الإثنين، كانون(۱)/ديسمبر 23، 2024

في خريف العُربان... كيف تصبح صهيونيّاً؟

  مروان عبد العال
رأي
الإجابة عن السؤال تظل مفتوحة على تشعّبات الرغبة كما في رواية «كيف أصبحت غبياً» للفرنسي مارتن باج. بفلسفية ساخرة، تأخذنا الرواية في رغبة البطل في أن يصبح غبياً وكيف يسخّر كل ذكائه، الذي ندركه من مواقف كثيرة له في الرواية، لتحقيق هذا المبتغى. أي كيف يهرب من الذكاء مستخدماً ذكاءه ضد نفسه! سؤال رواية باج يذكرنا بكتاب الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبري، «كيف أصبحنا أميركيين؟» الذي يغوص في مفهوم الأمركة والعلاقة الإشكالية المستجدة بين الثقافة والحضارة، بين الميديولوجيا والأيديولوجيا. من هذين المؤلفين، نستطيع أن نستولد سؤالاً جديداً: «كيف تصبح صهيونياً؟». إذ نحن في عصر انتشار ثاني أكسيد الغباء واستشراء وباء التطبيع، وحيث أصيب جسد بعض النظام العربي السياسي «بالصهينة» والأمركة التي استجلبته إلى حظيرة الجانب الآخر من المتراس.


في الاستراتيجية الصهيونية، حلم الدولة الإقليمية العظمى، بدل «دولة إسرائيل الكبرى»، المبنية على فكرة وجود دولة لليهود ذات حدود معروفة يتم التفاوض عليها لاحقاً مع أذنابها لتلبّي الشروط التوراتية للشعب اليهودي وحلمه في هيمنة استعمارية على كل المنطقة من حولها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وغيرها. أساس قيام هكذا دولة هو تعميم أيديولوجيا الهزيمة وفكرة القبول بالكيان الصهيوني، التي طبعاً لم تبدأ مع صفقة القرن، وسابقة لوجود ترامب. وان كان جاء البوح بها في مسرحية هزلية لاستثمارها في المسألة الانتخابية، إلا أن العملية برمّتها ليست مسألة تكتيكية، بل تأتي في سياق تثبيت ركائز استراتيجية في المشروع المعادي لشعوب المنطقة. لذلك جرى تمريرها من خلال العديد من القرارات الدولية، وتأكيدها من خلال سلسلة من الاتفاقات التي وقِّعت من كامب ديفيد إلى أوسلو ووادي عربة، والجامعة العربية والإسقاط التدريجي لقرار المقاطعة يوم أقرت القمة العربية بالسلام كخيار العرب الاستراتيجي، والتهيئة الجماعية في ما سمّي مبادرة السلام العربية، التي صاغها الأميركي وقدمتها السعودية وصارت عربية!
من الغباء أن تعتقد أن بإمكانك ان تصبح يهودياً، فأنت من الأغيار، وإن وقعت باسم «ابراهام» وبكلمة «شالوم»، فاليهودية ليست ديانة تبشيرية ولا يمكن أن تتعايش مع الأغيار، بل جرى اعتداء صهيوني وقح على النصوص الدينية اليهودية ذاتها، بهدف تحويلها إلى قومية عنصرية مغلقة، حين أجادت التعامل مع العالم من داخل أسوار الغيتو والعزلة. في وصيته لنتنياهو وشارون وبيغن، انطلق أبوهم الروحي جابوتنسكي من فكرة صهيونية أن معاداة السامية وفشل الاندماج هما أسباب وجود الشعب اليهودي، وبالتالي بضرورة أزلية المعاداة لليهود كممكن مادي اجتماعي لوجودها، فالتركيب الحضاري لليهود يختلف عن سائر البشر: هم شعب الله المختار وما عداهم هم الغوييم/ الأغيار. هم «الشعب الكاهن» الذي يقدس العنف والمال والارتماء في حضن الاستعمار والإمبريالية والقيم الرأسمالية. نستخلص إذاً أن الصهيونية نقيض المصالحة مع الآخر، بحكم جوهرها العنصري وماهيتها الإقصائية. والأسطورة الصهيونية أنكرت وجود الآخر الفلسطيني ومكانة اليهود في الثقافة العربية، وأحلّت مكانها نظرية العداء والاضطهاد الأزلي في تبرير اغتصاب فلسطين، ليكون شعار فلسطين «أرض بدون شعب لشعب بدون أرض» أكبر الأكاذيب في تاريخها.
في معادلة الميديولوجيا، الثقافة هي أداة من أدوات الصراع وليست قطب الصراع الوحيد. القتل المعنوي يسبق القتل البشري. هنا أثر الصورة وصراع الرموز في حرب بدون مدافع وأسلحة. وفيما حرصت الصهيونية على اختراع وعي جديد لليهود (وكل ما يتطلبه هذا من رموز قومية مثل: العلم، النشيد القومي، اللباس، أبطال، لغة، وطوابع بريدية باعتبارها أدوات مهمة في اختراع شعب ثم دولة)، استهدفت الصهيونية الرموز المعنوية وساغت الصراع المادي وأذكته وشحنته بمقومات التعبئة. كما فعل اليانكي وأطلق اسم «جيرونيمو» على عملية قتل بن لادن. و«جيرونيمو» هو رمز بطولي للسكان الأصليين من الهنود الحمر وزعيم قبيلة الأباتشي المحارب الذي لم يستسلم، وأصبح ملاحقاً من الجيش الأميركي. وتتم تسمية طائرات حربية أميركية بأسماء قبائل هندية جرت إبادتها مثل: أباتشي وبلاكهوك وكومانشي وتشايان وشينوك وآراباهو ولاكوتا وموهوك. وزد عليه أن طائرة التطبيع إلى الإمارات حملت اسم «كريات غات» وهو اسم مستوطنة أصبحت مدينة إسرائيلية على أنقاض بلدتَي الفالوجة وعراق المنشية الواقعتين 32 كم شمال شرقي غزة. اختيار الإسرائيليين لاسم يرمز بالتحديد إلى بطولة ضابط شاب في عام 1949، اسمه جمال عبد الناصر قاتل فيها ضد العصابات الصهيونية، ما هو إلا تدمير لفكرة البطولة ككيان رمزي وحافز روحي ومعنوي يذكّر بشيء كان موجوداً وتصونه الذاكرة.
وفي معادلة الميديولوجيا التي هي أداة التطبيع العصرية في صناعة وعي جديد، أن تسرب الصورة واللوغو الصهيوني الى مفردات اللغة العربية والوعي والذاكرة، والقبول بالمفردات والمقاربات الصهيونية الأيديولوجية كما في إعادة صياغة التاريخ، وإعادة صياغة مناهج التعليم لشطب كل ما يشير إلى الاحتلال، وتغيير أسماء الأمكنة، والاستيلاء على التراث (أزياء، أكلات شعبية ورقص شعبي)، والعبث بالآثار وسرقتها، كما إخفاء وتدمير كل آثار الجرائم التي أدت إلى تدمير القرى والمدن والأحياء العربية وتغيير الخارطة التاريخية لفلسطين، كما الآلة الدعائية للكيان الصهيوني لتبييض جرائمه وتبرير أفعاله في سياق. ميديولوجيا التطبيع وساحتها الأكثر إنتاجاً هي انتهاج الأمركة والرقمنة التي طغت على كل ما يدور فى حياتنا من مفردات، ولعل أولاها وسائط السوشال ميديا، والتي لا يمكن إنكارها كعنوان للحضارة البشرية الآن، كما لا يمكن إنكار أن الذي أعطانا ثورة المعلومات هو الـ 2000 موقع عسكري للولايات المتحدة الأميركية والموزعة على خمس قارات، والـ 35000 مطعم «ماكدونالد» للأكلات السريعة، موزعة في مختلف أنحاء العالم. ويوم حلم شيمون بيرز بشرق أوسطه الجديد، تحدث عن اختلال جديد يتمدد بقوة «الشيكل» لا الدبابة، وعن الاستحواذ على ثروة المادة السوداء/ النفط، بفعل ثروة المادة الرمادية أي مادة الدماغ اليهودي الذي عنى فيها قوة العقل.
كيف تصبح صهيونياً؟ عليك القيام بمطابقة المواصفات اللازمة حسب دفتر الشروط وبالطرق والخطوات التالية:
أولاً، أن تجيد النسيان مثل ذاكرة السمك التي تبتلع الطعم ذاته ألف مرة، ولا بأس أن تُبتلى بالزهايمر كي تنسى أن الذين أمامك هم الأعداء الأكثر عنصرية وحقداً ووحشية في العصر الحديث. وعليك أن تقبل بقولهم الشهير بأن «العربي الجيد هو العربي الميت»، وتقبل من قال يوماً: «وإذا أردت أن تعرف العربي على حقيقته، فيجب أن تفتح رأسه».
ثانياً، أن تحرم أشواق وحنين اللاجئين لبياراتهم في يافا، وأن توقف خيالهم عن الحلم باليوم الذي سيقطفون موسم البرتقال هناك. وحتى تكون آمناً ويكون السلام منتجاً، عليك أن تقنع الفلسطينيين بضرورة التنازل عن رواية الماضي، في ذكريات البلاد وحكايا الأجداد، وأحلام العودة.
ثالثاً، أن تقر أن الحرب التي خاضها غيرك قد انتهت. هو انتصر وأنت هُزمت وعليك التنازل عن كل ما رفضه المحارب، وأن تتنازل مسبقاً عن الجيش الوطني والتراب الوطني والسلام الوطني والحق العربي والفضاء الوطني. لا بل عليك قبل كل هذا أن تكون نموذجاً للتعايش والسلام وتتنازل أيضاً عن استقلالك.
رابعاً، أن ينتصر السلام، يوم تدخلون في «الأسرلة» أفواجاً، وباللغة العبرية؛ بسيوفكم المشرعة بوجه المتنبي وأبي تمام وأبي فراس الحمداني وقيس ابن الملوح وعنترة وصلاح الدين والظاهر بيبرس في حلف واحد مع أحفاد شيلوك حتى يرفع أبناء جلدتك الراية البيضاء وحتى لا ينكسر طالوت اليهودي مرة أخرى أمام جالوت الفلسطيني. دعكم من هوس التاريخ، ولكم كل مراكز التّسوق (MALLS) ومول العم سام وكينون رامي ليفي، ولنا السايبر والدرونز والقاذفات المقاتلة من طراز «اف -35» وما بعدها.
في سؤال الغباء في استدخال الأمركة والصهينة، بات على عربان التطبيع أن يقروا أن «إسرائيل» جزء عضوي من ما بعد استعمارية، وأن يضمنوا تحولها إلى إمبريالية إقليمية، تتعدى حدودها الميثولوجية من النيل إلى الفرات إلى منطقة تمتد من المغرب على الأطلسي إلى آسيا الوسطى شرقاً، كي تؤدي وظيفتها للحيلولة دون تغيير في ميزان القوى العالمي أو اختلاف في طبيعة التوازن الدولي الذي ــ منذ النصف الثاني من القرن العشرين ــ كان راجحاً لمصلحة معسكر الولايات المتحدة.
في العقدين الأخيرين وفي السنوات القليلة الماضية بشكل خاص، دخل العالم مرحلة تحول كبرى في ميزان القوى الدولي. مرحلة ترقى لأن تكون انعطافاً تاريخياً عميقاً نحو عالم جديد حتماً ليس عالماً أميركياً. في هذه الانعطافة، كانت صفقة القرن أشبه بـ «بوليصة تأمين أميركية» للكيان الصهيوني، في حال وجد نفسه أمام تراجعات اضطرارية جديدة؛ وباستراتيجية تطبيقية هدفها تحويل وتثبيت وظيفة «إسرائيل» إلى وظيفة إمبريالية إقليمية لها وجودها ودورها وزعامتها على المنطقة، وهذا يحتاج إلى تأمين درع أو عمق أمني واستثماري ومالي وعسكري وسياسي يؤدي لها هدفها في تصفية القضية الفلسطينية.
هذا بالذات ما وصفه المحلل الروسي ألكسندر نازاروف بالغباء الاستراتيجي، مقدّراً أن «الانضمام إلى تحالف عسكري أميركي، عشية تغيير جذري في النظام العالمي، سيكون جزءاً منه خسارة الولايات المتحدة الأميركية لقيادة العالم، ما يشبه شراء الأسهم عشية انهيار البورصة. نحن إذاً في عصر تفشي مريع لوباء التطبيع الذي يُسخّر فيه عربان الغزو وسلاطين الزيت والغاز والنفط والفول ومدن الملح، كل ثروات شعوبهم وإمكاناتهم لشراء بوليصة تأمين عشية انهيار البورصة. «فما أعظم ما صنع النفط العربي بنا»، كما قال مظفر النواب، ونحن «نتجشّأ حتى التخمة جوعاً والملك النفطي يخاف على النقد من الفئران». قد تكون هذه طريقته الذكية في أن يكون غبياً! ولكن ذكاء السلطان وقف له بالمرصاد وحال دون وعيه أنّ بطل رواية مارتن باج دخل الدوامة بالموت؛ بدأها بالإدمان على الكحول وانتهى في مدرسة لتعليم الانتحار. فلا محال، سيدرك العربان والنظام الرجعي الزاحف نحو حتفه، معنى أن يكون عدواً لنفسه، وأن يكون صهيونياً. وميدان التاريخ سجال.

* كاتب وروائي فلسطيني.
مسؤول «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» في لبنان

# موسومة تحت : :