أميركا في سياق الأزمة الاقتصادية اللبنانية
كما حدتّ الأنظمة التنفيذية التي نُشرت في نيسان/أبريل من تعريف «حزب الله» بموجب القانون إلى المنظمة نفسها وحوالي المائة هيئة ذات العلاقة والمدرجة سابقاً. ليل الاحد في ١٢ تموز ٢٠١٦، وفي يوم عطلة، وقع انفجار قوي قرب بنك لبنان والمهجر. كانت المرّة الاولى التي يتم فيها استهداف مصرف بعد انتهاء الحرب الاهلية. بعض الاوساط والمصادر الصحافية آنذاك أفادت بأنّ العبوة الناسفة الموضوعة قرابة المصرف ما هي الاّ رسالة من حزب الله الى النظام المصرفي اللبناني ومفاد هذه الرسالة: لا تنصاعوا كثيراً لرغبة الاميركي في تضييق الخناق علينا. هذه حرب أميركية علنية علينا ولستم الاّ أدوات في ذلك. بدأت العلاقة بين الحزب والمصرف المركزي بالتدهور. أصدر حاكم مصرف لبنان تعميماً في أيار ٢٠١٦ تعميماً للبنوك يحمل تفاصيل لضوابط تتعلق بمن تفرض عليهم عقوبات. وانتقد حزب الله البنك المركزي لموافقته على هذه الضوابط التي يصفها بأنها تأتي في إطار حرب عليه.وقال سلامة في بيان صدر آنذاك "القانون الصادر في الولايات المتحدة هو قانون أمريكي مطلوب تطبيقه عالميا وفي لبنان، وبالتالي فإن التعميم رقم 137 الصادر عن مصرف لبنان في تاريخ 3 أيار 2016 كان واجباً قانونياً لبنانيا."وقال البيان "لا يمكن ضمان الاستقرار التسليفي إذا لم يطبق هذا القانون الأمريكي. إن إصدارنا للتعميم رقم 137 يريح المصارف المراسلة ويؤكد ملاءمة العمل المصرفي في لبنان مع ما هو مطلوب دوليا. ولو لم نفعل ذلك لكان في إمكان المصارف المراسلة تطبيق سياسة التقليص من المخاطر، فيصبح قطاعنا المصرفي معزولا عن العالم. نتج عن هذه القرارات سحب كتلة نقدية كبيرة جداً من المصارف اللبنانية عائدة لأشخاص مرتبطين بالحزب. بين عامي ٢٠١٧ و٢٠١٩، وكان كلمّا يزور مسؤول أميركي لبنان، يهدّد حزب الله بالمزيد من العقوبات ويشيد بالقطاع المصرفي لناحية امتثاله للقوانين الاميركية والدولية. قرّر رياض سلامة أن يكون ملكياً أكثر أكثر من الملك، حيث تفيد بعض التقارير أن سلامة وكجزء من تسويق نسفه أمام الاميركي مقدمّا خدمات غير مطلوبة منه، قرّر أن يوسّع مروحة الأشخاص والهيئات والمؤسسات التي يربطها علاقة بالحزب. والقشة التي قسمت ظهر البعير كانت في آب ٢٠١٩ عندما قررت وزارة الخارجية الاميركية ادراج " جمال ترست بنك " وثلاث شركات تابعة له على لائحة ال OFAC بتهمة توفير خدمات مالية ومصرفية لمؤسسات تابعة لحزب الله. أرادت الإدارة الاميركية خنق البيئة الشيعية الحاضنة لحزب الله. بين عامي ٢٠١٦ و٢٠١٩، كانت الإدارة الاميركية تضغط على حزب الله من خلال القطاع المصرفي. أمّا لماذا تحوّلت الضغوطات فيما بعد لتقع على كاهل الحكومة اللبنانية سؤال مشروع. الجواب بكل بساطة بأن حزب الله بات على رأس السلطة اللبنانية حيث نال مع حلفائه الأغلبية الساحقة لمقاعد المجلس النيابي في انتخابات ٢٠١٨، ثمّ كان ركناً أساسياً في الحكومة الاولى التي انبثقت عن الانتخابات (برئاسة سعد الحريري)، الى أن احتلّ موقع الصدارة في التشكيلة الحكومية مع حكومة حسّان دياب (شباط ٢٠٢٠).
في مكانٍ آخر، كانت الازمة الاقتصادية في لبنان تتفاعل وفق مسارات مختلفة في الشكل وتوقيت ظهورها ومستواها (سيكتب الزميل هشام حيدر مقالاً بهذا الخصوص في العدد القادم). الازمة الاقتصادية انفجرت انتفاضةً شعبية غير مسبوقة في ١٧ تشرين الاوّل. من نافل القول أنّ الضغوط الاميركية على لبنان، حكومةً وشعباً، كانت ولا تزال ركيزة أساسية في سياق الضغط الدولي على لبنان للحصول على مكتسبات سياسية تفيد الامبريالية الاميركية والعدوّ الصهيوني في سياق مواجهتها المفتوحة في المنطقة. انّ الضغوط الاميركية على لبنان يمكن تلخيصها بالتالي: ترسيم الحدود البحرية بما يتلاءم مع مصلحة الكيان الصهيوني، وضع اليدّ على الحدود الشرقية (وهذا ما يفسّر كمية الضخّ الإعلامي مؤخراً حول التهريب والمعابر غير الشرعية وتوسيع مهام اليونيفيل)، نزع سلاح المقاومة (وهذا ما يفسّر لماذا يتم مؤخرا التذكير بالقرار ١٥٥٩ و١٧٠١)، توطين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، والنازحين السوريين. وقد يبدو للطرف الاميركي أنّ هذا هو الوقت المناسب لنيل تلك المكاسب السياسية من خلال الترويج لمعادلة إعطاء المساعدات للحكومة اللبنانية مقابل نيل الإدارة الاميركية هذه المكتسبات السياسية. بمعنى آخر، لا دولار واحد يصل الى البلد من دون تطويق حزب الله في الداخل وتركيعه وتركيع السلطة اللبنانية. وخلال فترة اشتداد الازمة الاقتصادية، صدرت تصريحات عديدة عن السفيرة الاميركية ومسؤولين أميركيين نافذين تنتقد فيها الحكومة لأنها " حكومة حزب الله " وتحمّله مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع اقتصادياً وسياسياً. اذاً، الازمة الاقتصادية التي تشتدّ وطأتها على جميع اللبنانيين وجدتها الولايات المتحدة الاميركية باباً لها لتوسيع نطاق ضغوطها على البلد من أجل تحقيق أكبر قدر من الضغوط السياسية التي تريدها أميركا، وفي طليعتها طبعاً نزع سلاح المقاومة. هنا، دخل " حابل " الازمة الاقتصادية المندلعة منذ زمن ليس ببعيد ب " نابل " الضغوط الاقتصادية والسياسية من قبل الإدارة الأميركية، فالتبست عند البعض الصورة مما دفعهم الى اعتبار أن الاولى سببها الثانية، فيما الوقائع تفيد بأنّ الاقتصاد اللبناني يعاني عطباً بنيوياً في تركيبته، وهو لا يحتاج الى من يهدمه وان تضافرت جهود وعوامل موضوعية أخرى ساهمت - ولا تزال تساهم - في تعميق الازمة.
ثمة شريحة واسعة من الرأي العام المحلي تحيل الازمة الاقتصادية المندلعة حالياً الى سبب واحد وحيد الا وهو " الشيطان الأكبر". لا يحتاج المرء في هذا السياق الى معرفة أنّ من يمنع الكهرباء والماء عن اللبنانيين اليوم ليست أميركا، بلّ ان الشيطان منّا وفينا. هو في المنظومة السياسية الحاكمة بكافة أطرافها. ولا أعتقد أننا بحاجة لان نقنع أحداً بهذا الامر الاّ اذا غفلت عنه/ها الكثير من الحقائق. وكما أن اعتبار الإدارة الاميركية هي المسبب الرئيسي للازمة في لبنان هو ادعاء باطل، فلا يستوي منطق اتهام حزب الله بالمسؤولية المباشرة عن هذا الامر أيضاً. ثمة عطب في التحليلين: ينطلقان من نظرية أسود وأبيض، ومن خلفيات ربما تكون ضيقة وربما تكون قاصرة عن رؤية المشهد بأسره. لست أنفي مسؤولية حزب الله طبعاً عن واقع الازمة في لبنان خاصة آنه وقف في موقف المدافع الاوّل عن النظام عقب انتفاضة ١٧ تشرين الا أنّ الحزب بدأ دوره يكبر ويتعاظم في الداخل اللبناني منذ أحداث أيار ٢٠٠٨، ووصل ذروته بعد الانتخابات النيابية عام ٢٠١٨. هنا تحوّل الحزب الى قوّة دعم أساسية للنظام اللبناني بعد أن كان لاعباً غير مؤثر أو ثانوي ( بين عامي ١٩٩٢ و٢٠٠٥). اليوم الحزب يتقدّم ليكون احدى ركائز قوّة النظام اللبناني. ولكن قبل ذلك بكثير، كان ولا يزال للنظام اللبناني ركائز قوّة أخرى تتمثّل ب ١- البنية الطائفية للنظام و ٢- الدعم الإقليمي والدولي المتعدد الأطراف لقواه السياسية المحلية ( فرنسا، بريطانيا، أميركا، السعودية، سوريا ايران، ووكلاء اقليميين آخرين)، و٣- اللوبي المالي- المصرفي الضارب في عمق بنيان الدولة اللبنانية حتى ما قبل تأسيسها رسمياً.
قدّمنا في هذا المقال قراءة متأنية للواقع السياسي المرافق للازمة الاقتصادية والتي لديها مسارات مختلفة عن سياق الضغط الاميركي من حيث الزمان والطبيعة والإطار. بالمناسبة، انّ هذا الأخير ثابت فيما الازمة هي المتغيّر، ولا يجب أن تختلط هذه المسألة على أحد. كان الانفجار الاقتصادي ليقع في زمان مختلف وكان للضغوط الاميركية أن ترافقها وتزداد حدتها كمن حصل ابّان انتفاضة ١٧ تشرين. فالأزمة الاقتصادية لم يكن سببها الضغوطات الاميركية بقدر ما وجدتها الإدارة الاميركية باباً لتوسيع نطاق ضغطها على البلد والحكومة والمقاومة، ونتائج هذا الامر علينا أننا كمواطنين عالقين بين نهب الداخل وضغوط الخارج.
هنا الطامة الكبرى٬ أن عدونا يشمت بما اقترفت أيادينا من فساد وصل الى مستويات عالية بسبب سياسات المنظومة السياسية الحاكمة لعقود من الزمن. لأصحاب نظرية تحميل أميركا المسؤولية عمّا أصابنا، ربما تكون هذه رغبتهم المنطلقة من التفكير الرغبوي wishful thinking. ونحن نقول في هذا الإطار ليتها كانت أميركا سبب الازمة. كانت أسهل عليهم ربما. الحقيقة أنهم كانوا جميعاً يسرقون وأن الاميركي كان يعرف ذلك ويغطيّهم ويؤمن له شرعية بقائهم من خلال " انتخابات حرّة ونزيهة" يبصم عليها كل أربع سنوات، هنا بالتحديد تقع مسؤولية الاميركي.
*مجلة النداء