نماذج من الفوبيا الأمريكية (١)

  هادي المصري
متفرقات
"الصيرورة الاجتماعية لا تُحكم بالجريمة أو القوة. التاريخ ملك لنا، والشعوب تصنع التاريخ" -من خطاب أليندي الأخير.

قد يُذكّر تاريخ ١١ أيلول البعض بحادثة البرجين الشهيرة، وتفوت عنهم حادثة أخرى أدّت إلى استغلال شعب كامل وقمعه. في ١١ أيلول عام ١٩٧٣، استفاقت تشيلي على هجوم للجيش، قاده الجنرال أوغستو بينوشيه على القصر الرئاسي في تشيلي، والذي ترأسه سلفادور أليندي، الطبيب الماركسي ورئيس جمهورية تشيلي المنتخب من الشعب. لكن بالرغم من صمود أليندي والقليل من حرسه، قامت طائرات الجيش بقصف القصر. قُتِل الرئيس أليندي واستلم الجنرال بينوشيه حكم البلاد.

عودة ٣ أعوام إلى الوراء
في ٤ تشرين الثاني عام ١٩٧٠، فاز أليندي بالإنتخابات الرئاسية في تشيلي كعضو مرشّح عن الحزب الإشتراكي. لم يرقَ للولايات المتحدة أن يصل رئيس يساري إلى السلطة في تشيلي. فهذه الأخيرة كانت تستغل البلاد عبر شركاتها، وأبرزها شركتا "أناكوندا" و"كينوكوت"، العاملتان في مجال النحاس. في عام ١٩٦٨، كانت هاتان الشركتان تريدان التوسّع في استغلال نحاس المدينة "التنيتى" في جبال الأنديز. ومن ناحية أخرى قُدّرت استثمارات الشركة الأميركية (AT&T) العاملة في مجال الإتصالات في تشيلي ب٢٠٠ مليون دولار. وقبل انتخاب أليندي، سيطرت هذه الشركة على ٧٠% من الشركة الوطنية التشيلية "تشيتلكو" العاملة في مجال الإتصالات. وفي العام نفسه، قامت شركة أي تي تي بتمويل حملة المرشح اليميني "أليسندري" ب٧٠٠ ألف دولار، كما قدمت مليون دولار إلى المخابرات الأميركية لمنع فوز أليندي. إن استغلال الشركات الأميركية للبلاد بالتعاون مع الطبقة الرأسمالية التشيلية التي تقاطعت مصالحها مع الإمبريالية الأميركية نتج عنها أن ٢% من الشعب التشيلي يحصل على ٤٦% من الدخل القومي للبلاد.
من ناحية أخرى، كانت الولايات المتحدة، تخاف من تمدّد النموذج الكوبي في جنوب القارة الأميركية، مع العلم أن الظروف الكوبية مختلفة عن الظروف التشيلية. فمنذ العام ١٩٦٤، وهي تقوم بصرف أموال طائلة للقيام بحملة إعلامية واسعة ضد اليسار في تشيلي وبشراء الناخبين. وفي انتخابات ١٩٧٠، خصّص الرئيس نيكسون ١٠ ملايين دولار لمنع وصول أليندي إلى سدة رئاسة الجمهورية. ثم شكلت الولايات المتحدة لجنة الأربعين على رأسها هنري كيسينجر التي وضعت ما عرف بمسار ١ ومسار ٢. كانت خطة مسار ١ تفتضي منع أليندي من الوصول إلى السلطة عبر تحايلات برلمانية. أما خطة مسار ٢ فكانت تقتضي إقناع القيادات العسكرية بالقيام بانقلاب عسكري وموّلت ضباط الجيش، ومن عارضها تمّت تصفيته. وكان أبرز مثال على ذلك اغتيال الجنرال رينه شنايدر.
قام أليندي بعدّة سياسات معارضة للمصالح الأميركية ومنها تأميم الشركات، ما أدّى إلى ضرب الاستغلال الأميركي للموارد التشيلية، ساعياً بعد ذلك إلى تأميم جميع الصناعات. وقام بخفض حدة التفاوتات في المجتمع التشيلي، حيث أعاد توزيع الأراضي الزراعية على المزارعين، ثم قام ببرنامج يؤمّن الحليب لنصف مليون طفل.
بعد فوز أليندي، اجتمع ريتشارد نيكسون (رئيس الولايات المتحدة آنذاك) بهنري كسينجر (مستشار الأمن القومي في حكومة نيكسون ووزير الخارجية لاحقاً) وبريتشارد هيلمز (رئيس وكالة المخابرات الأميركية آنذاك)، وقرّروا التحرك فوراً لمواجهة "الشيوعية". كان نيكسون يردّد دائماً "لا أفهم لماذا يجب أن نساند بلداً يتحوّل إلى الشيوعية بسبب قلة المسؤولية لدى شعبه". وقد عبّر السفير إدوارد كوري عن تلك الخطة بقوله "أن نفعل كل ما نستطيع لنحكم على التشيليين بأقصى فقر وأقصى حرمان، وهي سياسة تم وضعها منذ زمن طويل لتسرّع الملامح الفظة للمجتمع الشيوعي في تشيلي". كما قامت وكالة المخابرات الأميركية(CIA) بتدريب وتمويل ميليشيات يمينية داخل البلاد. وبرغم التدخل السافر للوكالة بغية تدمير اقتصاد تشيلي، أسفرت الإنتخابات النيابية عام ١٩٧٣ عن فوز ستة نوّاب جدد لكتلة أليندي.
ونتيجة لهذه الانتخابات ولخيارات الشعب التشيلي قرّرت الإمبريالية الأميركية بتصفية أليندي جسدياً. عندها قامت وكالة المخابرات الأميركية بتمويل إضراب سائقي الشاحنات لإحداث فوضى في البلاد. وفي نفس الوقت كانت تموّل القادة العسكريين الذين نفّذوا الانقلاب العسكري في ١١ ايلول من العام ١٩٧٣ وقاده بينوشيه (بروتوس تشيلي) الذي عُيّن قائد عام للجيش قبل حوالي ١٨ يوماً من تنفيذه للإنقلاب عندما سمع العالم خطاب أليندي الأخير عبر إذاعة سرية قبل ساعات من استشهاده، والذي شدّد فيه على كفاح الشعب التشيلي ضد الامبريالية والدكتاتورية.
راح ضحية هذا الانقلاب أكثر من خمسة آلاف قتيل باعتراف الصحف الغربية. وتمّ تعذيب حوالي واحد وثلاثين ألف شخص، من بينهم الشاعر والمغني فيكتور جارا، الذي قُطعت أنامله لمنعه من العزف والكتابة. لكنّ ديكتاتورية بينوشيه سقطت عام ١٩٩٠ على يد الشعب التشيلي الذي لطالما آمن به أليندي.

أنا لا أغنّي لأجل حبِّ الغناء..
ولا للتباهي بصوتي..
ولكنّي أغنّي من أجل التعابير التي يصنعها جيتاري الصادق..
إن جيتاري ليس للقتلة والطامعين للمال والسلطة... ولكنه للشعب الذي يكدح لكي يزدهر الغد.
من القصيدة الأخيرة لجارا "مانيفاستو".
#مجلة_النداء 11 أيلول 2019