الجمعة، تشرين(۲)/نوفمبر 15، 2024

هل عادت أوهام "طريق التطور اللارأسمالي"؟

رأي
أثارت نظريّة "طريق التطوّر اللارأسمالي" التي طرحها الحزب الشيوعي السوفياتي خلال منتصف القرن الماضي حول مسار الانتقال نحو الاشتراكية في دول العالم الثالث ، نقاشاً نظريّاً حادّاً داخل الحركة الشيوعية، حيث تبنّاها بشكلٍ رسمي لقاء الأحزاب الشيوعية والعمالية العالمي والأحزاب الأقرب إلى الاتحاد السوفياتي وصارت إحدى ركائز السياسة الخارجية لدول المنظومة الاشتراكية، فيما رفضها طيفٌ واسعٌ من الأحزاب والمفكّرين الماركسيين وظلّت موضع نقاش داخل الحركة الشيوعية.

ويمكن تلخيص الفكرة الأساسيّة لهذه النظرية في أنّ ظروف التطور الرأسمالي لم تكتمل بعد (في حينه) في دول العالم الثالث، ولم يحصل التفارق الطبقي فيها ولم تتشكّل فيها طبقة عاملة قوية يمكن أن تحمل الفكر الاشتراكي الثوري، وبالتالي لا توجد فيها بعد الظروف الموضوعية التي تتيح للأحزاب الشيوعية تحقيق الثورة الاشتراكية. لذلك، تستلزم عملية الانتقال إلى الاشتراكية فيها من دون المرور بالرأسمالية، مرحلتيْن منفصلتيْن. في المرحلة الأولى، تقوم شعوب هذه الدول بتحقيق "الثورة الوطنية الديمقراطية" ضدّ الامبريالية بقيادة "ديمقراطيين ثوريين" من قوى البورجوازية الصغيرة ضمن تحالف سياسي واسع يمثّل مختلف الطبقات الاجتماعية. وتقول النظرية أنّ وجود منظومة اشتراكية قوية على مستوى العالم، ووجود أحزاب شيوعية فاعلة في هذه الدول تقوم بالمشاركة والدعم لهذا التحالف العريض بقيادة البورجوازية الصغيرة سوف ينهي السيطرة الامبريالية على هذه الدول ويهيّئ الظروف المناسبة لتطوّر الطبقة العاملة وتقدّم الأحزاب الشيوعية داخل التحالف وتنظيم الناس وتعبئتها، ممّا سيتيح الظروف الموضوعية والذاتية لتحقيق الثورة الاشتراكية في المرحلة الثانية بقيادة الأحزاب الشيوعية. وبالتالي أطلق على المرحلة الأولى اسم "طريق التطور اللارأسمالي"، كمرحلة انتقالية بين البنى السابقة للرأسمالية في الدول المتخلفة وبين الاشتراكية كهدف استراتيجي للأحزاب الشيوعية.
إنّ تحقّق هذا المسار بحسب النظريّة المطروحة يحتاج إلى توفّر عدة شروط وهي أنْ تكون الدول في مراحل ما قبل رأسمالية أو مراحل الانتقال الأولى إلى الرأسمالية، وأن يكون فيها قوى ثورية من البرجوازية الصغيرة لديها الإرادة والبرنامج لتطوير علاقات الإنتاج وتغيير نمط الإنتاج القديم، وأنْ تكون هذه القوى معادية للإمبريالية، وأن تتيح للقوى الاشتراكية داخل بلدها أن تعمل وتنظّم الجماهير وترفع وعيها الطبقي، فضلاً عن قطع علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية مع دول المركز الرأسمالي وصياغة علاقات خارجية متعاونة مع المنظومة الاشتراكية.
لقد بنى منظرو "طريق التطور اللارأسمالي" نظريتهم على مقولات من المادية التاريخية، وفقاً لأربع مرتكزات فكرية:
1. أنّ تغيير البنى الفوقية السياسية وأشكال الوعي الاجتماعي يحتاج إلى تطوّر القوى المنتجة.
2. أن التاريخ الإنساني ما قبل الاشتراكي يمرّ بمراحل المشاعية فالعبودية والإقطاعية ثم الرأسمالية، غير أنّه يمكن تخطي إحدى المراحل في مجتمع ما في ظلّ اكتمال الظروف العامة دوليّاً.
3. على الرغم من أنّ الصراع الطبقي هو الصراع الرئيسي في التاريخ غير أنّ تناقضات أخرى قد تتقدّم كي تصبح تناقضات رئيسية في أوقات محدّدة مثل الصراع بين المنظومتيْن الاشتراكية والرأسمالية في حينه.
4. الدولة هي جهاز طبقي لكن من غير الضروري أن تسيطر عليه طبقة واحدة، إذ يمكن في المراحل الانتقالية أن تقود الدولة تحالفات طبقية واسعة.
قسّمت النظرية، التي صاغها عدد من الأكاديميين السوفيات ، العالمَ إلى ثلاثة محاور: الامبريالية (المضطهِدة) بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، والدول المضطهَدة. وتسعى الامبريالية للسيطرة على العالم من خلال محاولات التفوّق على المنظومة الاشتراكية وإخضاع حركات التحرر الوطني، وتعميق سيطرتها على الدول المضطهَدة والحفاظ على تخلّفها الاقتصادي. وبالتالي كانت التناقضات الرئيسية التي تحكم الصراع في العالم بحسب ترتيب أهميتها:
1. التناقض بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الامبريالي.
2. التناقض بين الامبريالية والدول المضطهَدة بقيادة حركات التحرر الوطني.
3. التناقض بين الامبريالية والطبقة العاملة في المركز الرأسمالي.
لذلك اعتبرت النظرية أن حركات التحرر الوطني تميل نحو الاشتراكية حيث أتاح التزامن بين صعود الحركة الاشتراكية في العالم وصعود حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث أن تنحاز هذه التحركات نحو الاشتراكية وأدى إلى نشوء جبهة موحدة لمناهضة الامبريالية.

الجذور التاريخية:
يعود النقاش حول آليات الانتقال إلى الاشتراكية في الدول المتخلفة إلى زمن ماركس نفسه الذي وضع نظريته مستنداً إلى تحليله الملموس للواقع الملموس في بلدان المركز الرأسمالي الأكثر تطوّراً في أوروبا الغربية. وفي حين كانت الرأسمالية لا زالت في بدايات صعودها الصاروخي في القارة الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، كانت الأجزاء الأوسع من العالم تعيش في ظل نظم إنتاج سابقة على الرأسمالية، وتحديداً الإقطاعية وأشكال متبقية من العبودية ونمط الإنتاج الآسيوي وبنى تقوم على لا تفارق طبقي ودخلت إليها علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة من خلال الاستعمار. لذلك، احتاجت الماركسية إلى جهدٍ نظري إضافي بدأه ماركس وأنغلز بشكل محدود في حينه، لدراسة هذه الأنماط وآفاق تطوّر الصراع الطبقي فيها. كما شكّلت هذه المسألة تحديّاً أمام لينين بعد انتصار الثورة في روسيا التي كانت أضعف الحلقات الرأسمالية، إذ كانت معظم الجمهوريات التي انضمّت إليها من الدول المتخلفة التي لم تتطوّر فيها الرأسمالية بعد. وبالنسبة إلى لينين، كان تطور هذه البلدان نحو الاشتراكية مرهوناً بالنضال الفكري والسياسي للحركة الشيوعية فيها، وبالدعم الذي يوفره الاتحاد السوفياتي، وباتباعها النموذج السوفياتي الذي يمكنها من الولوج إلى الاشتراكية من دون الحاجة إلى اكتمال مرحلة التطور الرأسمالي فيها . وفي الفترة التي تلت لينين، تبنى الحزب الشيوعي السوفياتي خلال قيادة ستالين الطرح الذي يقول بضرورة قيادة الحركة الشيوعية لعملية التغيير في الدول المتخلفة ، حيث قال ستالين في المؤتمر الخامس للحزب: "حان الوقت لطرح مسألة هيمنة البروليتاريا في الصراع التحرري في المستعمرات مثل الهند...، ومن الضروري سحق كل البرجوازيات الوطنية المساوِمة، لتحقيق تحرر وطني حقيقي من الامبريالية" ، قبل أن يعود الموقف الرسمي إلى فكرة المرحلة الانتقالية التي تقودها البورجوازية الصغيرة في المؤتمرات الحزبية التالية لتعتمدها المنظومة الاشتراكية كسياسة رسمية حتى انهيار الاتحاد السوفياتي.
التجربة المحققة
شكّلت المرحلة الزمنية الممتدة من خمسينيّات إلى سبعينيّات القرن الماضي العصر الذهبي للاستقلال والقضاء على الاستعمار بشكله القديم، ونضال شعوب آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية للتحرّر والتقدّم والتغيير. وشهدت العقود التي تلت الاستقلال صراعاً حادّاً بين القوى المتحالفة مع الامبريالية من برجوازيات تابعة وقوى إقطاعية آخذة في التحول نحو الرأسمالية من جهة، وقوى وطنية وقومية واشتراكية من جهة أخرى. ومع سلوك نظرية التطور اللارأسمالي طريقها لتصبح النظرية الرسمية السائدة في المعسكر الاشتراكي، نظّر الاتحاد السوفياتي وسعى لتشكيل جبهات عريضة وتحالفات مع بنى طبقية واسعة بقيادة تنظيمات البرجوازية الصغيرة. ووصل الأمر في بعض البلدان إلى حد الطلب من الأحزاب الشيوعية أن تحلّ نفسها وتنتظم في هذه الأطر، كما حصل في مصر إبّان الحكم الناصري. وفي العديد من الدول نجحت حركات التحرّر الوطني بقيادة القوى القومية في الوصول إلى السلطة ضمن هذه الجبهات. غير أنّ المرحلة التي كان من المفترض أن تكون انتقالية ويتاح فيها للحركة الشيوعية أن تعمل بين المواطنين وتهيئة الأجواء للانتقال إلى الاشتراكية في ظل دعم الاتحاد السوفياتي، لم تحصل على الإطلاق، لا بل حصل العكس تماماً. إذ كان أول ما قامت به حركات التحرر الوطني هذه هو القضاء على الحركة الشيوعية سواء عبر التصفية الجسدية والإعدامات كما حصل في العراق والسودان ولاحقاً في إيران، أو عبر تقييد الأحزاب الشيوعية ومنعها من العمل بين الجماهير كما حصل في سوريا ومصر والجزائر وغيرها. ولعلّ إحدى أفظع نتائج القمع الجسدي الذي قامت بها قوى القيادة القومية والدينية لحركات التحرر الوطني كان إعدام الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو على أيدي المخابرات المصرية والسورية في العام 1959 وتصفية قادة الحزب الشيوعي العراقي، وإعدام أمين عام حزب توده في إيران في بث مباشر على الهواء. لقد حصل كلّ ذلك وسط صمت دولي عام بما فيه الموقف الرسمي السوفياتي.
راهنية النظرية
لقد فشلت مرحلة التطور اللارأسمالي في خلق ظروف الانتقال إلى الاشتراكية، ومعها دفعت الحركة الشيوعية في البلدان التابعة أثماناً قاسية وقاتلة في خدمة نظرية أرادت من خلالها القيادة السوفياتية أن توسّع قاعدة تحالفاتها الدولية باتجاه العالم الثالث في خضم صراعها مع المنظومة الامبريالية، فاختلقت نظرية فكريّة لخدمة الأهداف السياسية، على طريقة وضع الحصان أمام العربة.
وبسبب سيادة هذه النظرية في الخطاب الرسمي للحركة الشيوعية لعدة عقود، لا تزال تأثيراتها موجودة حتى الآن. لذلك على الحركة الشيوعية اليوم، وهي تستعيد دورها في مواجهة الرأسمالية والامبريالية، أن تقدم إجابات علمية وحاسمة عل هذه المسألة الإشكالية التي ترى في التحالف المرحلي تحت قيادة قوى البرجوازية الصغيرة ضمن حركات التحرر الوطني طريقاً سليماً للانتقال إلى الاشتراكية. إنّ الشروط التاريخية التي وضعها مطلقو النظرية لتبرير صحّتها لم تعد صالحة، فالعالم، بعد مضي سبعة عقود، غير ما كان عليه في خمسينيّات القرن الماضي. بنى علاقات الإنتاج في الدول المتخلفة صارت بنى رأسمالية وإن كانت تابعة، والتفارق الطبقي حصل فيها إلى حد كبير، والطبقة العاملة تبلورت أكثر خصوصاً في الدول التي سلكت طريق التصنيع والإنتاج، ولم تعد علاقات الإنتاج "سابقة على الرأسمالية". المنظومة الاشتراكية انهارت، ولم تعد هناك ظروف دولية مساندة للأحزاب الشيوعية، والعامل الأهم هو أن قوى حركة التحرر هرولت نحو الليبرالية في كنف الاستبداد، فور انهيار الاتحاد السوفياتي. ونتيجة لذلك أجرت العديد من الأحزاب الشيوعية مراجعةً نقديةً لهذه الفكرة، منها الحزب الشيوعي اليوناني الذي صنّفها بأنّها نظرية انتهازية تتقاطع في رؤيتها للدولة والتحالفات الطبقية مع ممارسات الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في أوروبا التي ترى إمكانية تغيير تدريجي وتمرحلي نحو الاشتراكية عبر الإصلاح من داخل جهاز الدولة نفسه وضمن تحالفات تشمل مصالح طبقية واسعة. كذلك، نقضت عدة أحزاب شيوعية النظرية في ممارستها السياسية وعن طريق إمساكها بالسلطة بشكل مباشر بقيادة الطبقة العاملة وحزبها، كما حصل في كل من كوبا وفيتنام والصين وغيرها، التي اختارت لنفسها طريقاً للانتقال نحو الاشتراكية من خارج نظرية التطور اللارأسمالي بقيادة البورجوازية الصغيرة.
إنّ طريق الانتقال نحو الاشتراكية في الدول المتخلفة لن يتم بقيادة القوى القومية كما أثبتت التجربة، وتقع على عاتق الحركة الشيوعية وحدها مهمة تحقيقه. وفي هذه المرحلة يقع عليها أيضاً استحقاق التمييز الواضح بين مهمات التصدي للامبريالية كأداة للتوسع والسيطرة والهيمنة التي تحاول أن تقوم بها القوى تلك، وبين مهمات التصدي للرأسمالية نفسها كنظام شامل لاستغلال الانسان والطبيعة، والتي لا يمكن أن تقوم بها إلا القوى الثورية الاشتراكية الجذرية.