مسير طويل (1)
في العام 2015، عندما ركبت الطائرة متوجّهاً إلى الصين للمرّة الأولى، كنت أحمل في رأسي الكثير من الأفكار عن هذا البلد، وفي داخلي معاناتنا مع النظام اللبناني المتخلف. كان ذلك في أواخر الصيف، وكان الحراك الشعبي في خواتيمه، والمظاهرات الشعبية تجوب شوارع العاصمة بيروت رفضاً للسياسات الغبية والفاشلة فيما خصّ ملف النفايات في لبنان. وكنت واحداً من الذين شاركوا في تلك المظاهرات بكل أشكالها وأماكنها.
لكن ما هي تلك الأفكار التي كنت أحملها عن الصين؟ فلنقل أنه يمكن تقسيمها إلى أقسامٍ عدّة. فمنها ما يمكن تصنيفه "بالانطباعي" الساخر، المستقى من النكات الرائجة عن هذه البلاد العملاقة نسبة إلى حجم بلادنا وعدد سكّانها الضخم. كالقول مثلاً بأن الصينيّين يشبهون بعضهم، تماماً كما تشبه أسماؤهم قرقعة "التنك". أو تلك الروايات التي تُروى حول طعام الصينيّين "الغريب" و"المقرف"، حيث يقال مثلاً أنهم يأكلون الكلاب والصراصير وكل شيء حيّ! كأنما أكل "الملسة" و"السودة" و "المعلاق"، وهي أطباق لا يأكلها إلّا "المتوحشون" في أفلام الرعب، وغير مقبولة على طاولة طعام معظم شعوب العالم، أقل غرابة. وبالطبع أنا لست استثناءً عن اللبنانيّين، فأنا أحب هذه المأكولات جدّاً، لا بل إنها طعامي المُفضّل.
أمّا القسم الثالث من الأفكار فيخص بالمنتوجات والمصنوعات الصينية. فالكثيرون يعتقدون، أن تلك البضائع متدنّية الجودة هذا غير أنها و"بالتأكيد" مقلدة!
هكذا، إذا أردت أن تقلّل من قيمة منتج ما، فما عليك إلّا أن تقول إنه صيني! وطبعاً لا ننسى الحديث عن الخرافات التي تنسج عن الصين وعن العادات والتقاليد فيها، وهذا كله نابع من بُعد هذا البلد عن منطقتنا وثقافتنا، وعدم الاحتكاك المباشر مع شعبه، بالإضافة إلى الترويج الممنهج لأفكار مماثلة عبر وسائل إعلام تنتمي للمحور الغربي عامّة والاستعماري الأميركي على وجه الخصوص، لأسباب ثقافية وسياسية وبالطبع اقتصادية.
بالرغم من كلّ ذلك، كنت أحمل بعض المعلومات الإيجابية حول الصين. ففي تراثنا الشعبي والثقافي هناك مكانةٌ خاصّة لهذا البلد البعيد، فمثلاً هناك قول عربي قديم يقول: "اطلب العلم ولو في الصين"، وهذا القول يحمل في طيّاته عدّة دلالات، أوّلاً يدلّ على البعد الجغرافي بيننا وعلى القيمة التي أُعطِيَتْ للعلم حتى وجب قصده في تلك البلاد، كما تدلّ على معرفة العرب منذ القدم بالصين وشعبها، والأهم معرفتهم بثقافتها وعلمها المتقدّم في ذلك الحين. فكثير من العلوم أتتْنا من الصين وتمّت ترجمتها إلى العربية، واستفاد العلماء العرب منها كثيراً، وحتى الكثير من الحكم -وهي المنهج الأساسي للعلم والثقافة الصينية القديمة- أتتْنا من الصين ونحن نستخدمها حتى اليوم.
كما أن العرب عرفوا الصينيّين منذ مئات السنين من خلال التجارة، وخاصةً عبر طريق الحرير، فالحرير الصيني كان موجوداً بشكلٍ كبير في الأسواق العربية وخاصّة في حلب ودمشق وبغداد، وكان يُعتبَر من أفضل أنواع الحرير، وقد تغنّى به العديد من الشعراء والأمراء والتجار العرب قديماً.
إذاً، للعرب علاقات تاريخيّة مع الشعب الصيني، استمرّت طيلة قرون وتوزّعت بين التجارة والثقافة والعلم وغيرها من العلاقات الثنائية التي يسودها الاحترام المتبادل. إلّا أنّ سنوات التراجع التي مرّت بها كلّ من بلادنا والصين، باعدت في ما بيننا، وخاصة مرحلة الاستعمار والاحتلال.
فبلادنا وكذلك الصين، رزحت تحت احتلالٍ طويلٍ وتقسيمٍ متعمّد لضرب إمكانية النهوض، وبالتالي تراجعت معرفتنا بهذا البلد وشعبه وثقافته. وحيث يكون الجهل تكون الخرافة، خصوصاً إن اختلفت اللغات، فتحلّ الأقاويل مكان المعلومات والخرافة مكان الأفكار.
أمّا اليوم، وعلى الرغم من أنّ أحوالنا في العالم العربي لم تتغيّر كثيراً، بمعنى التبعية للمستعمر على المستوى الاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي-الاجتماعي (الأفكار النيوليبرالية تجتاحنا من المحيط إلى الخليج)، إلّا أنّ الصين تخطّت هذه المرحلة، وتمكّنت من بناء موقعها المستقلّ على كلّ المستويات. وهي تقدّم نفسها اليوم نموذجاً جديداً للعلاقات بين الدول والأمم. نموذجٌ يختلف جذريّاً عن السائد، في ظل سيطرة الامبريالية الأميركية على العالم. كما تقدّم تجربةً فريدةً على مستوى التنمية الداخلية أثارت دهشةَ شعوب العالم، لكنّها وللأسف، لم تأخذ حقّها في الكتابة بعيداً عن ردّة الفعل الأولى والتعبير عن الدهشة.
بناءً على كل ما سبق، ومن موقع المتابع لِما يجري في الصين، ولأنّني أعيش في هذا البلد وأحتكّ مباشرة بشعبه وبهذه التجربة، كما بالطروحات الجديدة التي تطرحها الصين حول التنمية العالمية والداخلية، وهو ما قد ينعكس إيجاباً على منطقتنا وشعوبنا، كان لابدّ من كتابة مجموعة من المقالات على شكل سلسلة، اخترنا لها عنوان "مسيرٌ طويل"، تيمّناً بالاسم الذي أطلق على "المسير الطويل" الذي مشاه مناضلو الحزب الشيوعي الصيني أواسط ثلاثينيّات القرن الماضي والذي أدّى إلى تحررها وتوحيدها، ومن ثم تأسيس جمهورية الصين الشعبية. هذا المسير لم ينتهِ حتى اليوم، كونه مستمرّاً بأشكالٍ أخرى، وخاصّة على مستوى البناء الاقتصادي والاجتماعي، وبالزّخم نفسه.
لذا هذه السلسلة، للتعريف بهذا البلد ومسيرته، وكيف يمكن لشعوبنا أن تستفيد من تجربته فتسلك مسيرها نحو التحرّر والتطوّر. وهو مسيرٌ لا شكّ سيكون طويلاً وصعباً، كوننا نحكي عن عالمٍ جديد عن سعي نحو الاشتراكية في تجربة وخصائص جديدة.
أمّا القسم الثالث من الأفكار فيخص بالمنتوجات والمصنوعات الصينية. فالكثيرون يعتقدون، أن تلك البضائع متدنّية الجودة هذا غير أنها و"بالتأكيد" مقلدة!
هكذا، إذا أردت أن تقلّل من قيمة منتج ما، فما عليك إلّا أن تقول إنه صيني! وطبعاً لا ننسى الحديث عن الخرافات التي تنسج عن الصين وعن العادات والتقاليد فيها، وهذا كله نابع من بُعد هذا البلد عن منطقتنا وثقافتنا، وعدم الاحتكاك المباشر مع شعبه، بالإضافة إلى الترويج الممنهج لأفكار مماثلة عبر وسائل إعلام تنتمي للمحور الغربي عامّة والاستعماري الأميركي على وجه الخصوص، لأسباب ثقافية وسياسية وبالطبع اقتصادية.
بالرغم من كلّ ذلك، كنت أحمل بعض المعلومات الإيجابية حول الصين. ففي تراثنا الشعبي والثقافي هناك مكانةٌ خاصّة لهذا البلد البعيد، فمثلاً هناك قول عربي قديم يقول: "اطلب العلم ولو في الصين"، وهذا القول يحمل في طيّاته عدّة دلالات، أوّلاً يدلّ على البعد الجغرافي بيننا وعلى القيمة التي أُعطِيَتْ للعلم حتى وجب قصده في تلك البلاد، كما تدلّ على معرفة العرب منذ القدم بالصين وشعبها، والأهم معرفتهم بثقافتها وعلمها المتقدّم في ذلك الحين. فكثير من العلوم أتتْنا من الصين وتمّت ترجمتها إلى العربية، واستفاد العلماء العرب منها كثيراً، وحتى الكثير من الحكم -وهي المنهج الأساسي للعلم والثقافة الصينية القديمة- أتتْنا من الصين ونحن نستخدمها حتى اليوم.
كما أن العرب عرفوا الصينيّين منذ مئات السنين من خلال التجارة، وخاصةً عبر طريق الحرير، فالحرير الصيني كان موجوداً بشكلٍ كبير في الأسواق العربية وخاصّة في حلب ودمشق وبغداد، وكان يُعتبَر من أفضل أنواع الحرير، وقد تغنّى به العديد من الشعراء والأمراء والتجار العرب قديماً.
إذاً، للعرب علاقات تاريخيّة مع الشعب الصيني، استمرّت طيلة قرون وتوزّعت بين التجارة والثقافة والعلم وغيرها من العلاقات الثنائية التي يسودها الاحترام المتبادل. إلّا أنّ سنوات التراجع التي مرّت بها كلّ من بلادنا والصين، باعدت في ما بيننا، وخاصة مرحلة الاستعمار والاحتلال.
فبلادنا وكذلك الصين، رزحت تحت احتلالٍ طويلٍ وتقسيمٍ متعمّد لضرب إمكانية النهوض، وبالتالي تراجعت معرفتنا بهذا البلد وشعبه وثقافته. وحيث يكون الجهل تكون الخرافة، خصوصاً إن اختلفت اللغات، فتحلّ الأقاويل مكان المعلومات والخرافة مكان الأفكار.
أمّا اليوم، وعلى الرغم من أنّ أحوالنا في العالم العربي لم تتغيّر كثيراً، بمعنى التبعية للمستعمر على المستوى الاقتصادي والسياسي وحتى الثقافي-الاجتماعي (الأفكار النيوليبرالية تجتاحنا من المحيط إلى الخليج)، إلّا أنّ الصين تخطّت هذه المرحلة، وتمكّنت من بناء موقعها المستقلّ على كلّ المستويات. وهي تقدّم نفسها اليوم نموذجاً جديداً للعلاقات بين الدول والأمم. نموذجٌ يختلف جذريّاً عن السائد، في ظل سيطرة الامبريالية الأميركية على العالم. كما تقدّم تجربةً فريدةً على مستوى التنمية الداخلية أثارت دهشةَ شعوب العالم، لكنّها وللأسف، لم تأخذ حقّها في الكتابة بعيداً عن ردّة الفعل الأولى والتعبير عن الدهشة.
بناءً على كل ما سبق، ومن موقع المتابع لِما يجري في الصين، ولأنّني أعيش في هذا البلد وأحتكّ مباشرة بشعبه وبهذه التجربة، كما بالطروحات الجديدة التي تطرحها الصين حول التنمية العالمية والداخلية، وهو ما قد ينعكس إيجاباً على منطقتنا وشعوبنا، كان لابدّ من كتابة مجموعة من المقالات على شكل سلسلة، اخترنا لها عنوان "مسيرٌ طويل"، تيمّناً بالاسم الذي أطلق على "المسير الطويل" الذي مشاه مناضلو الحزب الشيوعي الصيني أواسط ثلاثينيّات القرن الماضي والذي أدّى إلى تحررها وتوحيدها، ومن ثم تأسيس جمهورية الصين الشعبية. هذا المسير لم ينتهِ حتى اليوم، كونه مستمرّاً بأشكالٍ أخرى، وخاصّة على مستوى البناء الاقتصادي والاجتماعي، وبالزّخم نفسه.
لذا هذه السلسلة، للتعريف بهذا البلد ومسيرته، وكيف يمكن لشعوبنا أن تستفيد من تجربته فتسلك مسيرها نحو التحرّر والتطوّر. وهو مسيرٌ لا شكّ سيكون طويلاً وصعباً، كوننا نحكي عن عالمٍ جديد عن سعي نحو الاشتراكية في تجربة وخصائص جديدة.
# موسومة تحت : :