تركّزت عيون العالم وأبصاره في النظر إلى الاستعراض الأسطوري للجيش الصيني في بيجين (بكين) احتفالاً بالذكرى السبعين لتأسيس الجمهورية الشعبية. اكتمل الاحتفال بنشر مواد إعلامية على نطاق شامل عاش من خلالها كل مواطن صيني، من أمّة تجاوز عديدها المليار ونصف المليار نسمة، أهمية الثبات والمثابرة، كلّ فرد حيث هو في مجتمعه وعمله، بمن فيهم كبار المسؤولين وقادة الدولة. من أهم تلك المواد الفيلم السينمائي "أنا ووطني الأم" الذي حقق في شبابيك التذاكر أرقاماً قياسية، إضافة الى سلسلة "نحن سائرون على الطريق السليم" (مجموعة من الأفلام الوثائقية بثّتها قنوات تلفزيون الصين المركزي). احتفل أكبر شعب- دولة، قلباً وقالباً، بماضٍ مجيد ومستمر في ظلّ تحديات محلية سلمية تنافسية وخارجية عدوانية. تميّزت المشاهد في كل منطقة ومقاطعة ومدينة بعروض تعكس تراثها وتقاليد أهلها. وفي هذا السياق كان "خريف شانغهاي الذهبي"، التسمية التي تمّ إطلاقها على مهرجان تلك المدينة الدولي للفنون بدورته الأولى بعد العشرين التي استمرّت طيلة شهر طويل كامل (31 يوماً) وشملت عروضا قدمها 15000 مبدع من 65 دولة خلال 350 نشاط بأشكال متنوعة.
لقد احتلّت الصين مركزاً رائداً في مجال النمو والاقتصاد والتجارة ودفع شعبها دما ليروي حرية ويحمي وطنا وشعبا قرر، متى استطاع، أن يتشارك النجاح مع أرجاء المعمورة كلها، لأنّ مصيرَ الانسانية واحدٌ والاستثمار في البنية التحتية يخدم كل إنسان، هذا ما اتّفقت عليه الدول المنضوية في مبادرة "حزام وطريق"، وهذا ما دعت إليه شانغهاي في معرض الاستيراد الذي عامل الجميع على أساس المساواة، بما في ذلك الشركات الصينية لمن يقومون بتسجيل شركاتهم في الصين. وفي تلك المدينة الدافئة أيضاً، أتت "على قدر أهل العزم العزائم" ، وكان لفرنسا نصيبٌ كبير، عقود بأكثر من 15 مليار دولار (من أصل 57 مليار مجموع قيمة العقود التي تمّ توقيعها خلال المعرض)، نتج عنها موجة انتقادات لفرنسا بسبب السياسة الأحادية والحمائية التي ارتدّت إليها الولايات المتحدة الاميركية بعد أن هدمت حدود اقتصاد بلدان أخرى بحجة ضرورات العولمة. لعبت شانغهاي دوراً تحفيزيّاً هامّاً للاقتصاد العالمي بعد سنة من الركود دون أن يكون هناك أي بريق أمل للتفاهم مع الرئيس الأميركي ترامب مُفتعِل الأزمة. ما ربحته الصين من المعرض يقوم على ما استطاعت أن تقدّمه من مواد ذات مواصفات وجودة تستجيبان لما تبحث عنه طبقات اجتماعية معينة، بالإضافة إلى منافع اقتصادية محلية، وذلك دون أي تجاوز لعرف محلي أو قانون سيادي. أصبحت الصين ثاني دولة عالميّاً وهي تقدم التسهيلات لتعزيز القدرات على الشراء بدل خوض الحروب الكونية بحثاً عن مستهلكين وأسواق، عكس ما قامت به كل تلك الدول التي ارتضيناها أن تكون عظمى تبيع مستقبلنا وتشتري أحلامنا وتدمّر ثقافتنا. وهي، في سعيها لوضع اليد على خيراتنا، تعمل على نسف وتدمير حضاراتنا وتحويل حواضرنا ومدننا إلى بؤرٍ للبؤس والفساد والجريمة.
المدينة في الصين، وإن اتّهمها البعض بأنّ فيها "مظهراً واحداً لألف مدينة"، يجمعها بكافة المدن نشاطٌ واحدٌ هو السباق في مجالات التنمية ورفع القدرات التنافسية الاقتصادية من تجارة وصناعة وزراعة، وبالطبع، دونما إهمال للثقافة الملازمة لكل تطور اجتماعي. وهكذا تتوضّح الصورة و تتميّز. المدينة تتبدّل وتتطور، كما هي حال حياة هذا الشعب الذي انتهج "الاشتراكية بخصائص صينية" (كما يردد الرئيس الصيني تشي جين بين دائماً). إن الوصول إلى درجة عليا في السلّم لا يجيز التخلي عن الدرجة الأولى، من هنا أهمية التوازن، من جهة، بين الحفاظ على إرث أهل المدينة كلهم، ومن جهة ثانية تجديد المعالم القديمة، من مساكن أو مصانع للاستفادة منها في عملية مجاراة الحياة العصرية مع ما تحتويه من تطبيقات رقمية دخلت الجيل الخامس. يعرف كل متابع، فكرة تحويل الأبنية المستغنى عنها إلى وظائف جديدة للحفاظ عليها، ومنها العديد من "الآثار" الصناعية التي أضحت مبانٍ سياحية. فيُصبح المبيت فيها أو تناول الغذاء أو ارتشاف القهوة شبيهاً بفتح كتاب مدونات وذكريات جيلٍ عاش أو عمِل في المبنى ذاته خلال زمنٍ مضى، لتتحوّل المنازل والمصانع القديمة إلى كتبٍ نقرؤها في سياق التجول والتسامر في أرجائها. لا يمكن أن تكون الصناعة بحاضرها وماضيها، كتلة جامدة من الخرسانة، إنما هي جزء من ذاكرة المدينة وأهلها وهويتهم الحالية، هي كائن جميل ومليء بالمشاعر الإنسانية المرهفة.
وما دام الكلام قد أوصلنا إلى الحديث عن المشاعر، أعود إلى نفسي، أنا الذي نشأت وترعرعت في وطني اللبناني، والذي طالما اعتبرته، كما زعموا لنا في المدرسة أيام الطفولة، همزةَ وصلٍ بين الشرق والغرب ومنارة للثقافة والرقي ومبدع الأبجدية وناشر المعرفة ونموذج التعايش... تلك أساطير تبخّرت من ذهني قبل أن أخدمَ العلم وقبل أن أهاجر، فتركَتْ في نفسي ألف غصّة وغصّة. ليت الآتي من الآيام يمحو بعضها!
Read more...