كلمة الرفيق حنا غريب في منتدى اليسار الأورومتوسطي
شكّلت الليننية في الطور الإمبريالي من الرأسمالية أول محاولة لتطوير الماركسية، عبر إكتشاف مفاعيل قانون التطور المتفاوت للرأسمالية، باعتبار الرأسمالية العالمية ذات بنية مزدوجة: بنية إمبريالية مسيطرة ومهيمنة، ورأسمالية تابعة وخاضعة للأمبريالية. وبالإستناد الى هذا الفهم الذي تجسّد في شعار " يا عمال العالم ويا ايتها الشعوب المضطهدة اتحدوا " برزت ضرورة إستخلاص آلية الإنتقال من الرأسمالية إلى الإشتراكية في البنية الرأسمالية التابعة.
1- ما هو التحرر الوطني والاجتماعي؟
ان فهمنا لآلية هذا الإنتقال يتمحور في موضوعة التحرر الوطني والاجتماعي، من حيث هي عملية تغيير في بنية علاقات الإنتاج الرأسمالية التبعية بهدف تحقيق الإشتراكية. ان مهمة الحزب الثوري تكمن في اثبات راهنية هذا الفهم القائل بإستحالة تحقيق التطور المستقل والضروري لبلادنا ضمن رأسمالية تابعة للأمبريالية تشكّلت كنتاج للعلاقة الكولونيالية (الإستعمارية )، والتي تجسّد القاعدة المادية لسيطرة الإمبريالية على بلادنا ونهب ثرواتها .
ان التحرر الوطني والاجتماعي هو عملية تحرر من الرأسمالية التبعية لا عملية تحرير لها من قيود تبعيتها للامبريالية فقط ، بمعنى انها عملية صراع ضد البرجوازية التبعية المحلية وضد البرجوازية الإمبريالية في آن . وحيث تم الفصل بين الأثنين - كما حصل في تجربة حركة التحرر الوطني العربية - فشلت المعركة في تحقيق شعاراتها حتى ان بعض فصائلها وتياراتها الفكرية تحوّل عندها العداء للإمبريالية الى مساومة ولاحقا الى خضوع لها والى تجديد علاقات الإنتاج الرأسمالية التابعة للإمبريالية.
2- القوة الطبقية المؤهلة لإيصالها الى تحقيق أهدافها:
ان الوضع الذي وصلت اليه حركة التحرر الوطني العربية بعد فشل كل مكونات البرجوازية الكولونيالية التابعة، التقليدية منها والمتجددة، يلقي الضوء على الإستنتاج المنطقي والتاريخي ومفاده أن تحقيق التحرر الوطني في بلادنا لن يتحقق ما لم تستلم الطبقة العاملة وأحزابها دفة القيادة ضمن أوسع تحالف من الفئات السياسية والأجتماعية ذات المصلحة في التحرر الوطني والاجتماعي.
لكن هذا الواقع النظري يختلف عن الواقع التاريخي التجريبي . فقد حالت الظروف التاريخية في بلادنا دون تحقق ذلك لأسباب عدة، منها موضوعية متعلقة بولادة الطبقة العاملة في ظل امبريالية مسيطرة ومهيمنة جعلت من بلدانها مجرد سوق لتصريف فائض الأنتاج الرأسمالي، ما لجم تطورها وتوسّعها وبالتالي أضعفها وجعلها عاجزة عن تصفية علاقات الإنتاج التبعية وكسب القوى الإجتماعية المرتبطة بها، ومنها أسباب ذاتية متعلقة بعجز الأحزاب الثورية الممثلة للطبقة العاملة، التي لم ترتق الى مرتبة القيادة الثورية للعملية التحررية ، إما بسبب نهجها السياسي القاصر أو بسبب من رؤيتها الفكرية.
فالطبقة العاملة التي ينبغي ان تقود التحرر الوطني والاجتماعي ليست في موقع القيادة، بينما البرجوازية التابعة للأمبريالية تحتل موقع القيادة وهي غير مؤهلة لتحقيق أهداف التحرر الوطني.هذه الحالة هي التي تجسّد أزمة حركة التحرر الوطني بما هي أزمة قيادتها البرجوازية وأزمة البديل الثوري.
3- أزمة حركة التحرر الوطني بما هي أزمة قيادتها البرجوازية وأزمة البديل الثوري.
لقد تمثّل مأزق البرجوازية الكولونيالية، التي وضعتها الظروف التاريخية في قيادة حركة التحرر الوطني، في طغيان الفكر القومي الذي يفصل مهمات التحرر الوطني عن التحرر الاجتماعي، معتبرا أن المهام التاريخية للحركة الشيوعية واليسارية العربية تتصل حصرا بالتحرر الاجتماعي، الذي يوصل للإشتراكية. انه الفكر الذي يقف عند تحرير الأرض من الاحتلال والهيمنة الامبريالية ليقيم رأسمالية الدولة القومية . في حين ان التحرر الوطني والاجتماعي يستوجب تحرير الأرض من الاحتلال وتحرر الانسان من الهيمنة الامبريالية ورأسماليتها المحلية التابعة لها. وبهذا المعنى ليس كل مقاومة هي عملية تحرر وطني واجتماعي بالضرورة ، لكن كل حركة تحرر وطني واجتماعي هي حكما مقاومة في جانب من جوانب كفاحها.
وربطا باستهدافات المشروع الامبريالي والصهيوني في فلسطين والمنطقة، فإن تحرير فلسطين واستعادة الحقوق الكاملة للشعب العربي الفلسطيني، هما من ضمن المهمات الأساسية لحركة التحرّر الوطني العربية، الى جانب إنجاز الوحدة العربية والتكامل الاقتصادي وتحقيق التنمية والتقدم الاجتماعي.
وعلى قاعدة هذا الفهم، واستلهاماً للتراث الغني للأحزاب الشيوعية وحركات التحرّر في العالم في مقاومة الغزاة، بادر الحزب الشيوعي اللبناني الى إنشاء الحرس الشعبي عام 1969 وقوات الأنصار مع أحزاب شيوعية عربية واطلاق جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية للتحرير والتغيير ، تحرير الأرض من الاحتلال وتحرير الانسان من الاستغلال الطبقي وكان دوره في النضال السياسي والاقتصادي والاجتماعي بارزا في تأسيس النقابات وفي قيادة التحركات النقابية والاجتماعية.
لقد أثبتت الأحداث ان موازين القوى وأدوات التغيير لم تكن تسمح للإنتفاضات العربية أن تحقق انجازات كبيرة وواعدة. ومع ذلك فقد أنتجت مناخا جماهيريا جديدا بإقحام الجماهير الشعبية في مسرح الصراع السياسي، وبفتح صفحة جديدة في تاريخ النضال الديمقراطي والصراع الاجتماعي والطبقي في البلدان العربية كلها. وينبغي الاعتراف في هذا الاطار بأن استمرار أزمة حركة التحرر الوطني والقوى الثورية العربية شكّل عائقا رئيسيا أمام إمكان اضطلاع هذه الانتفاضات بدورها الناجح في التصدّي لمهمّات التحررالوطني والاجتماعي، وبناء اقتصادات وطنية مستقلة وحماية الثروات الوطنية من النهب الاستعماري الذي يحول دون تطوير القوى المنتجة. ولم تتمكن هذه الانتفاضات من تحقيق الشعارات التي رفعتها كاملة بفعل غياب القيادة الطبقية السياسية لها وافتقادها الى البرنامج السياسي الواضح ما أفسح المجال أمام الثورة المضادة للإلتفاف عليها بعد ان انخرط فيها الاحتياط العميق للأنظمة الإستبدادية والإسلام السياسي والقوى الرجعية العربية فضلا عن تدخل القوى الإمبريالية والصهيونية.
وفي هذه المناسبة لا بد لنا من مطالبة مؤتمركم ، بتحميل السلطة السياسية اللبنانية ونظامها السياسي الطائفي التابع للامبريالية، والتي تستمر هذه الأخيرة بمضاعفة تدخلاتها وضغوطاتها في لبنان، مسؤولية الانهيار الكارثي الشامل الذي يهدد مصير لبنان ووجوده. هذا الانهيار الذي يدفع ثمنه الشعب اللبناني وطبقته العاملة التي تعيش اليوم بؤس الحياة والحرمان. داعين مؤتمركم الى ادانة الجرائم التي ارتكبتها هذه السلطة السياسية بحق لبنان وشعبه، والى الوقوف الى جانبه وهو الذي انتفض في 17 تشرين 2019 من اجل محاسبة السلطة السياسية والمسؤولين عن جريمة انفجار مرفأ بيروت ونهب المال العام وودائع ومعاشات التقاعد واموال الضمان الصحي للعمال والموظفين والمهنيين، ومن اجل بناء دولة علمانية ديمقراطية. مؤكدين على حقنا المشروع بتحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبلدة الغجرالمحتلة من قبل العدو الصهيوني.
4- حركة تحرر وطني من نوع جديد / مقاومة عربية شاملة
ومع استمرار الإمبريالية في ممارسة السياسات الإستعمارية، القائمة على تحويل دولنا إلى أدوات تابعة ومساهمة في تزويد اقتصادات المراكز الامبريالية بحاجاتها من النفط والغاز والموارد الطبيعية والبشرية، تبرز الحاجة الى مشروع نقيض وجامع لشعوب المنطقة، مشروع يفتح افق الانماء والتطور ويعيد لنا مكانتنا بين الامم. والمشروع الجامع لا يمكن ان يبنى على نظرة قومية او دينية شمولية بل على مشروع يخرج حركة التحرر الوطني من أزمتها ويجسّد المصالح الحقيقية للشعوب، بما فيها "الأقليات القومية" في العالم العربي، ويكسر علاقات الانتاج التابعة ويدفع في اتجاه التغيير الجدي في بنياننا السياسي والاجتماعي.
نحو مقاومة عربية شاملة: إن حركة تحرّر بهذه المواصفات يجب أن تستولد من رحم مقاومة عربية شاملة تتوحّد فيها طاقات القوى اليسارية والتقدمية حول أولويتين متلازمتين ومتكاملتين: أولوية المقاومة بكل الوسائل بما فيها خصوصا المقاومة المسلّحة ضد العدوان الصهيوني والاحتلال الأجنبي، وأولوية مواجهة نظم التبعية والقمع والاستبداد السياسي والاجتماعي التي شكّلت تاريخياً المرتكز الداخلي الفعلي لهذا العدوان.
إن العمل على بناء هذه المقاومة ينطوي على إنضاج الظروف المؤاتية لتعزيز دور قوى اليسار العربيّ في انتاج مشروع إنقاذيّ جذريّ بديل. مشروع له هويته الواضحة ومبادؤه وقيمه القائمة على التصدّي للإمبريالية والصهيونية، وعلى خوض النضال الدؤوب من أجل فك التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية. ومن خلال اعتماد استراتيجية التمرحل . ان الطبقة العاملة تعاني من ظاهرة ضعف التفارق الطبقي والتشتت ومن ضعف الحركة النقابية ونجاح البرجوازية وأحزابها في السيطرة على أجزاء واسعة منها .من هنا فإن التحرر الوطني لن يتحقق إلاّ عبر عملية تمرحل في الصراع الطبقي. ذلك أن القوى التي تشكل جيش التحرر الوطني والاجتماعي هي الجماهير الشعبية وهذه الجماهير متمركزة في خندق أعدائها. وهذا يعني أن عملية التحرر تتضمن إنجاز ما عجزت عنه البرجوازية وتحقيق ما تسعى اليه الطبقات الكادحة. من أجل ذلك تقضي الضرورة في مرحلة أولى بناء ميزان قوى يضغط لتغيير السياسات الإقتصادية الإجتماعية تكون قوامه الجماهير الشعبية التي ينبغي تحريرها بنضال ديمقراطي عام ، وهذا ما يؤمن الشروط للإنتقال الى مرحلة ثانية تبنى فيها سلطة وطنية ديمقراطية تكون دعامة اصلاحات إقتصادية –إجتماعية جذرية تتمثل في بناء قاعدة مادية إقتصادية هي شرط لضمان الإنتقال الى المرحلة الثالثة – مرحلة تحقيق الإشتراكية. إن هذه المراحل مجرّد محطات في مسيرة واحدة تستخدم فيها كل أشكال وممارسات الصراع الطبقي، حيث لا يقوم فاصل أو قاطع في ما بينها.فمرحلة التحرر الوطني والاجتماعي متلازمة مع مرحلة الإنتقال الى الإشتراكية وليست منفصلة عنها أو خارج سياقها التاريخي.