الانتفاضات: سلاح الشعوب ضدّ العنصرية والاستغلال
الكورونا تقتل الفقراء...
أفرز انتشار وباء الكورونا بشكل واسع في العالم تداعيات جمّة، أبرزها إظهار حالة العجز الكلّي للنظم الرأسماليّة، خاصّة الأكثر ليبراليّة منها، في مواجهة الوباء. في الولايات المتحدة، النظام الصحي بيد شركات التأمين الخاصة، وفئات اجتماعية واسعة لا تحظى بأي نوع من التغطية الصحيّة. الكورونا واجه الفئات الأفقر من أبناء الطبقة العاملة والملّونين والمهاجرين، لأنّهم كانوا الأقلّ قدرة على تحمّل الحجر لأسباب اقتصادية والأقلّ قدرة على الوصول إلى خدمات الصحّة المكلفة. تشير الدراسات إلى أن نصف المصابين بفيروس الكورونا كانوا من السود في ما هم لا يشكلون إلى 12% من السكّان. في بريطانيا أدّت سنوات من التقشّف في الإنفاق على الصّحة إلى تراجع كبير في قدرة القطاع الصحي العام على استقبال الأعداد المتوافدة من المرضى وطلب منهم التزام الحجر في منازلهم إلّا لمن وصل إلى حالات متقدّمة من المرض. في فرنسا، فقدت الكمامات والأجهزة الصحية المطلوبة لمدة شهرين من السوق لأنّ القطاع الصحي العام ليست لديه الأموال الكافية لتخزين المستلزمات الطبية مسبقاً تفادياً لحالات مشابهة. عانت الطبقة العاملة والمهمّشين أضعافاً مضاعفة في ظلّ نظم رأسمالية لا يعنيها سوى حماية أرباح الشركات والاحتكارات. وبرز واضحاً أن القوى الإجتماعية التي تخوض معركة التصدّي للكورونا كانت من العاملين في القطاع الصحي والاجتماعي بشكل أساسي من أطباء وممرضين وممرضات وعمال ومتطوّعين، في ما سعت المؤسسات الخاصة ومنها المستشفيات الخاصة إلى تعزيز ربحيتها وتفادي أعباء المواجهة، كما حصل في لبنان. وهذا الواقع يقود إلى تعزيز الطرح السياسي الذي ينادي بأهمية دور القطاع العام والدولة عموماً في إدارة المجتمع والاقتصاد بخلاف القطاع الخاص والاحتكارات التي تسعى إلى اقتناص الأرباح، ولو على حساب الأرواح.
الصين في مواجهة ترامب والكورونا...
لقد شكّلت الصين نموذجاً مميزاً في استيعاب موجة الإنتشار الأولى للفيروس على رغم مفاجأته لها، وأظهرت تنظيماً وتماسكاً وقدرة رسميّة على السيطرة على انتشار الوباء بين الناس، ولعلّ هذا النجاح تحديداً هو ما عرّضها لموجة كبيرة من الإشاعات والاتهامات من قبل الولايات المتحدة بشكل رئيسي، في محاولة لتجويف نجاحها في الاختبار الأصعب على البشرية في السنوات الأخيرة. فالرئيس الأميركي ترامب وصف فيروس كوفيد - 19 بالفيروس الصيني، فيما قال وزير خارجيته تصريح بومبيو أنّ الصين هي عدوّ الإنسانية في الوقت الذي كانت فيه تحديداً تساهم في إنقاذ الإنسانية من الوباء وترسل الفرق الطبية والمساعدات إلى دول العالم المنكوبة بعدها. من جهتها استمرت الصين في مواجهة التصعيد الأميركي المتصاعد من التعرفات الجمركية ومسألة تايوان وصولاً إلى أزمة هونغ كونغ وإثارة موضوع الأقليّة المسلمة في الصين وانتهاءً بموضوع الكورونا. ولعلّ الخطوات التي تقوم بها من خلال إعتماد العملات المحلية في التبادل التجاري بين الدول، وتعزيز دور اليوان كعملة احتياط دولية بعد أن قرّر صندوق النقد الدولي اعتماده كإحدى العملات الخمس الأساسية لديه، وتعزيز الشراكة الاستراتيجية مع روسيا، والتطورات العلمية والتكنولوجية والنموّ الاقتصادي، وعلاقات الصداقة التي تمتلكها مع مختلف دول العالم، هي أكثر ما يؤرّق الولايات المتحدة اليوم.
لبنان والانتفاضة الشعبية...
لبنان على شفير الانهيار الشامل والآتي ما زال أعظم. نجحت إنتفاضة 17 تشرين الأول في فرض حالة سياسية جديدة في البلاد باعتبارها انتفاضة وطنية وشعبية عارمة لم يشهد لبنان مثيلاً لها في تاريخه، فنزل الناس إلى الشارع مطالبين بحقوقهم، وارتقت مكوّناتها في تنظيم صفوفها نسبياً في الساحات كما تأسس خلالها تجمعات وهيئات نقابية ومهنية جديدة، وأطاحت بحكومة "الوحدة الوطنية"، أي وحدة قوى السلطة في نظام المحاصصة المذهبية والاستغلال الطبقي، بقيادة الرئيس سعد الحريري وعرّت أزمة النظام بشقيه الإقتصادي والسياسي. فظهر إلى العلن إفلاسه المالي والمصرفي وأصبح كلّ طرف يتهرّب من مسؤوليته عن الأوضاع التي وصلنا إليها، ويلقيها على الطرف الآخر: القوى السياسية، المصارف، حاكم مصرف لبنان، أصحاب الإحتكارات، لكنها بقيت موحّدة ضدّ الانتفاضة وضدّ الناس. الانتفاضة التي شكّلت حالة شعبية لم تستطع أن تتحوّل إلى حالة سياسيّة ناضجة وذلك بسبب عدم تبلّور مشروع سياسي واحد وقيادة مشتركة لسببين أساسيّين: تعدّد السقوف السياسية لدى مكوّناتها (إسقاط السلطة أو إسقاط النظام ــ غياب البرنامج والقيادة ــ حكومة انتقالية أو مجلس تأسيسي ــ...) وثانيهما مرتبط بموازين القوى التي أتاحت لقوى السلطة تعطيل مفاعيل الإنتفاضة عبر قمعها وتخوينها ومحاصرتها واستنزافها.
حاولت قوى السلطة الدفاع عن حكومة الحريري وضغطت بكلّ قوّتها لترويج خطتها "الإصلاحيّة"، وعندما سقطت الحكومة بدأ إخراج الأرانب من القبعة: كلّ يوم اسم جديد وتخبّط وصراعات لكن دوماً إصرار على عدم ملاقاة طموحات ومطالب المنتفضين فأعادوا تدوير أسماء ممثلي الطبقة نفسها، من محمد الصفدي وسمير الخطيب وبهيج طبارة، وصولاً إلى مجيء حكومة الرئيس حسان دياب من داخل المنظومة الحاكمة ومن دون صلاحيات استثنائية في استمرارية للنظام القائم الذي يتحمّل مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمالي غير المسبوق. هذه الحكومة حظيت أيضاً برضى تسوية دولية ــ إقليمية مؤقتة: تركيبتها الوزارية المنفتحة على الولايات المتحدة - المحاصصة السلطوية بين أقطاب النظام السابق ــ تأمين النصاب ونيل الثقة من قبل الطرفين، موالين و"معارضين"- تبنّيها لموازنة الحكومة المستقيلة ــ الإفراج عن عامر الفاخوري ضمن صفقة سياسية أمنية رعتها عوكر - مشروع العفو العام عن العملاء بصفاقة ووقاحة تتميّز بها قوى السلطة في لبنان ــ الهرولة إلى صندوق النقد الدولي والاستجابة المسبقة لشروطه التي ستحمّل أعباء الإنقاذ لمكوّنات الشعب اللبناني من خلال الضرائب والتقشّف وبيع أملاك الدولة.
لقد استغلت المنظومة السياسية تداعيات وباء الكورونا لتلتقط أنفاسها، وتبدأ هجومها المعاكس على الناس، في محاولة لإعادة الأمور إلى المربع الأول وطمس القضيّة الأساسية التي طرحتها الانتفاضة فعادت الصفقات (سلعاتا الذي يبدّد مئات ملايين الدولارات في عزّ الأزمة الاقتصادية ــ العملاء ــ التعيينات)، فيما انعكست الكورونا سلباً على الانتفاضة التي تراجع زخمها الشعبي وتأثيرها على مجريات الأمور.
إلى المزيد من التنازلات والقمع...؟
من جهة ثانية تزداد الضغوط على لبنان لتنفيذ الشروط السياسية والمالية مع إنطلاق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، ويعود إلى التداول موضوع تنفيذ 1559 و1701، كما يصرّح مسؤولو وزارة الخارجية الأميركية وآخرهم دايفيد شينكر، لتصبح المعادلة بالنسبة لهم لا قروض خارجيّة دون أثمان سياسيّة سياديّة، ودون أثمان اقتصادية تضمن أرباح وعائدات رأس المال، الداخلي والخارجي، المتربّص للانقضاض على مؤسسات القطاع العام. الحكومة اللبنانية لن تتمكن من رفض الشروط، وستلجأ إلى قرارات غير شعبيّة، وما عجزت عن تنفيذه حكومة الحريري بخطتها التي سميت إصلاحية سوف تنفّذها حكومة دياب تحت حجّة الحصول على القروض. ومع تنفيذ الشروط ستلجأ السلطة، وقواها الرديفة، إلى المزيد من القمع والترهيب، وستدفع الأمور نحو الفوضى وستلجأ إلى الاستنفار الطائفي والطروحات التقسيمية على غرار الفدرلة أو المثالثة.
برنامج بديل لسلطة بديلة...
مع انعدام الأمل بتحقيق خروقات إيجابية على أيدي هذه الحكومة، تصبح اللحظة الآن لحظةً تاريخية لوقف المسار المأزوم والتدميري، وهذه مهمة وطنية راهنة وملّحة على القوى التقدمية والعلمانية والمدنية، مهمة بناء الائتلاف الوطني الواسع للتغيير وطرح مشروع سياسي بديل لسلطة بديلة من خارج المنظومة الحاكمة، من أجل تعديل موازين القوى وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية على قاعدة المواطنة والتقدّم الاجتماعي والكرامة الإنسانية. وهذا الائتلاف الذي نطرحه مبنيّ على قواسم أساسية مشتركة تجمع ما يتم التوافق حوله وتبقي لكلّ مكوّنٍ برنامجه وعلاقاته وتحالفاته وقواعد عمله الخاصة به. وبالتالي فإن ما تطرحه المبادرة من مشروع سياسي كلّي يجب أن يشكّل قوة دفع للانتفاضة، كما للمجتمع عموماً، لجهة المضيّ في عملية تفعيل وتنظيم المواجهة الشعبية، وذلك بعدما انهار وهم الدولة الطائفية والاقتصاد الريعي، وفقد النظام شرعيته وقدرته على الاستمرار، وبناء على موقف القوى من هذا البرنامج يتحدّد موقفنا منها تعاوناُ وتنسيقاً أو تحالفاً. فلتكن المَهمّة اليوم بناء الائتلاف السياسي الذي يطرح نفسه أمام الناس كبديل سياسي فعلي مستعد ومتمكّن، ليضع البلاد على طريق تجاوز الأزمة، واستعادة الأموال المتراكمة لدى القلّة التي استفادت من السياسات الاقتصادية والنقدية ومن الفساد لعقود، وإعادة توزيع الثروة لتستفيد منها الفئات الأكثر حاجة، وبناء اقتصاد منتج تلعب فيه الدولة دوراً مخططاً وناظماً، وإجراء تغيير سياسي جذري نحو الدولة العلمانية الديمقراطية.
* مسؤول العلاقات الخارجية في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني.