…ويسألونك عن الانتفاضة!
بكل احترام لهؤلاء نقول: الانتفاضة باقية، باقية، إلى يوم الساعة. وهي حاضرة، حاضرة، حاضرة، وكلمتها مسموعة، وصمتها داوٍ، وحضورها ليس إلى افول. مشقة المشوار الطويل لن تهزم روحاً خرجت من الركام، لتقول: لبنان هذا، نريده وطناً لا مزرعة. السلطة هذه، فلتذهب إلى الجحيم. هي علة العلل في هذا البلد.
أما بعد:
فلنترك هؤلاء يكظمون غيظهم. ولنرسم خريطة لبنان السياسية راهنا. ولكل موضوعية.
لبنان هذا. موئل قوى داخلية عاتية، وموطئ قدم وسياسة لدول وتيارات. هكذا كان. لعبة موازين قوى. والقوى موزعة على خمسة او ستة زعامات لبنانية، تدعي عن، حق او عن بهتان، انها تمثل لبنان كله. لأنهم يمثلون الطوائف. والطوائف هي اساس لبنان، مذ كان، إلى يوم لا يكون بلد بلا سيادة.
لبنان محكوم بقوى طائفية مستشرسة. تأكل ولا تشبع. تسرق ولا ترتوي. تدك اركان الدولة، وتحولها إلى خراب وتقودها إلى اقلاس، ولا تخجل او تختبئ. لها من الوقاحة أن تدعي انها ستنقذ لبنان… جوَّعوا اللبنانيين، وكأن الجائعين من طوائفهم بلا بطون. انهم نسخة فاقعة لمنطق السلالة ومنطق الارتكاب. “كلن. يعني كلن”. تنطبق عليهم. انهم القوة التي لا تتنازل عن مكاسبها ولو فني اتباعها.
ولبنان، لا يكتفي بهذه القوة السداسية. فهو موطئ قدم لدول وسياسات ومحاور. هكذا كان دوماً، وهو كذلك اليوم، وبطريقة سافرة. القوى الخارجية ذات نفوذ وثقل. لأميركا حصة في لبنان. تمون على قسم لا بأس به من بؤر الطوائفيات المرابطة في المصارف ومواقع السلطة الحساسة.
نحن حتى أن نتحمل قوتين ساحقتين: قوة الطوائفيات المالية المتحدة، وقوة الراعي بالعصا للولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك قوة ايرانية ذات نفوذ واسع وفعال وثابت، وقوة سعودية ذات قبضة تهديدية، تحبس “المساعدات” او تجود بها، لقاء ثمن باهظ جداً: محاربة سلاح المقاومة.
هذا هو لبنان. او هكذا كان لبنان، قبل مساء الانتفاضة في 17 تشرين الاول 2019. منذ ذلك التاريخ المجيد، تغير لبنان. صار مضطراً أن يتعامل مع قوة قوية موجودة في الشارع والساحات ومعظم البيوت اللبنانية والمدارس والجامعات… قوة الشارع هذه، اطاحت بسلطة متسلطة. اسقطت حكومة. رفضت سياسات. ولا تزال لهذا، بات لبنان محكوماً بخمس قوى: قوة الساحات حاسمة وهي قوة اعتراض ومعارضة، وليست البديل عن هذه السلطة الداخلية المحمية من الخارج ومن الطوائف في الداخل.
هل هذا جديد؟
هذا جديد جداً. قوة الشارع حاسمة. لا تجرؤ السلطة على الظهور في الشارع. كل مراكز السلطة في الأسر. رئاسة الجمهورية مسيجة ومحصنة. رئاسة مجلس الوزراء قلعة من الاسلاك الشائكة. مجلس النواب محجر صحي لمرضى النيابات المغتصبة. السياسيون لا يجرأون على الظهر بين الناس وفي الاماكن العامة. علماً، أن اعداد المنتفضين قبضة يد قوية وصوت آمر وحاسم وجريء.
الانتفاضة لم تمت ولن… تعرف الآن أن عليها أن تنظم صفوفها وأن تلتقي في أطر نضالية، بأساليب ديمقراطية. وهي في الوقت نفسه مشغولة بالاعتراض اليومي على سياسات خسيسة، وقرارات لئيمة، بل ومجرمة، افقرت الشعب اللبناني ودفعت به إلى مذلة الجوع، والى عتبة اليأس الذي يولد طاقة نضالية جديدة. الانتفاضة، ليست اعداداً فقط. ليست ساحات فقط. هي نضال يومي ومراقبة دائمة لسلوك السلطة، ومن فوقها ومن معها.
مشهد وزارة الاتصالات نموذج. مواجهة المصارف نموذج. مقارعة العنف الشرس السلطوي نموذج. مرج بسري وخراب البيئة نموذج. الكهرباء ال… ال… ال… كل لبنان تحت مراقبة الانتفاضة وعلى مسافة قصيرة من قبضتها. وعليه.. لا قرار في الدولة، الا إذا حظي ببركة الشعب المتمثل في الساحات، وليس في مجلس النواب. هذا المجلس؟ حرام. تكاد تُشفق عليه. انه خائف. انه يعقد جلسات وهو مرعوب، ويختصر النقاش، خوفاً من عتمة الليل، إذ لا يهتدي النواب إلى طرق النجاة.
والانتفاضة أكثر من ذلك. انها تتطلع إلى لبنان بعد عام وأعوام.
إلى أن…لا بُد لليل أن ينجلي.
*المصدر: موقع "على الطريق"