الجمعة، تشرين(۲)/نوفمبر 15، 2024

كلمة الأمين العام للحزب الشيوعي حنا غريب في افتتاح المؤتمر الوطني 12  

أخبار الحزب
  ايتها الرفيقات والرفاق نفتتح اعمال المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزبنا الشيوعي اللبناني بالنشيد الوطني اللبناني ونشيد الحزب وبالوقوف دقيقة صمت على ارواح الشهداء والرفاق الذين غادرونا في السنوات الماضية،  شهداؤنا هم ينبوع عطائنا وتضحياتنا التي لا تنضب ولن تنضب.

كانوا بوصلة الصراع في أحلك الظروف وأصعبها، وعلى خطاهم نحن  سائرون، خطى فرج الله الحلو وجورج حاوي وحسين مروة ومهدي عامل وأحمد المير الأيوبي وكل الشهداء الذين حملوا السلاح منذ ثلاثينيات القرن الماضي من إبل السقي مع عساف الصباغ الى شهداء مجزرة حولا وشهداء قوات الأنصار والحرس الشعبي والحرب الأهلية وجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية "جمول ".

درب هؤلاء الشهداء هي درب كل الكادحين الذين سالت دماؤهم في التظاهرات الوطنية والنقابية، هي أغلى من كل كنوز الأرض وما عليها لأنها جسّدت عبر تلك التضحيات والملاحم البطولية المثل العليا للشيوعية والاشتراكية وكل معاني التحرر الوطني والاجتماعي لشعوبنا العربية وقضيتها المركزية فلسطين وفي سبيل تحقيق أحلام شعبنا  في وطن حر وشعب سعيد .

أيتها الرفيقات، أيها الرفاق،

مئة رفيقة ورفيق شاركوا في تحضير مشاريع الوثائق الأربع للمؤتمر الوطني الثاني عشر (الوثيقة الفكرية – السياسية- البرنامجية، التقرير التقييمي التنظيمي ، تقييم انتفاضة 17 تشرين، ومشروع التعديلات المقترحة على النظام الداخلي).

كما عقدت عشرات الاجتماعات  الحضورية للجان الفكرية والسياسية والنظام الداخلي والاجراءات واللجنة المشتركة واللجنة المركزية ولجنة الصياغة النهائية. كانت اللجان التحضيرية مفتوحة لمشاركة كل من يرغب من اعضاء اللجنة المركزية التي أشرفت على اعمال التحضير للمؤتمر من ألفها الى يائها، وضمن أوسع مشاركة ممكنة من جانب الرفاق من خارج اللجنة المركزية، وبشكل ديمقراطي - تنظيمي، مع توزيع اوراق بعض الرفاق الذين فضلوا اصدار أوراق خاصة بما يتيح لقواعد الحزب الأطلاع عليها، علما ان الوثيقة الفكرية  قد تضمنت  في طياتها آراء ومواقف متمايزة حول قضايا محددة لبعض الرفاق المشاركين وغير المشاركين في اعمال اللجان.

الرفيقات والرفاق،

بالاستناد الى ما تقدم، يمكننا القول أن مشاريع الوثائق قد أنتجت بآليات ديمقراطية ضمن ما تسمح به لائحة أجراءات عقد المؤتمر الثاني عشر والنظام الداخلي. وهذه المشاريع  بما تضمنته وما بذل من جهود لأنتاجها، كانت محط تقدير وارتياح في قواعد الحزب. وشاركت 94% من منظمات الحزب في الداخل والخارج في نقاش هذه المشاريع على مدار 327 جلسة نقاشية، ووصل هذا العدد مع إنجاز الجلسات الانتخابية الى 453 جلسة.

ورافقت هذه الجلسات ستّ ورش نقاشية مفتوحة على مواقع التواصل الاجتماعي ( زووم وفايسبوك)، وشارك فيها مفكرون وسياسيون واقتصاديون واساتذة في علم الاجتماع، بعضهم من أحزاب شيوعية عربية وبعضهم لبنانيون رفاق وأصدقاء ممن شاركوا في انتفاضة 17 تشرين.

 ومن ضمن هذه الورشات كانت هناك ورشة حزبية داخلية حول التعديلات المقترحة على النظام الداخلي. وقد بدأنا في طباعة محمل النقاشات التحضيرية تمهيدا لإدخال تعديلات واضافات عليها بعد اقرارها في مؤتمركم هذا، مع جملة القرارات الخاصة التي سوف تتولى القيادة الجديدة للحزب مسؤولية اصدارها، مع العلم أن باب النقاش يبقى مفتوحا ولا ينتهي.

لا يسعنا في مستهل هذه الكلمة الا ان نوجّه التحية الى جميع الرفيقات والرفاق في قيادة الحزب وقواعده  الذين وصلوا الليل بالنهار وتحدّوا الصعوبات والعراقيل والحواجز، من جائحة الكورونا الى الأغلاق العام وأزمة المحروقات والنقل وانقطاع الكهرباء وتردي الأوضاع المعيشية ونزيف الهجرة، لينجزوا هذا الأستحقاق الدستوري في مثل هذه الظروف الصعبة، ويعقدوا جلساتهم المؤتمرية والنقاشية حضوريا بنسبة 95%.

ايتها الرفيقات، أيها الرفاق،

لقد أجمعت مسودة الوثيقة الفكرية - السياسية على أن الماركسية – اللينينية تشكل مرجعية الحزب الفكرية. كما أكدت على ازدواجية بنية الرأسمالية العالمية، أي وجود بنية إمبريالية مسيطرة من جهة وبنية رأسمالية تابعة من جهة أخرى. وهذه الازدواجية في بنية الرأسمالية تجعل النضال الطبقي في بلادنا (في مواجهة الرأسمالية التابعة) جزءًا لا يتجزأ من النضال من أجل التحرّر الوطني (في مواجهة الرأسمالية المسيطرة). وبعيدا من الجمود العقائدي برزت تمايزات واجتهادات لا سيما عندما يغوص التحليل في التفاصيل حول مسألة أو أخرى. والمعالجة في هذه الحالة تكون بالتأكيد عبر مواصلة البحث والاجتهاد وتفاعل الأفكار بدل الإنجرار الى لغة الالغاء والتخوين.

إن تزايد "أمولة" الإقتصاد الرأسمالي العالمي على حساب القطاعات المنتجة ، قد عزّز الانقسام ما بين العمل الذهني- الرقمي المتوسع من جهة ، والعمل الجسدي في الإنتاج المادي من جهة ثانية، الأمر الذي ضاعف من عملية الاستغلال في المستويين معا، وبدا أكبر في ميدان العمل الجسدي، في مرحلة تتسم بخضوع  التطور العلمي ـ التكنولوجي لإحتكار شديد تتحكّم به الأمبريالية وتستخدمه كأحد مجالات تفوقها، فتفرض العقوبات والحصار والحروب على كل الدول التي تحاول كسر هذا الاحتكار.

لقد جاءت تبعات تشظّي الرأسمالية بعد أزمة 2008 وتداعيات انتشار جائحة كوفيد، لتزيد من عدوانية الامبريالية على المستوى الكوني في محاولة منها لحل ازمتها عن طريق الحروب ونهب خيرات الشعوب وثرواتها وتأبيد آحادية قيادتها للنظام العالمي، مما يطرح بإلحاح على الحركة الشيوعية مهمّة بلورة مفهوم متجدد للأممية لتنظيم المواجهة وتجذيرها لكسر الغطرسة الأميركية والغربية

إن الحركة الشيوعية مدعوّة في هذه المرحلة الانتقالية لأن تضاعف جهودها وكفاحها لبناء نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب وأكثر توازنا، بعدما أدّى تطور الاحداث في العالم خلال العقدين الاخيرين الى وضع هيمنة الولايات المتحدة في دائرة التراجع النسبي سياسياً وعسكرياً في العديد من المناطق، وفي مجال التقدم العلمي والتكنولوجي والاقتصادي في الصين الشعبية بالأخص، وفي ظل تمتين علاقات التعاون الاقتصادي والسياسي بين الدول الصاعدة في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة الاتحاد الأوروبي وتصاعد نزعة الانفصال عنه،

مثل هذه التوازات الجديدة تطرح مهمة تاريخية امام الحركة الشيوعية واليسارية والقوى الديمقراطية في عالمنا العربي بوجوب تحمل مسؤولياتها وأخذ دورها المطلوب منها بالاستفادة من هذه التوازنات الجديدة لمصلحة استنهاض مشروعها في التحرر الوطني ضد مشاريع السيطرة الامبريالية والصهيونية ومواجهة مخاطر الأزمة الوجودية التي تعصف بعدد من دول المنطقة وتهدّد بتفككها في العراق واليمن وليبيا وسوريا ولبنان. مشروع تحرري يملأ الفراغ ويمنع ما قد تفضي اليه المفاوضات الدولية والأقليمية في فيينا وعلى غير صعيد، احتمالات التسويات وتقاسم النفوذ على حساب حقوق شعوبنا العربية ومنطقتنا .

وتنطبق هذه المهمة التاريخية علينا كما تنطبق على كل حركة ثورية في عالمنا العربي. إن حجم التأمر الامبريالي الصهيوني الرجعي، والتوظيف المتمادي في الأصوليات والحركات الاسلامية التابعة له، والترسيخ المتزايد لدور الأجهزة العسكرية، والانخراط الصريح والعلني للأنظمة العربية المطبّعة، وبخاصة دول الخليج، في ممارسة الخيانة المعلنة والتسابق على تطبيع علاقاتها مع الكيان الصهيوني تنفيذا لصفقة القرن.

ومع استمرار الإمبريالية في ممارسة سياساتها الإستعمارية الرامية الى نهب النفط والغاز والموارد الطبيعية والبشرية، تزداد ايضا وايضا، الحاجة الى مشروع نقيض وجامع يخرج حركة التحرر الوطني من أزمتها ، تتوحّد فيه طاقات القوى اليسارية والوطنية حول أولويتين متلازمتين ومتكاملتين: أولوية المقاومة بكل الوسائل بما فيها خصوصا المقاومة المسلّحة ضد العدوان الصهيوني والاحتلال الأجنبي، وأولوية مواجهة نظم التبعية والقمع والاستبداد السياسي والاجتماعي التي شكّلت تاريخياً المرتكز الداخلي الفعلي لهذا العدوان.

وإنه لمن واجبنا كأحزاب شيوعية عربية وكيسار عربي السعي الى استخدام كل أشكال النضال الملائمة والمطلوبة، كلّ في بلده بالدرجة الأولى وعلى المستوى القومي عموما، بغية بلورة مشروع إنقاذيّ جذريّ بديل يتصدّى لمهمّة ملء الفراغ الذي أحدثه انهيار حركة التحرر في عالمنا العربي. ويجب أن تكون لهذا اليسار هويته الواضحة ومبادؤه وقيمه القائمة على التصدّي للإمبريالية والصهيونية، وعلى خوض النضال الدؤوب من أجل تفكيك التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية.

كما يجب أن يكون هذا اليسار وفيٌّا للمباديء الديموقراطية ولقيام دول عربية علمانية مقاومة، لا دول قائمة على أساس ديني وطائفي وأثني تبرّر للكيان الصهيوني "دولته" العنصرية المبنية على أساس ديني. ومهمّة هذا اليسار يجب أن تتركّز بالضرورة على النضال ضد الاستغلال، ومن أجل مصالح الجماهير العربية الكادحة الطامحة الى تحسين شروط حياتها المعيشية، وعلى خوض معركة التغيير الديمقراطي ضد أنظمة القمع والاستبداد والاقصاء، بحيث يثبت لهذه الجماهير أن مقاومته ضد العدو تتجاوز تحرير الأرض إلى تحرير الانسان من الاستغلال الطبقي والاجتماعي.

لقد أكّد حزبنا على ضرورة بناء سياسة خارجية جديدة للبنان من اولوياتها:

الانفتاح على العالم المتعدد الاقطاب، والسعي للعب لبنان دوره السياسي الفعّال في مواجهة العدوانية الأميركية، وادانة العسكرة الامبريالية والحروب والتدخلات الخارجية. تمتين علاقاتنا مع الأحزاب الشيوعية والقوى السياسية التقدمية والدول الصاعدة وفي مقدمتها جمهورية الصين الشعبية، من أجل تحقيق المصالح المشتركة. دعم القضية الفلسطينية وحقّ الشعب الفلسطيني بالمقاومة والعودة وتقرير المصير ووقف الاستيطان وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية على كامل فلسطين التاريخية وعاصمتها القدس. دعم الحلّ السياسي للأزمة السورية، بما يحفظ وحدة أراضيها والحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية الكاملة للشعب السوري بمكوناته كافة ، ضمن دولة ديمقراطية موحدة يختارها الشعب السوري. بلورة معالجات جدية لقضية اللاجئين السوريين، والعمل على تأمين عودتهم السوية إلى بلدهم، بالتعاون مع الامم المتحدة والحكومة السورية، ومكافحة الحملات والممارسات العنصرية ضد السوريين والفلسطينيين والعمال الأجانب. منح اللاجئين الفلسطينيين في لبنان حقوقهم المدنية الأساسية التي تكفلها المواثيق والاتفاقات الدولية، ومن موقع الأخوّة والتضامن بين الشعبين، وفي طليعتها حق العمل والتعليم والاستشفاء، وذلك بهدف تحسين اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.

 

 ايتها الرفيقات، أيها الرفاق،

يعيش لبنان اليوم أزمة وجودية غير مسبوقة في تاريخه اثر سقوط نظام الطائف، واستمرار الانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتحلّل مؤسسات الدولة واضمحلال خدماتها، وعجز تحالف القوى الطائفية والرأسمال عن احتواء الأزمة بقواها الداخلية، ما يجعل الوضع في البلاد مفتوحا على كل الأحتمالات والمخاطر، لا سيما خلال الأشهر الثلاثة المقبلة التي تفصلنا عن الأنتخابات النيابية هذا اذا جرت...

ولا يتورّع التحالف الحاكم عن طرح مشاريع الحياد والفدرالية والمثالثة مع لجوء أطرافه - كلّ على طريقته - الى ترسيخ قوانينه وأنظمته الخاصّة وتدبير أمور "دويلته" و"مناطقه" في محاولة لفرضها حين يأتي أوان التسويات الدولية والاقليمية. وإذا ما اختلفت أطراف هذا التحالف فإنما هي تختلف على المصالح والحصص وعلى من يمتلك القرار السياسي  والمالي في التسويات المقبلة، وهي لا تتوانى عن التهديد بأخذ البلد نحو الفوضى دفاعا عما تعتبره حصّتها في هذه التسويات.

إن هذا التحالف يتوسّل الخطاب الطائفي والاقتتال الاهلي وحرب الافقار كأداة لنهب ما تبقى من مؤسسات واملاك واموال عامة، وسط استمرار إنكاره وتنصّله من المسؤولية والمحاسبة لا عن الانهيار الاقتصادي غير المسبوق فحسب، بل أيضا وبالأخصّ عن جريمة انفجار المرفأ.

 ومن المستحيل على من أنتج هذه الازمة ان يكون قادرا على معالجتها. لا بل هو يريد، بحكم تركيبته الطبقية وتوجهاته السياسية، حلّ تداعيات الأزمة المتعاظمة على حساب الطبقات الشعبية وعلى حساب مقدرات البلد وثروته. فبالنسبة الى هذا التحالف، لا يكون الخروج من الازمة إلّا بأزمة اكبر وأخطر، وبتشديد القمع والافقار ومضاعفة الهجرة وتشريع الأبواب على كل أنواع المخاطر:

ويثير التفاقم غير المسبوق للأزمة مخاطر ومخاوف كبيرة من أن تلجأ القوى الحاكمة الى وضع اليد على كل المرافق العامة عبر خصخصتها والتسليم بشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتنفيذ اجراءاتهما، والالتزام بعناوين الموازنة الميقاتية التي اختصرها بكلمته "بدنا نتحمل بعض". إن هذه المخاطر تنطبق أيضا على الانعكاسات الكارثية التي سوف تترتّب عن الصيغة المتداولة لما يعرف "بخطة التعافي الاقتصادي".

 

 وتقضي هذه الموازنة وتلك الخطّة بفرض ضرائب جديدة غير مباشرة ومضاعفة تعريفات الخدمات العامة الأساسية قبل أيّ بحث جدّي في تصحيح الأجور، والأخطر أنها تحضّر لليرلة الودائع بالدولار ومضاعفة معدلات الهيركات على عموم اللبنانيين، وجعل لبنان بلدا يستحيل العيش فيه مع ارتفاع معدلات الافقار والبطالة والهجرة.

 

وعلى الصعيد السياسي، تتكثّف المخاطر الناتجة من مفاعيل الضغوط الأميركية والغربية جراء تبعية الرأسمالية المحلية لها، والتهديدات الصهيونية والخليجية المستمرة لفرض تنفيذ القرار 1559 وتنفيذ صفقة القرن وتوطين اللاجئين الفلسطينيين وابقاء النازحين السوريين. ويضاف أيضا الى ذلك، تشديد الضغوط من أجل دفع لبنان ليصبح في قائمة الدولة المطبّعة مع الكيان الصهيوني.

 

وقد بانت مؤشرات ذلك في اتفاق الاطار حول ترسيم الحدود عبر الاعلان الرسمي عنه بصفته اتفاقا بين دولة لبنان ودولة "اسرائيل"، وكذلك في خط الغاز المسمى عربيا وهو خط  سياسي لضمان "أمن الطاقة" مع الكيان الصهيوني، فضلا عن التفاوض مع المندوب الأميركي – الأسرائيلي هوكشتين والتنازل للكيان الصهيوني عن حقوق لبنان النفطية والغازية المتعلّقة بترسيم الحدود عبر الامتناع عن تعديل المرسوم  6433  والتراجع الى الخط 23 بدلا من  التمسك بالخط 29 .

 

الرفيقات والرفاق،

 

مع استمرار تفاقم الأزمة في لبنان، ماذا سيكون عليه دور الحزب في ظل هذه المخاطر؟ ما هي المهمة المركزية المطروحة امامه؟ وأية خطة سياسية وأولويات مرحلية نستطيع من خلالها ان نراكم النشاط والجهد وفق استراتيجية واضحة لعملنا؟ 

انها مرحلة الخيارات الكبرى التي ترسم للمنطقة ولبنان جزء منها وقضيته وأزمته مرتبطة بما ستؤول اليه أزمة المنطقة. وهي مرحلة شبيهة الى حد بعيد بالمرحلة التي سبقت اتفاق الطائف. فما يحضّر من اتفاقات للأقليم وفيه،سينعكس حتما على لبنان. وهذا ما نحذر من مخاطره ونعمل في الحزب لمواجهته عبر تعبئة كل الطاقات الشعبية تمهيدا لصنع البديل من موقع يساري علماني تقدمي وديمقراطي . 

لقد بذلنا جهودا جبارة طوال ثلاثين عاما حتى لا نصل الى ما وصلنا اليه، ودفعنا أثمانا باهظة، وكنا في مقدمة الصفوف مع رفاق وأصدقاء وقوى وطنية ويسارية وعلمانية ومدنية لاطائفية قبل الانتفاضة، وخلالها وبعدها، من اجل تجميع القوى وبناء التحالف السياسي والطبقي الضروري لإنضاج البديل وتعديل موازين القوى. والسؤال الوجيه : لماذا لم يتمكن الحزب من تشكيل هذا التحالف القادر على تجاوز المعوقات؟ علينا ان نقدم إجابات واضحة حول هذه المعوقات وأسبابها والتي يتمثّل الأهمّ منها في الآتي:

بدأت بعد الحرب الأهلية مرحلة جديدة في تاريخ البلد، من عناوينها السياسية الأولى انتقال الأغلبية الساحقة من أحزاب الحركة الوطنية الى السلطة وتشكيل التحالف السلطوي- المالي الذي تسلم الحكم برعاية سورية وسعودية – أميركية، وقد تصدّى الحزب الشيوعي لهذا التحالف ورعاته، بالرغم من تفكيك قاعدة تحالفاته السياسية .

 

على صعيد البنية الطبقية، تراجع الوزن النسبي للطبقة العاملة بسبب طغيان النمط الاقتصادي الريعي برافعتيه الأساسيتين المالية والعقارية منذ مستهلّ التسعينيات، وكذلك بسبب الانخفاض المدوّي في وزن القطاعات المنتجة وتدهور اقتصاد الأرياف، ووقوع فئات وازنة من المنتجين ضحايا لتزايد نفوذ الاحتكارات وتحكّم المصارف بقنوات التسليف وازدياد العبء الضريبي وبيروقراطية جهاز الدولة الإداري. ومع ذلك، فان البنية الخدمية الغالبة في الرأسمالية اللبنانية لم تحل دون استقطاب نسبة وازنة من مجموع العاملين بأجر في مؤسسات كبرى في قطاعها الخدمي. لقد ترسّخ الاستخدام الوظيفي للطائفية فأصبحت الأحزاب الطائفية هي الطائفة، وانسحبت آثارها  التفتيتية ديموغرافيا وسكنيا وفي سوق العمل وأجهزة الدولة وتعييناتها الوظيفية، كما في التعليم والاعلام والثقافة ومجمل آليات العملية الانتخابية وغيرها. وهذا ما يجعل مسألة تعطيل تلك الأداة مهمة محورية بالنسبة الى الحزب كي يتمكّن من تحقيق أهدافه

 

لقد تمت مصادرة الحقوق النقابية للقطاعات العمالية والشرائح الاجتماعية الوظيفية وسائر الأجراء والمزارعين الكادحين لمصلحة قوى المحاصصة ونظام الزبائنية. فنصف المسجلين في الضمان الأجتماعي كسائقين هم غير سائقين، وكذلك نصف الحائزين رخص زراعة التبغ هم من غير المزارعين. وينطبق هذا أيضا على سائر القطاعات. لقد اضطلع " نظام المحاصصة" بدور تكييفي وتأطيري لشرائح واسعة من الأجراء والعمال ، عبر تشويه وعيهم لمصالحهم الفعلية، والاشاعة المنتظمة لمشاعر الترهيب والترغيب والشحن الإعلامي والفئوي والمذهبي وآليات الضبط الطائفي- المناطقي، فضلا عن توزيع فتات المنافع الزبائنية الصغيرة بما فيها بعض أشكال الدعم، حتى ظن هؤلاء ان ولاءهم لزعيم الطائفة هو السبيل الوحيد لتحقيق امنهم الاجتماعي .

 

ما العمل؟

لقد رسمت الوثيقة برنامج الحزب للمرحلة الانتقالية ووجهة التحرك في ميادين وعلى مستويات عدة، وهي تتسم بتعدد الأولويات والمهام والتحديات التي على الحزب ان يستجيب لها.

وبالاستناد الى تاريخ التجارب الثورية في العالم، فاننا ندعو الى تركيز الجهد وتكثيفه في المواقع الحزبية الأكثر أهمية وتأثيرا بهدف مراكمة هذا الجهد وتأمين الحضور والاستمرارية من جهة، واستثمار ذلك من جهة أخرى في إعادة بناء الكوادر الشابة، عمالا وعاملات، طلابا وطالبات، أجراء وموظفين، أساتذة ومعلمين ومتعاقدين وعاملين لحسابهم الخاص، مهنيين ومعطّلين من العمل،  بهدف زيادة دور الحزب في المواقع الأكثر فعالية من حيث الممارسة الطبقية، والأكثر أهمية في معالجة تركيبة الحزب الديمغرافية والعمرية.

إن التغيير الديمقراطي في لبنان هو عملية تغيير في النظام السياسي وطبيعة السلطة وسياساتها وتحريرها من سيطرة وممارسات التحالف السياسي القائم، الذي يسخّر الدولة للمصالح الفئوية ويترك البلد ساحة مستباحة للقوى الاستعمارية والرجعية العربية، وذلك كمدخل لوضع حد للتبعية والتفكك الاقتصادي.

هذه المقاربة تستند إلى رؤية واضحة للخيار السياسي والاقتصادي المبني على ضرورة بناء تحالف طبقي – سياسي يحمل خيارا اقتصاديا – اجتماعيا متحررا من الإلزامات الإكراهية للموقع الذي وضعته فيه القوى الطبقية المسيطرة، بنسختها القديمة كما بتلك التي استجدت بعد اتفاق الطائف ضمن التقسيم الدولي الرأسمالي للعمل بصفته نظام خدمات، وسوقا للإستهلاك.

 إنه خيار يؤسس لتطور وطني قائم على قراره الحر اقتصاديًا من جهة، وعلى رؤية وطنية واضحة في مواجهة خطر الكيان الصهيوني الذي يشكّل قاعدة متقدمة للإمبريالية في وطننا العربي من جهة ثانية. وهذه الرؤية ينبغي أن تتضمن الخطوات التالية:

أولاً،.تمسك الحزب بالتزامه التاريخي بالدفاع عن الوطن ومقاومة العدوان والاحتلال الصهيوني وكل الاعتداءات الخارجية ودعم قضية الشعب الفلسطيني وقضايا الشعوب العربية في مواجهة الاحتلال والتبعية والسيطرة والتجزئة تجسيدا لموقفه الرافض للمشروع الأميركي- الصهيوني في المنطقة والداعي الى مواجهته.

كما نؤكد  على مبدأ الجمع العضوي ما بين استعداده للنضال المسلح في اطار الدفاع عن الوطن في وجه المخاطر العدوانية الخارجية، ونضاله السياسي والاجتماعي الداخلي من اجل التغيير الديمقراطي وقيام الدولة العلمانية الديمقراطية. إنها مهمة جامعة وموحّدة، وأعباؤها تقع على عاتق اللبنانيين جميعا، وتعود إنجازاتها بالفائدة عليهم أيضاً.

ثانياً، بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، كبديل للدولة الطائفية الفاشلة، دولة تقوم على أساس مشروع سياسي واضح وبرنامج اقتصادي واجتماعي يستند إلى مرتكزات أساسية، أهمّها الآتي:

قانون انتخابات نيابية عصري، يكون مبدأ المواطنة أساساً جدياً فيه؛ إلغاء القيد الطائفي واعتماد النسبية والدائرة الواحدة أو الدوائر الموسّعة. إقرار قانون عادل نسبي للحكم البلدي يعزّز مقومات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الإطار المحلي، ويحدّ من استمرار حصر وتركّز معظم الموارد والثروات في قبضة الحكم المركزي. وضع قانون وطني جديد للأحزاب السياسية يتماشى مع عملية التحرّر التدريجي من الطائفية. النضال من أجل بناء القضاء كسلطة مستقلة محصّنة بمهنيتها واستقلاليتها، كبديل لإستمرار رهنه للقوى المسيطرة سياسيا واقتصاديا. مقاربة موضوع حقوق العمال والأجراء والموظفين وعموم المواطنين، كحقوق متوجبة التحقيق، وليس بصفتها منّة من أحد، والانحياز الطبيعي إلى قضايا الفئات الشعبية والفقراء وذوي الدخل المحدود. قانون مدني موحد للأحوال الشخصية، وقوانين مدنية وعصرية للأحزاب والنقابات والجمعيات تحفظ الحريات السياسية والاجتماعية، العامة والفردية، فضلا عن استحداث تشريعات ناظمة لمفهوم الإقامة والجنسية والمساواة في النوع الاجتماعي والقضية النسوية وغيرها، تحقيقا لمبدأ المواطنة كأساس للانتماء الوطني وتجسيداً له. سياسات عامة تهدف الى إعادة توزيع الثروة، وتقديم المصلحة العامة على مصالح رأس المال عبر تأمين حقوق المواطنين في الأجر والصحة والتعليم والعمل والسكن والنقل...

 

إن تحالفات الحزب ينبغي أن تشمل طيفا واسعا من القوى الاجتماعية، بدءا من الطبقة العاملة وحركات عمالية ونقابية نظامية وغير نظامية تبحث عن الانعتاق من أسر الصيغة الراهنة للاتحاد العمالي العام، مرورا بنقابات المهن الحرّة وبالشرائح الدنيا من الفئات المتوسطة في المدينة والريف، فضلا عن أحزاب وحركات سياسية وشخصيات وطنية.

 

ويجب أن تشمل أيضا – تبعا لسمة المرحلة – فئات محدّدة من المرتبطين بالإنتاج المحلي، لا سيما الصناعيون والبورجوازية الصغيرة والمتوسطة ومنظمات مدنية غير مرتبطة بأجندات القوى الطائفية والسفارات الأجنبية والمنظمات الدولية الدائرة في فلكها.

 وبشكل أعمّ وأشمل يجب أن تنفتح تلك التحالفات على كلّ من تعنيه مسألة كسر الطوق الطائفي والمذهبي الذي يعترض تقدّم مبادىء المواطنة في الحياة العامة، شرط أن لا يكون خاضعا لطروحات تقسيمية أو فيديرالية ولا لأجندات خارجية. والتقدّم على طريق بناء تلك التحالفات لن يتحقق ما لم تتم مواكبته بعمل الحزب، قواعد ومنظمات وقيادات، من أجل تعزيز قدراته وحضوره في مجالات النضال كافة.

 

لنذهب إلى العمال حيث هم: في موقع العمل، في محل الإقامة، في النقابة، الخ... بهدف تشكيل لجان عمالية لهم في الأحياء والمصانع والمعامل والشركات والمخازن وخلافها الكثير، ولنذهب الى حيث العمل المأجور، في الصناعة، على امتداد لبنان، وحيث يتركز بخاصة في جبل لبنان وبيروت الكبرى، والى المزارعين في الريف والى حيث تنتشر قوة العمل الماهرة، في المدارس المهنية وفي مختلف مراحل التعليم العام والجامعي والتقني، ولنذهب الى تشكيل لجان طلابية نقابية والى منظماتنا الحزبية كي يلتزم الشيوعيات والشيوعيين بالانتماء إلى النقابة التي تمثلهم مهنيًا أو هي الأقرب إلى تمثيلهم. فمع الانهيار الحاصل وحال الافقار، فان المجال بات مفتوحا للخطاب الطبقي الذي يجب أن ينتشر، لا سيما بين صفوف المعطّلين من العمل والمسرّحين منه.

لنذهب اذن الى توسيع دائرة التحركات لتشمل القطاعين العام والخاص والبلديات، والمجموعات والحراكات الشعبية والمدنية التواقة للتحرر من هذه السلطة الطبقية المنحازة الى عالم المال والإستغلال وهدر المال العام عبر الصفقات وآليات التوزيع الطوائفي والزبائني والمنحازة أيضا لنظامها القاتل.

 

لنعمل على تحرير هذه التحركات من طابعها المطلبي وعلى إدراجها ضمن صيرورة التغيير السياسي المتلازم حكما مع التحرر الوطني. فالمواجهة الشعبية ضدّ تحالف البورجوازية والزعامات الطائفية اللبنانية ونظامها القاتل ، هي في الوقت ذاته مواجهة ضدّ بورجوازيات دول المركز الرأسمالي وأذرعها الأقتصادية والمالية المتمثلة بالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

 

 

ولنكن كما كنا دوما حزبا مقاوما للمحتل الصهيوني وفي مواجهة اي عدوان له على لبنان، حزبا للتحرر الوطني والاجتماعي، حزبا للتحرير والتغيير، وهو الذي مارس كل أشكال النضال  والأمثلة التاريخية  لا تزال حيّة: من معركة  الاستقلال السياسي ، الى مرحلة النضالات الاجتماعية والنقابية الكبرى في الستينيات والسبعينيات، الى إطلاق تجارب مختلفة من العمل المقاوم والمسلّح ضد العدو الصهيوني وبخاصة "جمّول" (1982). وصولا الى انتفاضة 17تشرين التي سعينا فيها إلى إبراز معيار المصالح الحقيقية مكان معيار "الهويات" والعصبيات الضيّقة التي تتغذّى من فتات المصالح الزبائنية في ظل تبعات الانهيار الاقتصادي والمالي.

 

وعليه، وانطلاقا من روح انتفاضة 17 تشرين، واستكمالا للمواجهة ضد قانون الانتخابات وضد تحالف أحزاب السلطة الطائفية والمذهبية وقوى رأس المال المالي والريعي (التحالف الذي أقرّ هذا القانون)، فقد دعت اللجنة المركزية للحزب إلى خوض هذا الاستحقاق الانتخابي مع أوسع تحالف لقوى التغيير الوطني والديمقراطي والعلماني واللاطائفي، باعتبار هذه الانتخابات محطة سياسية لأدانة المنظومة على جرائمها في الانهيار الشامل الذي تسببت به، ولمواصلة تظهير مواقف الحزب من النظام السياسي-الطبقي وأطرافه المختلفة.

إن الحزب الشيوعي سوف يناضل ويكافح: ضد الخطر الصهيوني والتدخلات الأجنبية (لا سيما الأميركية) ضد خطر التقسيم والفيديرالية والحياد ضد الثنائيات (على أنواعها) وخطر العودة الى أجواء الحرب الأهلية واستخدام الشوارع الطائفية والمذهبية وخطاب الشحن الطائفي، ضد استخدام الدين وسيلة سياسية سلطوية لحماية المرتكبين . ضد الاستسلام لشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ضد خصخصة الأصول العامة وبيعها ونهبها ضد تقاسم النفوذ في البلد غداة أي اتفاق أميركي – ايراني قد يحصل حول الموضوع النووي ضد استمرار حالة الإنكار عمّن تسبّب بالانهيار ونهب المال العام وتهريب الأموال الى الخارج ضد استمرار الاحتكارات والسرية المصرفية والتمثيل التجاري ضد تعطيل أليات المحاسبة والتهرب من المسؤولية في جريمة انفجار المرفأ ضد السياسات المالية المتحيّزة والنظام الضريبي غير العادل ضد الاستمرار في تدمير مرافق البنى التحتية ونظم الخدمات العامة الأساسية

أما الهدف المرتجى من النضال ضد هذه المخاطر كلّها فهو من أجل :

التأسيس لبناء الدولة الديمقراطية العلمانية في لبنان، في هذا الحزء الحيوي من المشرق العربي. حماية المصالح الفعلية لغالبية اللبنانيين والكادحين منهم على وجه الخصوص تحسين شروط عيشهم وتعليمهم وعملهم توفير شبكات الحماية الصحية والاجتماعية لهم تحفيز نشاطهم وحراكهم تعديل موازين القوى السياسية والاجتماعية القائمة بناء التحالف الاجتماعي والسياسي، اطارا جامعا للتغيير ، وبالتغيير ايضا نقاوم

 

كلنا معا، ايتها الرفيقات والرفاق، يدا بيد، لنؤكد على انجاح مؤتمرنا ليكون :

على مستوى آمال الشيوعيين واليساريين والوطنيين وطموحاتهم، على مستوى تطلعات وانتظارات شعبنا بأسره، عمالا وطلابا ومثقفين ونساء وشبابا، طحنهم استغلال النظام الرأسمالي وفساده، ونهب ثمرات عملهم وجهدهم، وأقفل باب الحياة الحرة الكريمة أمامهم، وليكن مؤتمرنا الثاني عشر تأكيدا وتجسيدا لحزبنا المقاوم والمناضل من اجل التحرير والتغيير ، من اجل وطن حر وشعب سعيد.

 

    عاش المؤتمر الوطني الثاني عشر لحزبنا الشيوعي اللبناني

     والمجد والخلود لشهدائه  الأبرار

# موسومة تحت : :