...آفة الفساد والإحتماء بالنظام الطائفي
وإذا كانت لوثة الفساد، نقيضاً لسُلّم القيم والأخلاق الفردية والعامة، فإنها تنتج مفاهيمَ مناقضة تماماً للقيم والسلوك السليم في المجتمع، وتحتوي على بعد سياسي، واعتبار ان مكانة الإنسان في مجتمعه، تتعلق بما يمتلكه من ثروة ومال، بمعزل عن وسيلة امتلاكها. وهذا ما يبرّر ويدفع إلى استخدام كلّ الوسائل، كالفساد والسطو والغشّ والنفاق لجمع المال، والبعض يسمّون ذلك شطارة. أوَليس هذا ما يلاحظه الناس، كظاهرة ملازمة لنظام الاستغلال والطائفية الذي يراكم الأرباح والثروات في أيدي القلة، ويمعن في إفقار أكثرية شعبنا من عمال ومزارعين ومستخدمين وصغار الكسبة؟
والمعلوم أن المال الذي تجبيه الدولة، وكلّ مداخيل الخزينة، ليس ملكاً خاصاً للدولة وسلطتها. فدورها هو إدارة إنفاق هذا المال وفقاً للحاجات الإجتماعية والوطنية والبلاد، من الضمانات الصحية والتعليمية والسكنية، إلى إيجاد فرص العمل وتنمية الاقتصاد المنتج، وحماية الوطن، وتأمين الخدمات العامة مثل الكهرباء والمياه والطرقات والنقل الخ.. . وان المداخيل والنفقات بكلّ وجوهها، يجب ان تكون شفافة ومكشوفة كلياً أمام الشعب، والقضاء ، والهيئات الرقابية الرسمية. وللبرلمان دور خاص ومباشر في الرقابة الفعلية والمحاسبة الجدية للحكومة. لكن المعضلة هي في أن الطبيعة الطائفية للنظام وتحاصصاته وقانونه الانتخابي، يأتي بنواب يمثلون طوائفهم ومذاهبهم، وليس اللبنانيين كشعب ومجتمع ووطن. وتحت عنوان الحفاظ على العيش المشترك، تتشكّل الحكومات على أساس تمثيل الطوائف والمذاهب، لتأمين الوحدة الداخلية. فتعكس مكوّناتها، نفس المكوّنات الطائفية والسياسية للمجلس النيابي. فتغيب هنا إمكانية المحاسبة، ويتعطل دور أساسي للبرلمان. فهل يراقب المجلس ويحاسب نفسه؟ ولا يقتصر تعطيل المحاسبة على دور المجلس النيابي فقط، بل ينجم ايضاً من تلطّي الفاسد بمذهبه وطائفته. فطبيعة النظام الطائفي، تعتبر الفرد ابن مذهب او رعية وليس كمواطن، ممّا يجعل أمر محاسبته، وكأنه تجنّياً على مذهبه أو مساساً به. ويتجنّد كتبة وسياسيون وأحياناً مواقع دينية، لحمايته ومنع تحويله إلى المساءلة والمحاسبة، "حرصاً على كرامة المذهب والطائفة" أليس هذا ما جرى قبلاً، ويجري اليوم مع طرح قضية الـ... 11 مليار دولار الضائعة، ولا وجود لوثائق وايصالات تحدّد كيف أُنفقت ؟ وهل يوجد فساد وسرقة، بلا فاسدين وسارقين؟
لا شك في ان المحاسبة ومكافحة الفساد، هو أمر ضروري جداً، وحاجة وطنية واجتماعية، خصوصاً وان الفساد هو أحد الأسباب الأساسية، في عجز الخزينة، وتصاعد المديونية التي تجاوزت مئة مليار دولار، وللتراجع المخيف في الوضع الاقتصادي والمالي والمعيشي الذي يهدّد بالأسوأ. لذلك فمع ضرورة التشدّد في محاسبة الفاسدين واسترجاع المال المسروق إلى خزينة الدولة، ينبغي الاقلاع عن ما يدور في رؤوس بعض المسؤولين من أفكار بفرض ضرائب ورسوم على الشعب وفقرائه، الذين لا يستطيعون تحمّلها. ولا بد من اعتماد توجّهٍ أساسي جديد ، إذا ارادت السلطة قطع دابر الفساد، يقضي بإزالة الأساس الطائفي للنظام السياسي القائم. ففساد الزعامات السياسية الطائفية، يرتبط بفساد هذا النظام التحاصصي الطائفي نفسه، وحمايته للفاسدين. فهو الذي أبقى على دولة المزارع والمذاهب والفساد، بدلاً من قيام دولة القانون والمؤسسات والمواطنة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
إن أي تراجع عن محاسبة الفاسدين ومكافحة الفساد والهدر في جميع مستويات ومرافق الدولة، يسرّع في الوصول إلى الانهيار الاقتصادي، ويفقد ما تبقى من أمل حيال العهد. ويجعل الإكثار من الكلام والتصريحات عن مكافحة الفساد، أشبه بالقول الشعبي المأثور "جعجعة بلا طحين".