لا حياة بلا «أوكسجين» ولا مقاومة بلا معرفة
ربما قلةٌ قليلةٌ من الأدباء الفلسطينيين في العصر الحديث يعيشون تجربة مروان عبد العال. الأخير ليس روائياً فحسب، بل هو أيضاً فنانٌ تشكيلي، ومناضلٌ فاعل في الوسط الفلسطيني، من خلال قيادته لإقليم لبنان في « الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين »، التنظيم الأشهر في الوسط الفلسطيني كونه تنظيم «المثقفين والكتّاب وأصحاب الرأي». أصدر الروائي والمناضل الفلسطيني هذه الأيّام روايته «أوكسجين» (دار الفارابي) لتنضمّ إلى أخواتها الثمان اللواتي سبقنها: «سفر أيوب» (2002)، «زهرة الطين» (2006)، «حاسة هاربة» (2008)، «جفرا .. لغاية في نفسها» (2010)، «إيفان الفلسطيني» (2011)، «شيرديل الثاني» (2013)، « ٦٠ مليون زهرة» (2016)، و«الزعتر الأخير» (2017).
إنها إذاً سردية المثقّف الفلسطيني لكلّ شيءٍ حوله. ليست مجرّد رواية كما يشير الكاتب بنفسه، فـ «أوكسجين» تختلف بالنسبة إلى عبد العال عن أخواتها، يقول لنا: «مرة قرأت لمارك توين جملة يقول فيها إنّ أكثر شيء انتشاراً في العالم هو الأوكسجين والغباء. فسألت نفسي ما علاقة الأوكسجين بالغباء؟ هل عندما ينخفض الأوكسجين، يرتفع الغباء أم أنّه عندما يرتفع الأوكسجين ينخفض الغباء؟ بالنسبة إليّ، كما أنه لا يوجد مقاومة بلا معرفة، لا يوجد حياة بلا أوكسجين. القدرة على التنفس. هي تتحدث عن اللجوء الذي لم يعد محصوراً بالفلسطينيين. أول شخص تنبأ بهذا الموضوع هو إدوارد سعيد الذي قال إنّ العصر القادم هو عصر اللاجئين. كان يتحدث عن الرأسمالية، وكيف تتعولم قضية اللجوء. ترى أنّ هناك عولمة لمسألة اللجوء. فخطر في بالي أن أختلق مخيماً عالمياً في مكان ربما خيالي. بعض الشخصيات حقيقية لكن الخيال يلعب دوراً في الرواية. اخترت مكاناً في تونس في مدينة اسمها زغوان، وهي منطقة حقيقية من أيام الرومان، فيها شعب خليط، وأماكن للمياه، وقد زرتها سابقاً. خطر في بالي أنّ أقيم فيها مخيم «جنة الحياة» الذي يضمّ مختلف الجنسيات، منهم الفلسطينيون وتحديداً من منطقة الخليل».
يتحدّث الكاتب في الرواية عن «اللجوء» باعتباره ليس حدثاً عادياً، بل قضيةٌ كبرى في كثيرٍ من الأحيان تعقّد تفاصيل الحياة البسيطة وتجعلها أشبه بندبة على الروح: «الأميركيون يتحدثون دوماً عن اللجوء بأنّه لا يورث، وهو قضية من خرج. اللجوء هو أكثر ما يترك ندبة في الإنسان. هو شيءٌ لا يمكن أن يُلغى؛ فقد يتوطن الإنسان، لكن بصمات اللجوء تبقى. تخيّل أنّ واحداً من هؤلاء اختلط بهم، وصار محامياً، وتزوج لكنه في مرحلة شعر بالوحدة، فبدأ برحلة بحثه. في النهاية أنا أطرح أسئلة كثيرة. حينما يبدأ الأوكسجين بالانخفاض، تبدأ الجدران بالتشيد حول المخيم. هو اسمه «جنة الحياة»، لكن برأيي لا يوجد جنة ولا حياة. تأخذ نسبة الأوكسجين في الانخفاض فيه، ويُغمى على الناس في مراحل لاحقة. هنا نقف أمام أزمة اللاجئ الأبدية: حتى ثقب الأوزون يتحمله اللاجئ. ففي كل مكان، اللاجئ هو السبب. حتى في اللجوء الداخلي بين الفلسطينيين. رغم أنهم في المخيم ــ في الرواية ــ لديهم الكثير من الماء، لكن نسبة الأوكسجين تبدأ بالانخفاض. نسبة الأوكسجين تكون منحصرة في مكان، ويحتاج أهل المخيم للوصول إليه، وهذا المكان هو عكا في فلسطين على «تلة نابليون». يوجد بئر وجامع هناك. ولتلة نابليون هذه قصّة. إنها تلة يُقال إنّ نابليون وقف عليها وهناك أساطير شعبية بأنها تكوّنت من رمالٍ علقت من أقدام جيش نابليون على كثرة عددهم؛ فشكّلت الرمال تلة. هناك الهام بأن الحرية لها مكانها هناك». إذا لماذا «زغوان» بالتحديد؟ يوضح عبد العال: «ما أخذني إلى «زغوان» هو زهرة النسرين التي تُستخدم في صناعة الحلويات؛ وهي موجودة في هذه المدينة، ولا تُقطف إلّا قبل شروق الشمس لأن عبقها يبقى طويلاً وتوضع على الحلويات. هي زهرة برية تشبه جوري العليق الصغير». يختار عبد العال مواضيع رواياته كما لو أنّه ينتقي زهوراً من ذاكرته؛ إذ يشير إلى كيفية اختياره لأفكار قصصه/ رواياته: «هناك أحداث تكونك، وعندي شيء متخيّل يساعد على التقاط مسائل لا يلتفت إليها الناس. في حصار نهر البارد، كنت محاصراً في المخيم وكتبت «حاسة هاربة». حاولت أن أعيد تاريخ المخيم كما رأيته حينها».
ماذا عن العمل الروائي ككل إذاً، خصوصاً أنه يعمل حالياً على روايته العاشرة؟ يجيب: «العمل الروائي بالنسبة لي يجب أن يمتلك رؤية مبنية على التزام إنساني، وقضية يمثلها. وبناءً على هذه الرؤية تتشكل الرواية. قد تشعر أنّ روايتي لا تعتمد السرد الكلاسيكي لكن فيها وقائع وأحداث والكثير من الأفكار التي تشكلها الأحداث التي نعيشها ولم يعشها أحد غيرنا كاقتران التواريخ بالحروب، بالنكبة والنكسة؛ حتى فيضان النهر في مخيم نهر البارد». ماذا عن مخيم نهر البارد حيث ولد الكاتب إذاً؟ ماذا عن الارتباط بالأرض، ولو أنّها أرضُ منفى؟ يجيب عبد العال: «بالنسبة إليّ، المخيم هو عالم كبير وفيه كلّ الصور الأولى لفلسطين من التقاليد والحكايات. هو تغير. أنا ولدت في وقت الزينكو.
كان الناس يغيرون مساكنهم من الخيم إلى الزينكو، لم يكن من المسموح أن نبني بيوت حجارة. لذا جاءت ثورة الزينكو حينها لتحسين أوضاع المخيمات. أنا من الناس الذين عاشوا ضمن عائلةٍ مكونة من اثني عشر فرداً في غرفة واحدة. لذلك فإنّ الأوضاع هذه بالتأكيد تؤثر على جميع المستويات الحياتية. المخيم عالم واسع، وخارجه هناك عالم آخر ومخيم آخر. عندما خرجنا إلى طرابلس، رأينا عالماً مختلفاً كثيراً. كانوا يعطوننا الحليب كل يوم وزيت السمك (يشير إلى الأونروا التي كانت تقدّم في ذلك الوقت هذه المساعدات ضمن مؤسساتها). كان وضعاً جماعياً. لكن حين تكبر، تولد أسئلة كثيرة عن الأماكن التي تذهب إليها، هل تسعك؟». ولأن الحديث مع مروان عبد العال له تفاصيل كثيرة، كيف يرى هو نفسه: رساماً؟ روائياً؟ مناضلاً؟ خصوصاً أن هذه الأمور تتخالط في حياته اليومية؟ يوضح: «أنا أعتبر نفسي إنساناً حالماً وأحاول تجسيد الحلم بأشكال مختلفة سواء بالفن أو السياسة. ولا مرة كان لديّ اعتقاد أن يكون لدينا سياسي من دون بعد ثقافي أو مثقف من دون مشروع سياسي. هذه كانت أساسية بالنسبة لنا. الدمار يحدث إذا افترقت هذه الأمور؛ وهذا رأيناه في صراع القيادة ومركز الأبحاث وكان مهمّاً جداً لمحمود درويش بأن يكون في اللجنة السياسية لمنظمة التحرير مثالاً». هنا نقف عند الفكرة التي أرساها شهيد الجبهة الشعبية، وعضو المكتب السياسي الأشهر فيها، الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني ، فكرة «المثقّف العضوي» الذي يقود الجماهير من الأمام، وبثقافته قبل أيّ شيء. أمر عرّضه للاستشهاد ضمن ما عُرف بقائمة غولدا (نسبة إلى رئيسة وزراء العدو غولدا مائير التي وضعت قائمة انتقامية ضد مثقفي الشعب الفلسطيني بعد عملية ميونيخ الشهيرة). يمكن تصنيف مروان عبد العال مثقفاً عضوياً، لكن هل يرى نفسه كذلك؟ يجيب: «بقدر ما أستطيع تجسيد فكرة البطل الحقيقي لا الشعبي، المدافع عن الحق. بطل سلبي مثلاً لا تحبه لأنك تنتقده. أنا أحب البطل الإيجابي المنحاز لأمور الناس. في رواية «إيفان البطل»، كان اسمه عرب وسمى نفسه إيفان. تزوج في بيئة أجنبية وصار المجتمع يسأله لماذا لا تغيّر اسمك. لذا، غير اسمه لإيفان فيولد صراع في رأسه: هل هو عرب أم إيفان؟ ثم يعود إلى المخيم ويفقد الميراث الذي هو باسم عرب».