الآتية من الخارج، وهي تعتمد بعامة على المجتمع الدولي من أجل التغيير. لكن الحراك دفعها لإلغاء اتفاقياتها وصفقاتها. اليوم الجماهير هي التي حسمت الموقف، فمكّنت من تشكيل جبهة واسعة.

ما الذي كسر حاجز الخوف عند الناس؟
العمل القاعدي، التصاق القيادة بالقاعدة. تقليديّاً، كانت القيادة السياسية في السودان تصدر الأوامر. لكن اليوم مثلاً، محمد مختار الخطيب، السكرتير العام للحزب، معتقل مرّتين من قلب المظاهرة.

لماذا كان قرار القيادة بالنزول إلى الشارع؟
كنوع من التحدي، لكنه أيضاً نتيجة دراستنا للديكتاتوريات التي مرّت على السودان وما جرى في مصر وتونس. هي أربع تجارب التقت على شيء واحد: القيادة لم تكن في الشارع. ثم درسنا تجارب أخرى، كالانتفاضة الأولى وفييتنام، لنتعلّم دروساً أخرى.

ما هي التحديات التي تواجهكم؟
العنف المفرط من قبل السلطة ومحاولتها لاستدراج الجماهير للردّ، ممّا خلق حاجة لضبط الحراك الجماهيري الواسع منعاً للاستنزاف. ففي أماكن معيّنة، اعتقلت الجماهير أعضاء من قوى الأمن. في بُرّي مثلاً، وهي منطقة في العاصمة معروفة كمعقل للقوى الاشتراكية وهي منطقة تمتاز بأنها عنيفة جداً في مظاهراتها، جاءت قوّة من ميليشيات الأمن واستفزّت الناس، فوقفنا بينها وبين الناس وطالبنا أهل بُرّي بعدم الخروج إلى الشارع. مرّت الحادثة على خير، ثم بعد يومين، خرجت بُرّي عن بكرة أبيها كردّة فعل على الاستفزاز، حاملةً شعار "نحن أبناء بُرّي نتحدّى الأمن."
هناك أيضاً دعاية قوية جداً معادية للحزب، وبشكل أساسي من قناة الجزيرة، ومن المؤسسات الإعلامية المصرية. لكننا موجودون في الساحة منذ سنين طويلة، ومن حمانا ويحمينا اليوم هو الجماهير، فليس لدينا شيءٌ نخسره.
كما حاولت بعض أشكال المعارضة من خارج السودان تنظيم مؤتمر خارج السودان، لكننا رفضنا، لأننا نريد أن نبقى هنا وننظّم مع شعبنا.

الحجج الأساسية التي تستخدم ضدّنا هي أوّلاً في التخويف من التأميم، وثانياً في المقارنة مع أمثلة مثل فنزويلا (تلعب قناة الجزيرة كثيراً على هذه الحجّة)، وثالثاً الإلحاد. لكن الأخيرة انتهت تقريباً. حتى أن بعض الأئمّة مثلاً يتكلّمون عن المسلمين الشيوعيين في خطبات الجمعة. وهذه أول مرّة يتحدّث فيها الأئمّة عن دور الشيوعيين وعملهم. وهذا بسبب تلاحمنا مع القاعدة ووجودنا في كل التحركات.

"الثورة خيار الشعب" يهتف المتظاهرات والمتظاهرون في المدن السودانية.
"نحن مرقنا مرقنا مرقنا (خرجنا) ، ضد الناس اللي سرقوا عرقنا"، يصرخون جرّاء معاناتهم ومعاناة كل الشعوب المقموعة المنهوبة. لكن أكثر الشعارات التي لفتتنا كانت "الطلقة ما بتقتل بقتل سُكات الزول (الناس)"، عن ذلك المجتمع الذي يغمض عينيه عن معاناته ومعاناة غيره، عن المجتمع الذي يقول للأفراد "قبّعوا شوككم بأيديكم". وهو يشبه ما يجري عندنا، إن على مستوى الأزمة البيئية، أو الأزمة الاقتصادية الاجتماعية أو السياسية عامّة.

نسمع الفضل يخبرنا عن نزول اللجنة المركزية إلى القواعد، ونتساءل ألّا يجب أن نقوم بذلك أيضاً في لبنان! علينا العودة مجدّداً إلى الشارع، بكامل ثقل الحزب الشيوعي الذي لم ولن يجد حلفاء له إلّا بين الناس.
كانت المقابلة سريعة، ومقتضبة، أردناها أطول. كان يتكلّم ونحن نكتب بسرعة لنستطيع اللحاق بما يقول لاستيعاب هذه التجربة. نسمع ونريد أن نعرف أكثر، عن سياسات الحكومة والتقشّف المفروض عليهم من البنك الدولي. نتشابه كلنّا، في بلدان الجنوب، في القهر والقمع والاستغلال، وسنتشابه يوماً بالمقاومة.