إنها معركة تغيير الطائف
اضطرّ حزب الله إلى ملء الفراغ الذي أحدثه انسحاب القوات السورية من لبنان، فوجد نفسه فجأةً ومن دون تخطيط مسبق في قلب اللعبة السياسية المحلية والتي كان قد تفاداها لسنوات خلت. عزّز الفريقان تحالفهما وأبرما تفاهم مار مخايل عام ٢٠٠٦. في تلك المرحلة، وجد الحزب في التيار العوني حليفاً مسيحيّاً له. وهو الأمر الذي افتقده طوال فترة وجوده على الساحة السياسية. كما أن التيار استفاد من حزب الله وشبكة علاقاته الإقليمية كي يتمدّد أكثر في مفاصل الدولة.
في الأعوام التي تلت التفاهم، بنى التيار سردية وجوده والتي تتعلق بشكل رئيسي باستعادة حقوق المسيحيين بعد التهميش الذي أصابهم في الطائف، إذ نزع منهم صلاحيات أساسية كانت بعهدة رئيس الجمهورية، وأصبحت بيدِ الحكومة ورئيسها "السنيّ". لحزب الله أيضاً مصلحة في تغيير الطائف، لأنّ الحصة الشيعية التي عهدت إلى الطائفة الشيعية إبّان الطائف ذهبت لحليفه الاستراتيجي (نبيه بري). بالإضافة إلى ذلك، يريد حزب الله ضماناتٍ عديدة تضمن للشيعة حقوقاً أساسية، وذلك ليحصّن طائفته أمام أيّ تنازل قد يُقدم عليه مستقبلاً، بخاصة على ضوء النزاع الأميركي- الإيراني وما قد ينتج عنه، وتتويجاً لفائض قوّته الذي مكنّه من القيام بدورٍ بارز على مستوى الإقليم فيما حجمه في لبنان ظلّ محصوراً بتفاهات اتفاق الطائف. ولم يعد حزب الله يخاف من الإتيان برئيس جمهورية يخالف عقيدته، لأنّه مَن أتى بالرئيس الحالي وهو الذي سيأتي بالرئيس القادم على الأرجح. لذلك، فهو موافق ضمنيّاً على عودة مارونية قوية إلى جنّة الحكم اللبناني.
في عام ٢٠١٨ ستكون "اللحظة الثورية" للفريقين. حزب الله وحلفاؤه ينتزعان أغلبية مقاعد المجلس النيابي بعد أن سيطر عليها تحالف ١٤ آذار في انتخابات ٢٠٠٥ و٢٠٠٩. إذ حصد التيار الوطني الحرّ أغلبية مقاعد المسيحيين في البرلمان، وبات باستطاعة الطرفين تغيير قواعد اتفاق الطائف، لكنّ الحزب أوكل الأمر إلى التيار كلاعب هجوم وظلّ هو بعيداً عن الأنظار ((Low profile إزاء ما يحصل. وقد يفهم من استهداف حزب الله –عبر نائبه حسن فضل الله– لملفّات فساد تطال فقط الحريرية السياسية، وكأنه استهدافٌ مباشر لتركة الطائف (الحريري- جنبلاط)، وبالتالي التخلص من قلاع الحريرية في الإدارة العامة، علماً أنّ جميع الفرقاء شاركوا في عملية الفساد والإفساد في مرحلة ما بعد الطائف، وبخاصّة حليف حزب الله الشيعي.
فور تشكيل حكومة "إلى العمل"، بدأ جبران باسيل هجوماً سياسيّاً على أكثر من صعيد، متناولاً موضوع المناصفة في الحكم، ومحوّلاً إيّاها إلى سردية طائفية بات يكرّرها في جميع مناسبات حزبه. في الوقت نفسه، بدأ التوتر يسود بين الحريري من جهة وعون وباسيل من جهة أخرى، على خلفية تدخل الأخير في وضع جدول أعمال الحكومة وإدارة ملفاتها. في حقيقة الأمر، من يعتقد أن حزب الله غير موافق على ما يقوله ويفعله باسيل في الآونة الأخيرة، خاطئ. إذ ترك الحزب لحليفه أن يكون في واجهة الأحداث فيما الحزب يقوم بتعبيد الطريق له (انتزاع حصة للقاء الوطني في الحكومة، توزير طلال أرسلان بالنيابة، حادثة قبرشمون، ...إلخ). وبذلك يفرض الطرفان حضورهما في كلّ شاردة وواردة في ملاعب السياسة اللبنانية.
يعلّمنا التاريخ السياسي اللبناني أنّه وفي حال شعرت أي طائفة بغبن فإنها ستخوض معركة وجودها بالدّم، وهذا يحصل على شكل إمّا حرب أهلية (١٩٧٥) أو "ميني حرب" (١٩٥٨). في حقيقة الأمر، إنّ البلد يغلي بعشرات القضايا التي قد تشكّل أرضية خصبة لأيّ نزاع أهلي نذكر منها: العنصرية ضد اللاجئين السوريين أو الفلسطينيين ومحاولة شيطنتهم، الحقد الطائفي والمذهبي، أوضاع اقتصادية آخذة بالتدهور لمعظم اللبنانيين، تدخلات إقليمية ودولية في شؤون لبنان، اغتيالات سياسية كبيرة قد تحدث على غرار اغتيال رفيق الحريري وما قد ينتج عنها. إذا قد يشكّل أيّ من هذه العوامل مادةً تفجيرية، وقد تكون جميعُها عواملَ تفجيرية. ويبقى الأسوأ أن تأخذَ الطوائفُ فرصةَ الانهيار الاقتصادي (المقبل لا محالة بحسب معظم الخبراء) كمطية لخوض معاركها.
قد تكون حادثة قبرشمون وتداعياتها التي لم تُعالج لغاية كتابة هذه السطور مدخلاً لفراغ حكومي قد يطول. وبغض النظر عن مسارات حلّ قضية قبرشمون، قد تشكّل هذه الحادثة وما قد يليها من توترات سياسية-أمنية مدخلاً لطرح فكرة المؤتمر التأسيسي. وبهذا يكون الطرفان قد باشرا رسميّاً بمعركة تغيير الطائف.
المعركة بدأت من دون شكّ. ولكن كيف ستنتهي؟ هنا ستبدأ حكاية أخرى من حكايات الطوائف اللبنانية.