الإثنين، كانون(۱)/ديسمبر 23، 2024

النزوح الإضطراري

  غدي صالح
لبنان
 قسمٌ كبير من المدارس اللبنانية من المتوقع أن تقفل أبوابها أو تخفّض عدد الأساتذة العاملين لديها. فالأزمة الإقتصادية ألقت بنتائجها السلبية على المواطنين و من ثم أتى وباء كورونا بالضربة القاضية. فالنسبة الأكبر من الأهالي غير قادرة على سداد الأقساط المرتفعة في المدارس الخاصة، وبناءً على دراسات قانونية ومالية وتربوية، وضعها اتحاد لجان الأهالي وأولوياء الأمور في المدارس الخاصة، فإنّ إعادة وضع موازنات المدارس، بصورةٍ تقشفية لا سيمّا ما يتعلق بالنفقات التشغيلية، سيؤدّي تلقائيًا إلى تخفيض الأقساط بحدود 40 في المئة، تغطي رواتب الأساتذة كاملة وباقي النفقات.

المفاجأة كانت يوم الجمعة 15 أيار، إذ انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي لائحةٍ مجهولة المصدر بأسماء عشر مدارس خاصة أبلغت المعلمين الإقفال النهائي لأبوابها العام المقبل، وبـ25 مدرسة أخرى متعثرّة لا تدفع رواتب أساتذتها منذ عدة أشهر. إنّ الأزمة الإقتصادية وعدم القدرة على سداد الأقساط يفرض على أولياء الأمور نقل أولادهم إلى التعليم الرسمي. وتفيد التوقعات بهذا الشأن بنزوح طلابي من المدارس الخاصة إلى الرسمية بعدد لا يقل عن 100ألف تلميذ تقريباً، وهنا يأتي دور وزارة التربية بتجهيز المدارس الرسمية للعام المقبل. فهل يمكن أن تسوعب المدارس الخاصة هذا العدد الكبير؟ وماذا عن جهوزيتها؟ الجدير ذكره أنّ المدارس الرسمية تستقبل الطلاب السوريين النازحين في فترة ما بعد الظهر ما يرتّب عليها أعباءً أخرى أيضاً.

الواقع الرسمي الصعب

تنعكس الأزمات الاقتصادية سلباً في أي بلد على معظم القطاعات العاملة، وتختلف الانعكاسات من قطاع إلى آخر، كما نسبة التأثير على الاقتصاد في المدى البعيد. أوّل القطاعات التي يبقى تأثيرها السلبي طويلاً على الاقتصاد هو التعليم، ومنها التعليم العالي لكون مخرجاته من الطاقات البشرية المميزة إلى الأبحاث المهمة لتطوير القطاعات المختلفة هي التي تساهم في النهضة الاقتصادية والاجتماعية في المديين القريب والبعيد. إنّ تطوير المدارس الرسمية أمرٌ صعب بلا أدنى شك فقد طرح وزير التربية طارق المجذوب على مجلس النواب إمكان الإستثناء في هذا العام الدراسي، عندها يمكن تحسين نوعية التعليم مع أساتذة تخضع لدورات إعداد بعد دخولهم إلى كلية التربية، وهذا يساعد على إدخال طاقم تعليمي جديد على التعليم الرسمي. ولكن نظرة سريعة الى ميزانية وزارة التربية، فهي تشمل بقسم كبير منها على الرواتب والأجور ونتيجة ذلك فهي تضيّق الطريق أمام التطوير في ظل تكاثر للمشاريع والتجهيزات للعام المقبل وعمليات ترميم للمدارس الرسمية. ينبغي الاعتناء بالقطاع التربوي الرسميّ ،لانّه يضمّ 25%من الطلاب في لبنان.

النزوح من الخاص إلى الرسميّ

النزوح الطلابي إلى المدارس الرسمية بدأ عام 2019 ،بحسب مدير التعليم الإبتدائي في وزارة التربية جورج حداد فإنّ حركة النزوح الطلابي مفاجئ، فهي بمعدل حوالي 22400 طالب في المرحلة الإبتدائية و أكثر من 16700 طالب في المرحلة الثانوية. نسبة الإنتقال في المرحلة الثانوية تعتبر شبه طبيعية فالبعض يعتبر مستوى التعليم الثانوي في المدرسة الرسمية أعلى من مستوى المدارس الخاصة نظراً لنتائج الطلاب في الصفوف الثانوية في الرسمي، أما نسبة الإنتقال في المرحلة الإبتدائية فهي نظرا للأوضاع الإقتصادية الصعبة، إذ يواجه السنة حوالي 750 ألف طالب لبناني و 60 ألف مدرسٍ في المدارس الخاصة مصيراً مجهولاً مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، التي زادت من حدتها إجراءات التعطيل القسري لمنع انتشار فيروس كورونا.

وفي حين يشكوا الأهالي من أنّ المدارس الخاصة تطالبهم بدفع الأقساط كاملةً، تحت طائلة عدم تسجيل أبنائهم للعام الدراسي المقبل، مع أنهم سددّوا قسطين من أصل ثلاثة، تؤكد إدارات غالبية المدارس على عجزها عن الاستمرار في العمل ما لم تبادر الدولة إلى دعمها. في هذا الاطار، أقدمت بعض العائلات إلى نقل أولادها من المدرسة الخاصة إلى المدرسة الرسمية نتيجة ارتفاع ضخم بتكاليف التعليم في المدارس الخاصة في لبنان ما جعل الكثير من العائلات اللبنانية تلجأ للاستدانة بالفترة الأولى لسدّ الأقساط وقام البعض الآخر ببيع ممتلكات كانت بحوزتهم وذلك كي يتمكّن التلامذة بتكملة السنة الدراسية وفي مسعىّ منهم لتخفيف الأعباء. وبحسب التقرير السنوي لوزارة التربية، تراجع عدد الطلاب في المدارس الخاصة مقابل ارتفاع طفيف في المدارس الرسمية بحوالي 15 ألف طالب بين سنوات 2017 و2019، ما يظهر ارتفاعاً بنسبة 5.6% من الطلاب في المدارس الرسمية. وبحسب الجداول الأولية لإحصاءات التعليم العام ما قبل الجامعي التي نشرها، أخيراً، المركز التربوي للبحوث والإنماء توزّعوا التلامذة على قطاعات التعليم كالآتي: رسمي 334 ألفاً و536 تلميذاً بنسبة 31.07%، خاص غير مجاني 565 ألفاً و593 بنسبة 52.51%، مجاني 140 ألفاً و312 تلميذاً أي ما نسبته 13.03 %.

أين تكمن المشكلة؟

المشكلة الاساس اليوم لا تكمن في عدد المباني فقط، فالتمويل و الإهمال كانا يقفان عائقاً أمام توفير المبنى اللائق للمدرسة الرسمية. واستمرت السياسة العرجاء في بناء مدارس جديدة ومجهزة في مناطق عديدة في لبنان وهي كلها تستحق الأبنية الجديدة واللائقة والمعلم الجيد والمدير القيادي، والملاعب الرياضية والمختبرات وقاعات الموسيقى والرسم والمعلوماتية، والمسرح وغيرها الكثير، لكن ما كان يتمّ فعلياً لم يكن منصفاً لمناطق كثيرة ومنها مناطق جبل لبنان والشمال التي غاب عنها الإهتمام وغرقت في الحرمان فيما أصبحت مناطق أخرى تعاني من فائض المدارس الرسمية الحديثة والتي لا تجد ما يكفي من التلامذة لفتح صفين في هذه المدارس. بالاضافة الى ذلك، تبرز مشاكل تتعلّق بالكادر التعليمي وخاصةً في المرحلة الإبتدائية، فنجد تناقص تدريجي في الطاقة البشرية، لذلك ينبغي اعداد دراسة لتحديد حاجات المدارس الرسمية للعام المقبل وتحديد القدر الإستعابية وفق حاجة المناطق وأعداد الطلاب في الاقضية.


تكاليف المدارس الخاصة و الرسمية

ما يمكن ملاحظته بداية من الأرقام الرسمية التي ترد سنوياً في النشرة الإحصائية التي يصدرها المركز التربوي للبحوث والإنماء هو تراجع وزن التعليم الرسمي العام بالمقارنة مع التعليم الخاص. وبالطبع لا يشمل هذا الوضع العام الدراسي الجاري الذي قد تكون له أحكامه المختلفة عن الأعوام السابقة. لكن ما يمكن الوصول إليه بسهولة من خلال مقارنة الأرقام التي وردت في الأعوام الثلاثة الأخيرة مع ما كانت عليه، هو تدني نسبة الإقبال على التعليم الحكومي العام من قرابة أربعين في المائة إلى ما دون الثلاثين في المائة في العام الدراسي 2014-2015 من إجمالي عدد التلاميذ. مقابل ذلك، ارتفع حجم الإقبال على التعليم الخاص بشقيه المجاني وغير المجاني إلى أكثر من 70 في المائة، وهي نسبة تعادل أكثر من ثلثي عدد التلاميذ إذ يبلغ عدد الطلاب في المدارس الرسمية في لبنان 328,040، أي ما يشكل نسبة 30.7% من إجمالي الطلاب في مرحلة التعليم العام ما قبل الجامعي. وفي الارقام، يتوزع الطلاب على 1,256 مدرسة، يبلغ مجموع عدد الأساتذة 43532 منهم 20,908 في الملاك و 20,739 متعاقد و885 يتولون تدريس مادة الدين. وهؤلاء الاساتذة يتقاضون منحاً عن أولادهم أسوة بسائر العاملين في الدولة تتراوح في المدارس الخاصة ما بين 2.040 مليون ليرة، و3.430 مليون ليرة لكل فرد.
وتصل كلفة هذه المنح المدرسية إلى نحو 80 مليار ليرة سنوياً .إنّ إصلاح المدرسة الرسمية يتطلّب الاعتناء بالكادر البشري والاكاديمي للأساتذة وتطوير مهاراتهم باستمرار وتحسين جودة البرامج التعليمية والغاء المنح المدرسية لتفعيل عمل وإنتاجية المدرسة الرسمية لانّ المنح المدرسية المعطاة لابناء أساتذة التعليم الرسمي تعزّز التعليم الخاص وتدفع بالاهل لتسجيل أبنائهم في القطاع الخاص وليس الرسمي.

المدرسة الرسمية مدخلاً لتعزيز المواطنية

الضمانات الحقيقية للممارسة الوطنية السليمة تتمثّل في مدى تشرّب أفراد المجتمع لقيم المواطنية الحقيقية منذ الصغر والتدريب على ممارستها عملياً في مختلف المؤسسات والوسائط التربوية حسب طبيعة المرحلة التعليمية التي يمر بها الفرد. وبحكم ما للتعليم من أهمية وصلة مباشرة بطرق التنشئة الإجتماعية والثقافية والسياسية وبتشكيل الحسّ الوطني لدى كل تلميذ مدرسي وطالب جامعي، فيمكن القول أن عملية إعادة بناء المواطن وبالتالي المجتمع والدولة وإعادة تحقيق وحدة الولاء للوطن تبدأ في المدرسة والجامعة.

نادراً ما يتسنّى للبنانيين التفكير والبحث في سبل بناء دولة المواطنة في ظل مشاكلهم الأمنية والسياسية. وتلك الثقافة لا تتحقّق إلا من خلال نظام تعليم تربوي تعليمي يعزّز مبادئ المواطنية والمسؤولية العامة. لكن في لبنان الطبقة السياسية الحاكمة تنظر الى قطاع التربية باعتباره وسيلة لخدمة المصالح الإنتخابية والسياسية وهذا ما يؤدي إلى تهميش قطاع التربية وتسرّب مظاهر الفساد اليه.

في حقيقة الامر، يفتقد لبنان وجود مدارس رسمية إبتدائية ذات مستوى مقبول. وبسبب ذلك، يُضطر الأهل إلى تعليم أطفالهم في المدارس الخاصة ويتحمّلون الأقساط العالية. وإذا كان التعليم الرسمي يُعتبر الأساس لتوحيد المجتمع، بما أنّه لا يميّز بين الطوائف والطبقات الإجتماعية في معظم الدول التي تولي اهتمامها لهذا القطاع، ففي لبنان يُعتبر التعليم الرسمي المؤشر الأول لصعوبة التوحيد ووجود عقبات كبرى أمام تغيير الحال الإنقسامية الموجودة حالياً. في حين أنّ تطوير هذا القطاع بالتحديد يؤدي إلى التعليم الوطني المطلوب لأنّ المدارس الرسمية من المفترض أن تكون غير طائفية وغير طبقية وهي القادرة على توحيد المجتمع اللبناني، فأنّ التعليم الرسمي يمرّ في أصعب المراحل وهو يجد صعوبة في الاستمرار ومنافسة المدارس الخاصة مع كلّ الأزمات والعوائق الموجودة. وفي هذا السياق، يقول وزير العمل اللبناني السابق شربل نحّاس في معرض مشاركته في المنتدى"educity" أنّ أي دولة في العالم ليس فيها إزدواجية في قطاع التعليم كما هي الحال في لبنان- أي الانقسام الحاد بين التعليم الرسمي والخاص- لأنّ هذه الإزدواجية لا يمكن أن تستمرّ إلاّ على حساب القطاع الرسمي، الذي يبقى ضعيفاً بسبب سوء الإدارة وضعف التمويل. وإذا كانت هذه الإزدواجية تؤسس لفرز طبقي حاد وتعميق للمعايير اللاوطنية في التعليم، لا يمكن، بحسب نحّاس، التكلّم عن دور للتعليم في توحيد المجتمع اللبناني .و لقد أسهمت عوامل عدة في فقدان الثقة بالمدرسة الرسمية، فالنظام الطائفي كان له دور أساسي، بالإضافة إلى الإهمال و الإستخفاف بهذا القطاع الحيوي، فقد تركّز الدعم على القطاع الخاص منذ الاستقلال على الرغم من وجود أساتذة يمتمتعون بالكفاءة العالية في القطاع العام، لكن "الكارتيل " الديني والطائفي أسهم في زيادة الثغرات.

خاتمة

نقف اليوم أمام هذه الأزمة الكارثية في ظل غياب واضح و لا مبالاة من قبل الدولة اللبنانية التي تستسلم لصندوق النقد الدولي غير مدركة لنتائجه السلبية على القطاع العام. فالتحضيرات و الجهوزية في المدارس الرسمية غير متوفرة، و نظراً للأزمة الإقتصادية الحاصلة ، فإن معظم التوقعات تضعنا أمام إختيار المدرسة الرسمية في السنوات القادمة، فنحن كطلاب لن نقبل أن تظل المدرسة الرسمية مهملة و لا حتى المساس بها، وعليها أن تستعدّ للمرحلة القادمة.

لقد حان وقت تطوير المدارس الرسمية والتحرّر من القيود المكبلة بها، ووضع خطة تطوير بعيداً عن الضغوطات. بات جليّاً أنّ المدارس الخاصة لن تستقبل الطلاب الذين لم يسددّوا ما عليهم من أقساط وفي الوقت نفسه قد لا تتمكن المدارس الرسمية من إستقبالهم إذا لم تضع الحكومة و وزارة التربية خطةً لإنقاذ التعليم الرسمي في لبنان. في المحصلّة، يبدو أنّ اولى انعكاسات الازمة الاقتصادية ستكون في القطاع التربويّ.

*المصدر: مجلة النداء