فلسطين تتسرب من المخيم*
"جدري" الانقسام الفلسطيني والنكسات المتتالية من جهة، ضيق الحال متعدد الأشكال، البطالة، الفقر المدقع، والاحباطات السياسية المتلاحقة من جهة اخرى، كلها فاقمت إحساس الكثير من اللاجئين بالقهر والعجز، حتى ليكاد بعضهم لا يجد المفر إلّا بحلم الهجرة، أشرعية كانت أم غير شرعية، والا.. فالهروب إلى المخدرات التي زاد تعاطيها بشكل مهول هنا في بعض مخيمات لبنان. أين فلسطين من هموم اللاجئين اليوم؟ قد يكون الجواب مبكياً..
حين تخرج من مخيم برج البراجنة جنوب بيروت، تعبّ الهواء عباً. تتنشق هواءً مشبعاً بروائح عوادم السيارات المزدحمة على أوتوستراد طريق المطار المحاذي لمدخل المخيم، ومع ذلك يخيل لك ان هذا الهواء الملوث أشبه "بالنسيم العليل"! لهذه الدرجة خيل إليك أنك كنت تختنق في الداخل. تسرع الخطى وإحساس بالضيق يلازمك حتى بعد ابتعادك. تقول لنفسك أنه الضيق الذي يبثه ذلك المكان لسكانه المؤقتين الذين استطال وجودهم، أما أنت، لحسن حظك، فمجرد عابر. مكان يبادلونه كرهه لهم وتوقه للتخلص منهم. قليلة هي الأماكن التي تعبّر هكذا عن نفسها.
كل شيء في مخيم البرج يبدو طارداً للناس، متبرّماً بوجودهم، الكهرباء بالكاد تكفي، الانروا بالكاد تدفع، المياه بالكاد تُشرب، البيوت بالكاد تتّسع، الأعمال بالكاد توجد، التعليم بالكاد يفك الحرف، الأمن بالكاد يتوفر. لا شيء هنا يبلغ كفافه. كأن كل ما في المخيم يتمطى بقوة ليصل إلى أدنى حدود وظائفه، حتى الأمل بالخروج من المخيم: إلى مكان أرحب، أو بلد أقل ضيقاً باللاجئين، أو عودة تكاد تصبح مجرد رمز.
هو كيلومتر واحد ذاك الذي نشأ عليه مخيم برج البراجنة. تماماً كأخيه مخيم شاتيلا. مشهد الفوضى العمرانية نفسه، مع ازدحام أكبر وضجيج تحصره الجدران المتقاربة للزراويب الضيقة، فيعلو حتى يكاد يصيبك بالصمم. وإن كان مصطلح الضاحية يعني عادة حزام البؤس، فإن مخيم البرج يمكن تسميته ضاحية الضاحية. ومع ذلك، لا شيء نافر بالتحديد للعين المعتادة على الفوضى العمرانية المكتظّة بما يفوق سعتها بأضعاف من البشر. شبكات أسلاك عنكبوتية تسقف فضاء الشوارع والزواريب، لا تعرف أيها للكهرباء وأيها للماء وأيها للساتلايت وأيها لنشر الغسيل، شبكة قتلت بفوضاها في العقدين الاخيرين أكثر من ٧٠ شخصاً دون أن يجد أحد حلّاً نهائيّاً للمشكلة، كما قال لنا ابراهيم ابو رياض عضو اللجنة الشعبية التابعة لتحالف الفصائل.
وبرفقة الأخير، ندخل المخيم من جهة المحامص التي تحاذي حاجزاً أمنيّاً للدولة اللبنانية. حاجزٌ لم يحل دون دخول الاسمنت الممنوع من الدخول بقانون، ما ساهم «بازدهار» العمران العشوائي، خاصة بعد النزوح السوري العام ٢٠١١ الذي ضاعف ساكني المخيم من ٢٥ الى ٥٠ ألفاً تقريباً حسب مصادر اللجنتين الشعبيتين. ففي المخيم لجنتان إحداهما للتحالف والأخرى لمنظمة التحرير.
المخيم مرآة فلسطين
رائحة فستق العبيد اللذيذة التي تفوح من المحامص ترافقنا لعشرات الأمتار. مقابل مسجد الفرقان، تلفتك صور صدام حسين الملصقة حديثاً على الجدران. لا تفهم! ماذا يفعل الرئيس العراقي الراحل هنا، وبلباسه العسكري بعد مقتله بخمسة عشر عاماً؟
يأخذنا مرافقنا بجولة استطلاعية لم تستغرق اكثر من ربع ساعة جلنا فيها من أول المخيم إلى آخره. يشير إلى الشارع الذي نخترقه قائلا "من هنا إلى اليمين ننزل إلى حي البعلبكية"، يقصد اللبنانيين المهاجرين من مدينة بعلبك عاصمة البقاع. يضيف "كمان جيراننا يعتبروا حزام بؤس". نسأله عن الوضع مع جيرانهم اللبنانيين؟ فيجيب بديبلوماسية الوجهاء "في مصاهرة وفي علاقات قوية وجيدة". نبتسم للكلام المطمئن الذي نعرف أنه غير دقيق على الأقل من نشرات الأخبار. يبتسم بدوره متواطئاً ويستدرك قائلاً "هلق بيحصل بين الأخوة ونفس العيلة مشاكل، بس بتنحل بأرضها". أما كيف "تحل بارضها"؟ فللبحث صلة.
لسبب ما، انتهت جولتنا بمقبرة المخيم. لم افهم لم جلبني الرجل إلى هنا. مقبرة "جميلة" إن كان ممكناً نعتُ المقبرة بالجمال. مكتظة كالمخيم، ولكن مرتبة. القبور متلاصقة لولا سنتيمترات تفصل بينها. تتوسّط بلاطاتها أحواضٌ من النباتات الخضراء كتلك التي نراها في المسلسلات التركية. يشير الرجل إلى طرف المقبرة حيث وقف رجال انهمكوا بحفر التراب قائلا أنهم، أي اللجنة التي ينتمي إليها، لا ينتظرون وفاة أحدهم ليحفروا، بل يقومون بذلك مسبقاً. لم أفهم ما معنى هذا الانجاز ولكني أومأت برأسي أن :حسناً.
ولادة المخيم
إلى أبعد طاولة داخل مقهى نهرب من الضجيج الفظيع للموتوسيكلات التي لا تتوقف، آملين أن نتمكن من سماع بعضنا. يروي لنا ابراهيم ابو رياض (جبهة النضال) أن المخيم نشأ عام ١٩٥١. "يومها، تبرع رجل من برج البراجنة لا أذكر الآن اسمه، بقطعة أرض نصب عليها الفلسطينيون خيمهم، وبالطبع العائلات صارت تتجمع، وأهل القرية الواحدة ايضاً". ويتابع "المخيم الاساسي هنا من فلسطينيي ١٩٤٨، من قرى الجليل كالكويكات وترشيحا والكابري والغابسية والشيخ داوود... إلخ. بقيت الخيم حتى الستينيّات حين سمحوا لنا ببناء جدران من الباطون لكن مع الحفاظ على السقوف الزينكو، لتثبيت واقع الوجود المؤقت. لكن الشتاء كان قاسياً، وكانت خيمنا نتيجة العواصف تطير". يسكت هنيهة ثم يتابع روايته "العام ١٩٧٥بدأت الحرب الأهلية اللبنانية وغابت الدولة، فأخذ من توفرت له الإمكانية المادية بصب سقوف من الباطون بدل الزينكو. وبمرور الوقت، كبُرَ الأولاد، ولأننا ممنوعون من التملك، اضطر الناس لبناء طابق ثان للأولاد، وهلم جراً حتى حصل هذا الاكتظاظ".
رغم العمران العشوائي العامودي إلّا أن علوّ المباني لم يطل كل الزواريب. لذا، لا تزال الشمس تدخل نسبياً، والأزقة تنفرّج احياناً لتصبح أقل ضيقاً وأنظف. ربما يكون ذلك بسبب أن التمدد الافقي لجهة الضاحية الجنوبية أقل صرامة من جهة العاصمة. فالفقراء على اختلاف جنسياتهم يتساهلون مع بعضهم، تقول في نفسك.
من شارع مستشفى حيفا السيئة الذكر لتدني مستوى الطبابة فيها، تتفرع تقريباً كل الزواريب. على جانبي الشارع دكاكين ومحلات غالبيتها الساحقة للسوريين. تظن نفسك للحظة وبسبب اللهجة والحركة النشطة والعتمة النسبية للشارع المسقوف بشبكة الأسلاك، كأنك في سوق حميدية مصغّر.
تأثير النزوح السوري
"هاي مش فرص عمل هاي أعمال حرة!" يقول أبو رياض حين نسأله إن كان النازحون السوريون قد حرموا الفلسطينيين داخل مخيمهم من فرص العمل. ثم يشرح نظريته "أنا عندي مثلا محل. لكن ما معي ١٠٠ دولار بجيبتي افتح فيهم مصلحة، شو بعمل؟ بأجره وبمشي أموري"، مردفاً "يعني ما في تنافس".
لمحمد دبدوب، من اللجنة الشعبية التابعة للمنظمة، والذي قابلناه في بيته نهاية المخيم في حي يحمل اسم عائلته، رأيٌ يصب في باب النقد الذاتي، كما يبدو للوهلة الأولى. "السوريون شغيلة وإحنا تنابل"، يقول. ثم يضيف "السوري يشتغل بأي شيء. السوري يجمع في الشقة الواحدة ٥ عائلات، أما الفلسطيني فلا يقبل أن يسكن إلا مع عائلته وحدها. السوري يقسم الايجار على ٥، الفلسطيني يدفعه لوحده". ثم يضيف "نحن "بهوارية" بالأكل باللبس، لكنهم يقتصدون على حساب أشياء كثيرة، وبما يوفروه يستطيعون فتح محلات". هل كان ذلك مدحاً أم ذمّاً؟. تسعفه زوجته بشهادتها "المخيم كله لهم. كل المحلات. قليلة محلات الفلسطينيين".
لكن النقد الذاتي يأخذ اتجاهاً آخر "الفلسطينيون متعلمون لذا يعملون في المؤسسات، غالباً في الوظائف الادارية". وهل هذا يعني أن السوريين غير متعلمين؟ "مش القصد"، ثم يستدرك "طبعا لدينا حرفيين: كعمال البناء مثلا، لكنهم بلا شغل بسبب منافسة السوريين. فإن تقاضى الفلسطيني ٥ دولارات على المتر، يتقاضى السوري دولاراً واحداً". ثم ينفث سيجارته ويقول "كيف بدك تنافسيه هاد؟".
وبعكس الكلام الديبلوماسي لأبو رياض يشير محمد دبدوب إلى "اشتباكات دائمة بجوارنا في حي البعلبكية"، ويستدرك شارحاً "ليس لأسباب ايديولوجية أبداً، بل بسبب تجارة المخدرات. فجوهر المعارك بالمختصر وبدون كلام مزوق، لمن السيطرة على هذا الشارع أو ذاك الزقاق". هل انتشرت المخدرات لهذه الدرجة؟ يؤكد "مؤخرا بشكل لافت. وبالطبع مصدرها من خارج المخيم". ويشرح أكثر "في حي البعلبكية هناك منطقة اسمها الجورة، وهناك مخدرات أخطر بكتير من الحشيش. في سيلفيا وهيرويين وكوكايين. حتى الكوكايين الغالي الثمن عندما يدخل المخيم يصبح رخيص الثمن". هل لأن السعر "حسب رأس الزبون؟" نسأله. يجيب "لا، حسب المخطط. برأيي هناك مخطط لتدمير المجتمع الفلسطيني. لكن بمخيمنا ما بتلاقي هالصورة متل مخيم شاتيلا. شاتيلا واضحة. عنا ما في علنية. لأن مخيمنا لا يزال مبنيّاً على العائلات».
يرن تلفونه فيستأذن ونسمعه يتفاوض مع أحدهم "العوض بسلامتك. اديش بتكلف فتحة القبر عندكم؟ موصي الزلمة يندفن بجانب أخوه. له يا زلمة! خمسة الاف دولار؟ ايه خلص مندفنه هون بالمخيم". يشرج لنا محمد أن حزب الله اتصلوا بهم كلجنة، واخبروهم بوجود فلسطيني مريض بالضاحية يسكن لوحده وبحاجة للمساعدة، "رحنا نقلناه ع المستشفى الحكومي. حكينا مع الصليب (الاحمر) فقبلوا أن يغطوا تكاليفه. أمس توفى! حكينا رابطة عكا ليهتموا بالعزا. لأنه بالاصل من عكا".
يستذكر ابن حركة فتح الذي كان معتقلاً في سوريا بعد حرب المخيمات لسنوات خمس، حالهم كلاجئين مهيضي الجناح بداية اقامتهم هنا. "أيام سقوف الزينكو، كان الدركي يعبر من أول المخيم لآخره فيدعس على من يشاء دون أن يجرؤ أحد على التعاطي معهط. يأخذ نفساً من سيجارته وهو يداعب شعر ابنته الصغيرة الجالسة في حضنه، ويضيف "أذكر أحاديث الأهل عن دركي كان اسمه بهجت كان يضرب الكبير والصغير ولا يحترم أحداً. بعد أيلول الأسود، ومجيء الثورة إلى لبنان، في السبعينيّات، تغير الوضع، تحديداً بعد استشهاد القادة الثلاثة(١) في شارع فردان (منطقة رأس بيروت)، حصلت مظاهرات كبيرة واستقالت بالنتيجة حكومة صائب سلام. صار للبنان حركة وطنية بقيادة كمال جنبلاط فتحالفنا كثورة معها. صار في قوة مقابل قوة، وهذا رد عنا بعض الظلم. يومها انتهت أيام الزينكو وصارت الناس تعمّر باطون".
يحرص على التوضيح "لم يكن الهدف بالطبع الإقامة الدائمة فنحن أصحاب قضية ووجودنا مؤقت، ولكن على الأقل أصبحنا نسكن في بيوت لها مواصفات السكن بالحد الأدنى. طبعاً لم يكن تصرفنا قانونياً بل فرضاً لأمر واقع، تماماً كجيراننا إن كان في حي البعلبكية أو منطقة الرسول الأعظم. كل العمران هناك غير شرعي".
ليس سرّاً أن الفلسطينيين اشتركوا في الحرب الأهلية اللبنانية بفعالية، خصوصاً وأن اليمين اللبناني تواطأ مع الكيان الصهيوني ضدهم وضد الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت تضم الى قوى اليسار التقدمي الثورة الفلسطينية. ليست مجزرة صبرا وشاتيلا إلّا فصلاً من تاريخ طويل يحمل أسماءً أخرى لمخيمات مُحِيت عن بكرة أبيها خلال تلك الحرب كتل الزعتر ومخيم جسر الباشا. أما نصيب مخيم برج البراجنة فكان التدمير بأشكال أخرى.
بعد خروج المقاومة من لبنان العام ١٩٨٢ إثر الاجتياح الاسرائيلي، نشبت حرب المخيمات بين الفلسطينيين وحركة أمل العام ١٩٨٥ "تدمرت خلالها كل هذه المنطقة" كما يقول محمد دبدوب، حيث استخدمت في تلك "الاشتباكات" المدافع والقنابل إضافة للقنص.
اتذكر مبنى "مؤسسة صامد" خلال الجولة مع أبو رياض، والتي لا زالت جدرانها تحتفظ بآثار الرصاص فتبدو كوجه أصابه مرض الجدري. يصحح دبدوب "لا تلك من آثار الحرب الداخلية بين فتح والمنشقين عنها، خرجت فتح بنتيجتها من مخيمات بيروت إلى صيدا". اذا هو جدري الانقسام الفلسطيني. يومها، يضيف دبدوب "دمرت بيوت كثيرة هنا، أما منطقة جورة ترشيحا فقد دمرها بكاملها قصف ابو موسى (المدعوم من سوريا). بعدها خرجت فتح في آب ١٩٨٨ وجرى الاستيلاء على كل أملاكها. كان لدينا هنا مؤسسة صامد، كان مركزها يحتوي على منجرة ومعمل حلاوة ومحل حدادة ومحل حجارة ومشغل تراث ومشغل موبيليا. كانت كلها تشغل ابناء المخيم". وماذا حصل لها؟ ألم يشغلها من استولوا عليها. يبتسم بحزن قائلاً "لا والله. حاليّاً كلها مقرات عسكرية".
حين سألنا ابراهيم ابو رياض عن المغزى من تحويل "صامد" التي كانت تدر ريعاً على المخيم وتشغل أبناءه إلى مقر عسكري، هز بكتفيه قائلاً طهي اليوم مكاتب فقط. تحولت لموقع عسكري". ثم يستدرك "لكن لدينا رياض أطفال ومدارس تقوية للتلاميذ للمتوسط والثانوي". ويضيف بفخر "رغم الظروف الصعبة اجتماعيّاً وسكنيّاً إلا أن نسبة التفوق المدرسي كبيرة، ونسبة التسرب قليلة. ذلك أننا نقوم بدعم مدرسي لحوالي ٨٠ في المئة من التلامذة". نسأله إن كانوا يفعلون ذلك مجاناً فينفي قائلاً "بل بأجر".
أتذكر ما قاله لي صديق من المخيم حين سألته أن يصلني بشبان من شلّته القديمة، فقال أن "من فلحوا في التعليم، صاروا إما بألمانيا أو في السويد". اسأل الرجل عن مصير المتفوقين إن كانوا يبقون هنا أم يهاجرون. يصوغ الجواب بطريقته الديبلوماسية، "الشباب يبقون، لكن للأسف لا يجدون أشغالاً". إذا يهاجرون؟ يجيب "الهجرة قليلة بالنسبة لعدد السكان. إذا طلع ٣٠٠ شاب وهاجروا هدول ولا شي بالنسبة للسكان. هدول بالظروف الطبيعية عم يهاجروا".
حسناً إذا، فلنذهب الى الشبان شخصيّاً.
المقهى
في أحد الزواريب نجد دزينة من الشبان جلسوا أمام المقهى كما في صف السينما، اي باتجاه واحد، وليس في حلقة كما يفعل الندماء. بدوا كمن يتفرج على شيء أو ينتظرون شيئاً. اقترب واسأل. يضحك أحدهم لسؤالي ويجيبني بلهجة دير الزور"نحن سوريين مو فلسطينية. ناطرين اذا حدا بدو شغيل". اخ. اخطأت العنوان. لكن مع كل هذا العدد من السوريين هنا كيف تميز؟ أتوغل في الزواريب على غير هدى إلى أن وجدت مقهىً آخر مكتظاً بالشبان وبالأراكيل.
"مقهى محمد الشبطي". يبشّ الشبان لنا مستبشرين بيوم مختلف يكسر رتابة ايام البطالة العادية. تفتر ابتسامة محسن فتح الله (٢٢ عاما) عن أسنان تكسر بعضها باكراً بفعل التسوس وقلة العناية.
باكراً أيضا تبيّن أن محسن ترك المدرسة. "واصل للسادس" يقول. فقد اضطر للعمل كنجار موبيليا بعد وفاة والده ووقوع مسؤولية العائلة على عاتقه الصغير. لكنه حاليّاً عاطلٌ عن العمل. "بضرب ضربات صغيرة، ما في شغل. وفوق المخيم صار في مخيمين بسبب النازحين، بدك واسطة تتقطعي الشارع من كترة الخلق، والضجة مش معقولة، انت هلق قاعدة بالقهوة وسكرنا الباب وبعدك عم تقوليلي عليّ صوتك تأسمع".
نسأله إن كان هذا الازدحام يولد توتّراً بينهم؟ فيجيب "اجباري. الضغط زي ما بيقولوا يولد انفجار. بيضل الواحد كامش بقلبه، بآخر شي بينفجر". نسأله إن كان متزوجاً فيرد ساخراً وسط ضحكات الآخرين "بهالوقت؟ دوبك الواحد يجيب علبة دخان وفنجان قهوة. منطلع الصبح منقعد بالقهوة ننتظر الرزق. كلنا هيك. عدينا: سبعة ثمانية عشرة دزينة".
يقاطعه حسن "ما انو تشوفي في اكم من شاب هان. الشباب كلها عم تهاجر بالتهريب". ويضيف "أنا بعت بيتي وسافرت. وصلت إلى كوبا لكنهم لم يدخلوني الى اسبانيا! خسرت ٢٨الف دولار". إلى كوبا؟ يجيب "لأنه مسموح لنا الذهاب إلى كوبا، على أساس من هناك نحجز بطاقة عودة إلى بيروت مروراً باسبانيا، ثم نهرب في اسبانيا. لكني لم أنجح». ثم يضيف وهو يكنس الهواء بظاهر يده "هوهووو. ومثلي متايل".
يتحمس شاب آخر للكلام طيا اختي العالم رح تنتف بعضها. كلنا بضيقة. الواحد ما عم يتحمل حاله. ليكي ملا مناظر قاعدين فيها. ليكي الزواريب. ليكي الموتورات. ليكي شرايط الماي والكهربا كيف مخلوطين مع بعض". يكمل محسن كلامه "كل يوم والتاني واحد بتلطشه الكهربا او بتقتله. وكل واحد عنده كلاشن بالبيت بيجي بيصير يقوص"، يرفع يده باتجاه السماء ويقلد صوت الرصاص "ببببب".
وماذا عن وضع المخدرات في المخيم؟ يجيب حسن "قد ما بدك مخدرات. كتير متضاعفة لدرجة مش طبيعية. كل يوم بتزيد عن يوم. العالم ما عم تشتغل، لذلك ما ماشي الا المخدرات. مصدر رزق. التاجر صار عنده عشر مروجين، العشر مروجين صار بينهم في خمس تجار. كله عم يزيد".
لكن من أين النقود لشراء المخدرات والعاطلون عن العمل لا مدخول لهم؟ يتبرع محسن للشرح "سأشرح لك: المتعاطي تحول الي بائع ليستطيع ان يربح نقودا من اجل ان يشتري مخدراته! هل فهمت لم تفاقم الامر؟ يعني اللي بيطلعه بيتعاطى فيه". يزيدنا صاحب المقهى شرحا "بعدين الديلر (التاجر) بيعطيه عالامانة!". عالأمانة؟ يضحك وهو يقول "أقصد لا يتقاضى الثمن فوراً بل يمهله إلى أن يبيع. لما تتيسر معه. كتير مسهلة". ويضيف هذه القفلة "ايه واللي بيعملوا مصاري، بيصير معهم ما يكفي ليفلوا من هذا البلد".
«انسان »
"المخيم بكامله لازم يتسكر عليه ويخضع لعلاج نفسي". يقول نمر نمر الذي التقيناه في مركز "انسان لعلاج مدمني المخدرات" في المخيم. ويضيف الشاب الثلاثيني الذي أسّس المركز العام ٢٠١٣، ويموله وأصدقاء له من جيوبهم كما قال لنا "أنا، من أعالج المدمنين، بحاجة كل فترة أن أزور طبيبا نفسيّاً. المخيم أصبح مكاناً مخيفاً: كيلومتر مربع يقطنه ٤٧ ألف نسمة! ثلاثة شعوب تتزاحم هنا. لبناني وسوري وفلسطيني، لكل تقاليده وأفكاره. تصادم تزاحم توترات لها علاقة بفرص العمل والسياسة والايديولوجيا والأمن والمكان".
فيما مضى كان نمر مقاتلاً "مع فلسطين"، كما يجيب حين نسأله مع أي جهة كان ملتزماً حينها. ثم يضيف "المجتمع الفاسد هو اليوم معركتي الاساسية، اليوم أنا مناضل اجتماعي".
استطاع نمر ورفاقه بمرور الوقت أن يعمموا وعياً في المخيم مفاده أن "المدمن ليس مجرماً بل مريضاً يلزمه علاج. كانت تلك خطوة كبيرة في مجتمع تقليدي كمجتمع عشائر وعائلات المخيم".
"بداية كنا نؤوي المدمن لفترة أسبوعين فقط من اجل فطامه (ديتوكس) قبل تحويله لمصحات خارجية، يضيف، كنا بذلك نوفر على اهل المريض حوالي ٣ ملايين ليرة (ألفي دولار)، لكننا وجدنا أن تكاليف العلاج الكامل لا زالت كبيرة على الأهل، فقررنا توسعة المركز ليصبح مركزاً للعلاج".
نسأله إن كان سبب مبادرته تفاقم عدد المدمنين في المخيم؟ فيصحح "بل لأن نوعية المخدرات اصبحت اكثر خطورة. هناك مواد جديدة لا نعرف حتى على ماذا تحتوي! أحياناً مجرد نصف حبة ممكن أن تودي بالمتعاطي إلى الجنون. خاصة المواد المصنعة محليّاً كالفراولة والسيلفيا والكبتاغون. يجري "ضربها" ببودرة الهيرويين فيصاب المتعاطي فورا ب "اوفر دوز"".
يقسم نمر مرضاه إلى ثلاث فئات "فئة نستلمها من القوى الأمنية الفلسطينية التي قد تكون قد ألقت القبض عليهم، وفئة، يستنجد اهلهم بنا كونهم صاروا خارج السيطرة، فنتقرب منهم لاقناعهم بانهم بحاجة للعلاج. وفئة من المرضى يقصدوننا من أنفسهم".
بلغ عدد نزلاء المركز يوم زيارتنا ١٣شخصاً.
يتقدمنا نمر ويفتح باباً خشبيّاً بالمفتاح. ندخل إلى فسحة لم نكن نظن أنها قد تكون موجودة هنا. مكان جميل يشبه شاليهات مراكز التزلج الخشبية. يبدو المكان يدوي الصنع. يبتسم النزلاء لنا. كلهم شبان. الجميع مشغول بشيء ما: إما في ورشة النجارة أو غرفة الموسيقى أو ورشة مجسمات الجفصين. يضحك أحدهم وهو يشير إلى مجسمات على شكل أرزة خضراء قائلاً "عم نروج للسياحة اللبنانية".
نسأل نمر بعد خروجنا إن كان مرضاه يعانون من انتكاسات متكررة فيجيب "أكيد، لأن البيئة الحاضنة هي نفسها والمجتمع هو نفسه". هو ذلك. أقول في نفسي. انتكاسات وانتكاسات. حين يطيل الفقر المكوث يصبح جهلاً. حين يطيل الجهل المكوث يصبح كارثة. أين فلسطين من كل تلك الهموم؟
حين سألت شبان المقهى: ماذا تعني فلسطين اليوم لكم؟ لم يترددوا بالإجابة:"اي فلسطين؟" قال احدهم. "نسّونا اياها" قال آخر. "بعدنا منفكر بفلسطين؟ عم فكر كيف بدي أهاجر"، قال ثالث.
ثم سكتوا فجأة كمن تذكر أمراً شخصياً محزناً. يطول الصمت فأهمّ بالكلام وإذ بمحسن يقول ببعض غضب "عم ينّسونا اياها شويه شوية". اسأل كمن يتمنى جواباً آخر: وهل نجحوا؟. فيجيب بلهجة الدفاع عن النفس "نجحوا. عندي كوم لحم بدي طعميهم. فاضي افكر بفلسطين؟".
بهدوء، يتكلم بلال الذي كان لا زال صامتاً منذ بداية اللقاء "لو سأل أحدهم: من من الدول لا زال يحكي باسم قضية فلسطين؟ لقلنا: لبنان. لكن ما يحز بالنفس أن لبنان الذي يحكي باسم فلسطين، يحرم الفلسطيني من أقل حقوقه الانسانية، ويجعله يلتهي عن قضيته بلقمة عيشه. هذا اللبنان يصبح، من حيث لا يدري، شريكا للصهيوني". ثم يسكت لهنيهة ويستل سيجارة من علبته مضيفاً "انا شو قادر اعمل لفلسطين؟". ثم ينظر في عيني ويضيف "وصلت الفكرة؟ مشي الحال؟".
(١): المقصود قادة فتح الثلاثة :كمال العدوان وكمال ناصر وابو يوسف النجار، والذين قامت اسرائيل باغتيالهم ١٠ نيسان/ابريل العام ١٩٧٣، في مقر اقامتهم بشارع فردان في العاصمة اللبنانية بيروت.
* ينشر هذا المقال بالتنسيق مع موقع السفير العربي.