شيوعيو طرابلس الذين أنعشتهم الثورة: ماركس في ساحة النور
طرابلس التي نجحت في المراحل الأولى من الانتفاضة الشعبية في كسب لقب "عروس الثورة"، تحولت ساحتها مسرحاً أعاد بلورة مشهدها السياسي. وإلى جانب مجموعات مشبوهة تشغّلها أجهزة حزبية وأمنية، وسعت (ولا تزال) إلى استغلال المدينة وشيطنتها بأجندات الفوضى، لعبت قوى مدنية وسياسية فاعلة أخرى دورها في التأثير والتغيير، وبحدود معينة دفعت الثورة نحو مسارات واتجاهات واضحة.
تفتح "المدن" اليوم النقاش مع عددٍ من هذه القوى، وتبدأ مع مجموعة من شبان شيوعيين ويساريين، كانوا من أوائل المبادرين إلى نصب خيمة في ساحة النور، في اليومين الأولين من اندلاع الثورة. وليس عاديًا أن ينشط شيوعيون منظمون في مدينة مثل طرابلس، كانت تواجه على مدار عقود محاولات وصمها بالتطرف المذهبي، وتصويرها كقرية نائية، واتهامها بالأسلمة وبمدينة "اللون الواحد".
لكن ثورة 17 تشرين كسرت تلك الصورة النمطية عن طرابلس، التي أظهرت ألقها مدينة متنوعةً وغنية وعاصمة ثانية للبنان، مقاومةً خُبث محاولات إعادتها إلى مربعها الأول.
جهاد وإيلي ومكسيم
مع بداية ثورة 17 تشرين، برزت في "ساحة النور" مجموعة من نحو شباب شيوعيين عشر، ثمّ تجاوز عددهم الـ 50 شابًا منظمًا، إلى جانب العشرات الذين يدورون في فلكهم. وقبل نقلهم خيمتهم إلى هامش الساحة، بسبب سوء الأحوال الجوية، كانوا نصبوا الخيمة وسطها مقابل اسم الجلالة "الله"، وهم ما زالوا يتناوبون على المبيت في الخيمة ليلًا، لقناعتهم بأنّ لا خروج من الساحة بعد اليوم.
وقبل أيام التقينا عددًا من هؤلاء الشبان في مكتبهم قرب الساحة. نُسِّق اللقاء مع الشاب جهاد جنيد (28 عامًا)، وهو من أبرز الوجوه الشابة الثائرة في طرابلس، وجرى اللقاء معه إلى جانب رفيقيه إيلي خوري (29 عامًا)، ومكسيم حميد (31 عامًا).
المشاركون في تظاهرات طرابلس، منذ أيامها الأولى، يعرفون جهاد جيدًا: شاب مندفع، وثائر بطبعه، ويضع كوفية على عنقه. كان من أوائل من حُملوا على الأكتاف، هاتفاً الشعارات ضدّ النظام والمصارف والطبقة السياسية كلّها. ونجح في حشد المئات، ساعياً مع عدد من الشبان والشابات من المجموعات الناشطة، إلى تصويب الخطاب السياسي في الساحة، وعدم حرف مساره. وخاض معهم مناقشات ضد من أسماهم "مشبوهين"، أصروا على تحويل الساحة مسرحًا فولكلوريًا خاليًا من المضمون عبر منصتها الشهيرة.
جهاد الذي درس الإخراج في الجامعة، يعمل في الأفلام الوثائقية، وهو ناشط منذ سنوات طويلة في قطاع الشباب الشيوعيين في الشمال، وانتسب إلى الحزب تنظيميًا العام 2015.
أمّا إيلي، فهو من زغرتا، وينشط حاليًا في طرابلس، ويعرّف عن نفسه قائلاً: "شيوعي منذ كان عمري 15 سنة". وهو جدد انتسابه إلى الحزب في الثورة. صُرف من عمله منذ مدة بسبب تردي الأضاع الاقتصادية، ويحمل شهادتين في الاقتصاد والعلوم السياسة. يمضي أوقاته مع رفاقه في ساحة النور في طرابلس. نشط في حملات في المناطق، من بينهما حملة "عكار مانها مزبلة" عام 2015.
ويقول: "أؤمن أن ثمّة عملية لمراكمة الوعي. وقد تجلت في هذه الانتفاضة، ما دفعني إلى النشاط الجدي بعدما لمستُ همة الشباب على الأرض".
ومكسيم صُرف أيضاً من عمله للأسباب نفسها. وهو ملمّ في الاقتصاد، وخريج هندسة معلوماتية واجتماع سياسي، ويعتبر نفسه من هواة الشارع: "هنا مكاننا مع الناس ومنهم، ونمشي خلفهم".
نكبة الشيوعيين
يعتبر جهاد أن كُثراً كانوا "لا يعلمون أو لا يعترفون بوجود شيوعيين في طرابلس قبل الثورة. وهم تاريخيًا أصيبوا بنكسات في المدينة، أقساها المجزرة التي ارتكبتها بهم حركة التوحيد الإسلامية في الميناء عام 1983، لتتخذ المدينة طابعًا اسلاميًا بعدها، ويصبح الانتماء إلى الحزب الشيوعي من المحرمات، وعاش الشيوعيون خطراً أمنياً كبيراً". لكن 17 تشرين ظهّرت العلاقة بين الشيوعيين والناس، فـ "تعرّف أهل المدينة الثائرون عليهم بشكلٍ مختلف، وصارت علاقتهم بهم أمتن وإيجابية. وأدركت شريحة واسعة أن صورتهم الشبحية ليست صحيحة، واستطعنا بمدة وجيزة في وسط ساحة النور من كسر الجليد ".
مهام وأدوار
على المستوى الميداني - يذكر إيلي - أنّ مجموعتهم منظمة وتضم نحو 50 فردًا مع آخرين يدورون في فلكهم. وطبيعة المهام تختلف في ما بينهم. ورغم أنّهم كانوا أوائل من نصّب خيمة في الساحة، فلم يسموها باسمهم: "تحركنا كان تحت مظلة اليسار. لكن الناس سرعان ما أدركوا هويتنا". هل تقبلوها؟ نسأل، فيجيب إيلي: "الخيمة راعت وضع المدينة وثقافتها ومحيطها، خلافًا للافتراءات التي غالبًا ما كانت تساق ضدنا. كانت أولويتنا التحرك في نطاق الانضباط الاخلاقي والاجتماعي، وانطلاقًا من إيماننا بضرورة فهم البيئة المحيطة. فأظهرنا احترامًا كبيرًا لأهل المدينة فبادلونا إياها، لأن هدفنا كان صوغ خطاب سياسي مفيد، فوجهناه ضدّ المصارف تحديدًا".
لا ينفي إيلي تعرض مجموعتهم لمضايقات. فكلما كان جهاد يهتف ضدّ المصارف في بداية الثورة، تعمدت مجموعات رفع الموسيقى عاليًا. لكنّ جهاداً لم يستسلم، وأدرك أهالي المدينة أن شطراً كبيرًا من معركتهم اليوم هي مع المصارف، ومن خلفهما السلطة الفاسدة، صانعة هذا النظام: "وانتقلنا إلى مرحلة وضوح الرؤية تجاه الخصم"، قال جهاد.
الحيتان الثلاثة
يدرك هؤلاء الشبان تمايز أدائهم وأفكارهم عن أسلافهم من الشيوعيين الأكبر منهم سنًا. فهم فهموا لغة الشارع سريعًا في طرابلس، ولعبوا أدوارًا رئيسة في ثورتها. هذا ما تكلم عنه مكسيم، مشيراً إلى أنّ عددهم المحدود جعلهم من أكثر المجموعات جاهزية على الأرض. ويقول: "خطابنا كان واضحًا، وحملناه منذ عامين: ضدّ المصارف وسياسات الحكومات الاقتصادية. وكنا ندعو الناس إلى النظر إلى الثلاثي: مصرف لبنان، وحيتان المصارف، والطبقة السياسية. هذا الثلاثي هو هدفنا". يقاطعه جهاد، مشيراً إلى أنّ مجموعتهم من اليوم الثاني للثورة، سيّرت من خيمتها التظاهرة الأولى الحاشدة في طرابلس باتجاه فرع مصرف لبنان، بلا اكتراث بالقوى الأمنية الكثيفة أمامه وأمام المصارف.
الخيمة - المحطة
ورغم أنّ وهج ساحة النور خفت إلى حدٍّ كبير في الأسابيع الأخيرة، يصرّ الشبان على ضرورة إبقاء الخيمة في الساحة التي يتناوبون على النوم فيها ليلًا. يقول جهاد: "العمل في الشارع ضروري أكثر من الخيمة. لكن هدفها لوجستي، كالاستمرار في صوغ الخطاب السياسي، وتوسيع مساحة النقاش بين الناس. والخيمة خيمتهم قبل أن تكون خيمتنا. وعقدنا فيها نقاشات اقتصادية كثيرة شاركت فيها شخصيات، وعرضنا عددًا من الأفلام، ونواظب على عقد الاجتماعات وتسقط الأخبار. الخيمة محطتنا". ويؤكد مكسيم أن للخيم رمزية اجتماعية، وتحمي الساحات، وهي منابر وملتقى حوار مفتوح لمن يرغب من أهل المدينة.
ضدّ التشبيح والسلطة
لا ينفي الشبان سعي بعض الأحزاب والجهات الأمنية إلى استغلال الشارع في طرابلس. يعتبرون أنّ ما حصل شبيه بالتشبيح الحزبي في الجنوب، لكن بأساليب تقلّ ذكاءً. يقول جهاد: "كل محاولات التشبيح في طرابلس لا يزال تأثيرها هزيلًا على الناس. وأهل المدينة لم يخذلوا أحدًا. لكن تيار التشبيح بالكاد يستطيع التأثير. فمفاتيحه لا ترضى تنفيذ أيّ مهمة فوضوية وتخريبية من دون أجر مالي سلفًا".
لم يفقد الشبان أملهم في أن تستعيد طرابلس نبضها الثوري في المرحلة المقبلة. الجميع يتملل من حال الجمود التي أصابت الشارع، وفق جهاد الذي قال: "إننا في حال إعداد وتنظيم، لنكون جاهزين للمرحلة المقبلة. الأمور تتجه نحو الانهيار الكامل. وقد يولّد عنفًا في الشارع". لكنّ إيلي يرى أنّ الشارع قد يأخذه الانهيار إلى واحد من احتمالين: عنف ضد الدولة، وعنف طبقي بين الناس. أما العنف في حال وقوعه، فـ "يجب أن يكون مركزًا ضدّ من نهبوا المال العام، لتتضامن الفئات الشعبية في ما بينها. هكذا يتقن الناس فنّ تصويب سهامهم. فلا يرتهنون لصناديق إعاشات رموز السلطة".
على مستوى شيوعيتهم، يعتبر الشبان أنّ اليسار عمومًا وصلته جرعة من الأوكسيجين. والمرحلة الراهنة تشبه "إعادة ترميم البيت الداخلي"، وفق جهاد الذي يضحك قائلًا: "يا عمي نحن جماعة ماركسيين، ونؤمن بأن لا ثورة تحقق أهدافها بوضوح بلا تنظيم أو تنظيمات متعددة تسهم في قيادتها".
المصدر: المدن