الخميس، تشرين(۲)/نوفمبر 14، 2024

التراكم التاريخي لانتفاضة ١٧ أكتوبر

لبنان
لم يكن الوصول إلى انتفاضة ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر سهلاً بل سبقه مئات الحملات والتحركات بعناوين سياسية ومطلبية واجتماعية عديدة إلى أن تفجّر الغضب الشعبي في لحظة تاريخية. سيتطرق المقال إلى مراحل زمنية عدّة كان لها تأثير إيجابي على مستوى زيادة الوعي السياسي والطبقي لدى المواطنين وزيادة مستوى انخراطهم في الحياة العامة. أولاً: مرحلة التسعينيات – الحقوق المدنية تتصدّر إنّ إحدى النتائج السلبية للحرب الأهلية تمثّلت في وجود آلاف المخطوفين والمفقودين حيث لم تسعَ الدولة ومنذ تاريخ انتهاء الحرب إلى معالجة هذا الموضوع بجدية وبخاصةً بعد صدور قانون العفو العام. في خضمّ الحرب الأهلية (١٩٨٢) تأسّست لجنة أهالي المخطوفين في لبنان، وتلاها عام ١٩٩٠ تأسيس لجنة دعم اللبنانيين المعتقلين (تُعرَف باسم سوليد). نجحت اللجنة في ممارسة أشكال مختلفة من الضغط على صنّاع القرار، وكان عام ١٩٩٩ مفصليّاً لها، إذ تمّ إنشاء حملة "حقنا نعرف" وهي هيئة مدنية لدعم لجنة الأهالي وحضنها. بدأت الحملة بتنظيم اعتصامات بشكل أسبوعي قرب مقر مجلس الوزراء كمحاولة للضغط على السلطات لمعرفة مصير المخطوفين والمفقودين. فور انتهاء الحرب ودخول البلد في مرحلة السلم الأهلي، كان لا يزال عند السلطة السياسية خوف كبير من تنظيم الانتخابات البلدية، فكان من المفترض أن تتمّ الانتخابات البلدية فور تنظيم أوّل انتخابات تشريعية، أي عام ١٩٩٢. في أواخر العام 1997، أطلقت حملة "بلدي بلدتي بلديتي" بمبادرة من الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، بالإضافة إلى منظمات شبابية وناشطين في الحقل العام وأكاديميين. الهدف الأساسي للحملة كان الضغط على السلطات اللبنانية لإجراء أول انتخابات محلّية في لبنان منذ العام 1963. عملت الحملة على تنظيم عشرات المحاضرات والحلقات التثقيفية والاعتصامات واستطاع منظمو الحملة جمعَ تواقيع مئة ألف مواطن. كان للحملة دورٌ أساسي في دفع الطبقة السياسية لتنظيم الانتخابات البلدية عام ١٩٩٨.خلال هذا العام أيضاً، بادر اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني إلى جانب قوى ومنظمات شبابية أخرى إلى إطلاق الحملة الوطنية لخفض سنّ الاقتراع إلى ١٨ عاماً. مارست الحملة أنواع عديدة من أساليب الضغط الشعبي من تنظيم لقاءات وتوزيع مناشير والضغط على صنّاع القرار باتجاه تعديل الدستور. ولعلّ أبرز تلك الأساليب كان جمع تواقيع ٨٩ نائباً في المجلس النيابي ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة مؤيدة لهذا الحق. توّجَت الحملة تحركها خلال انتخابات العام ٢٠٠٠ حيث عمدت إلى وضع صناديق موازية لصناديق الاقتراع في مختلف المحافظات بهدف تحشيد الرأي العام للمطالبة بهذا الحقّ. ثانياً: فترة ٢٠٠٠- ٢٠٠٥: مطالب معيشية بالمفرّقكنتيجة مباشرة لسياسات الحكومات النيو-ليبرالية التي ترأسها الحريري، بدأت نتائج هذه السياسات بالتأثير على قطاعات واسعة من الشعب اللبناني وبالأخص الطبقة الفقيرة. عام ٢٠٠١، أقرّت الحكومة الضريبة على القيمة المضافة TVA فزادت أسعار جميع السلع والمنتوجات. في شباط ٢٠٠٢، بادر الحزب الشيوعي اللبناني والاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين إلى تنظيم مظاهرة ضخمة ضمّت آلاف المواطنين تنديداً بهذه الضريبة وبالسياسات الاقتصادية المتبعة من الحكومة آنذاك. عام ٢٠٠٤ وكنتيجة لزيادة أسعار البنزين نزل مواطنون يقطنون في منطقة حي السلم – إحدى مناطق الضاحية الجنوبية - ليحتجّوا على هذه الزيادة إلّا أن الجيش والقوى الأمنية قمعت هذه المظاهرة وأطلقت الرصاص على المتظاهرين مما أدّى إلى استشهاد 6 مواطنين وجرح 20 آخرين. خلال هذا العام أيضاً، نظّمت نقابات النقل البري اعتصامات احتجاجاً على زيادة أسعار المحروقات مطالبين الحكومة بتثبيت سعر الوقود. ثالثاً: حراك إسقاط النظام الطائفي (٢٠١١)أواخر عام ٢٠١٠، اندلعت الانتفاضات العربية بعد أن أضرم محمد بو عزيزي النار في جسده فحدثت انتفاضات في أكثر من بلد عربي مما ولّد ديناميات سياسية جديدة. في هذا السياق، تداعت في 27 شباط 2011 تيارات مدنية ومجموعات شبابية إلى تظاهرة انطلقت من الشياح ــ عين الرمانة وهو المكان الذي شهد بداية الحرب الأهلية. كرّت سبحة المظاهرات من بعدها فكان يوم الأحد موعداً أسبوعياً لمظاهرات اخترقت الأحياء الشعبية في بيروت رافعة الشعار الذي بات على كل لسان مواطن عربي "الشعب يريد إسقاط النظام". رفع المشاركون في هذه التحركات لافتات طالبت بدولة مدنية وقضاء عادل وقانون انتخاب نسبي وتأمين كافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، إلّا أن وهج الحراك قد انطفأ بعد قرابة الثلاثة أشهر على انطلاقته. رابعاً: معركة سلسلة الرتب والرواتب (٢٠١٢- ٢٠١٤)عام ٢٠٠٨ تم تأسيس "هيئة التنسيق النقابية" كإطار نقابي ضمّ روابط الأساتذة والمعلمين في التعليم الرسمي ورابطة موظفي الإدارة العامة. خاضت الهيئة ومنذ تأسيسها معركة لرفع الأجور المجمدة منذ العام ١٩٩٧. عام ٢٠١١ رفعت الحكومة الحدّ الأدنى للأجور ليصل إلى ٦٧٥ ألف ليرة (ما يوازي ٤٥٠ دولاراً في الشهر). وبعد هذه الزيادة، طالب الأساتذة والمعلّمون وموظفو القطاع العام برفع رواتبهم وبدأ الضغط في الشارع لإقرار سلسلة الرتب والرواتب. استطاعت حينها هيئة التنسيق النقابية حشدَ عشرات آلاف الأساتذة والموظفين في ظاهرة لم يشهدها لبنان إذ توحّدت قواعد الأساتذة والموظفين متخطّين بذلك الانقسامات الطائفية والمذهبية في ما بينهم. كما أعلن موظفو القطاع العام الاضراب المفتوح وكان الأول من نوعه منذ انتهاء الحرب الأهلية. بين هذين العامين أيضاً، برزت تحركات قطاعية ونقابية عديدة كان أهمها إضراب مياومي مؤسسة كهرباء لبنان وإضراب عمال "سبينيس". خامساً: الحراك الشعبي (٢٠١٥)كنتيجة مباشرة لإقفال مطمر الناعمة وعدم إيجاد الدولة لحلول مناسبة لمعالجة النفايات المستخرجة من بيروت وجبل لبنان، تكدّست كميات كبيرة من النفايات في شوارع العاصمة مما أدّى إلى سخط شعبي واسع وظهر للمواطنين بشكل جلي عدم جدية السلطة بمعالجة هذا الموضوع. فكان أن أقيمت تظاهرات واعتصامات في الناعمة وبرجا وبيروت خلال تموز ٢٠١٥. في ٢٢ آب، نظّمت قوى ومجموعات الحراك المدني اعتصاماً في ساحة رياض الصلح تحوّل إلى حشد شعبي غير مسبوق لتنهال القوى الأمنية من بعدها على المتظاهرين بالضرب مستخدمةً شتّى أساليب القمع وصلت إلى حدِّ إطلاق الرصاص المطاطي والحي، فوقع العديد من الجرحى آنذاك. ذروة هذا الحراك كانت في ٢٩ آب حيث امتلأت ساحة الشهداء بآلاف المتظاهرين. وحّدَ هذا الحراك اللبنانيين بعناوين مطلبية وبيئية واضحة لكن سرعان ما خفّ وهجه بسبب عدد من العوامل الذاتية والموضوعية، إلاّ أن هذا الحراك خلق فضاءً عاماً للعمل السياسي وكسر الكثير من التابوهات كما قدّم حلولاً علميةً لكيفية معالجة مشكلة النفايات ودفع بالمشاركين فيه إلى التأثير على مستوى عملية صنع القرار وزاد من الرقابة الشعبية على سياسات الحكومة، وبالأخص البيئية منها. في الطريق إلى ١٧ أكتوبرالثلاثاء في ١٥ تشرين الأول/ أكتوبر، اندلع ما مجموعه ١٠٣ حرائق في مناطق مختلفة في لبنان. وكالعادة كانت الدولة مقصرّة تجاه كارثة طبيعية بهذا الحجم. وزاد الطين بِلّة أن الطوافات الثلاث التي استقدمتها السلطات الرسمية لإطفاء هذه الحرائق جميعها خارج الخدمة ولم تخضع للصيانة اللازمة منذ تاريخ جلبها عام ٢٠٠٩. ولّد هذا الامر استياءً شعبياً واسعاً أدّى بالمواطنين إلى إنشاء مجموعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمساعدة الأهالي المتضرّرين من الحرائق. زاد منسوب التضامن الإنساني وأدرك اللبنانيون حينها أن عدوّهم الأساسي هو السلطة السياسية بكلّ مكوّناتها. ويوم الأربعاء في ١٦ تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمع مجلس الوزراء للبحث في تأمين واردات للدولة لموازنة العام ٢٠٢٠ والتي كانت حينها قيد التحضير. اقترح وزير الاتصالات، محمد شقير، فرض ضريبة قُدّرت بـ ٢٠ سنتاً على كل اتصال يومي على تطبيق "الواتساب"، أي ما يعادل ستة دولارات شهرياً، ووافق على هذا الاقتراح مجلس الوزراء مجتمعاً. كان هذا الأمر كافياً لأن تندلع ثورة الفقراء في لبنان وسرعان ما عمّت الانتفاضة الشعبية كل لبنان تتويجاً لمسار طويل من المواجهة مع طبقة سياسية أخذت البلد باتجاه الانهيار، وأحدثت فيه فقراً وبطالةً وهجرةً وتفاوتاً في توزيع الدخل والثروة.