بيان صادر عن اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني حول الانتخابات النيابية
عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني سلسلة اجتماعات متتالية عرضت خلالها تقييم المكتب السياسي للانتخابات النيابية. وشارك في النقاش معظم أعضاء اللجنة المركزية الذين قدّموا أكثر من 55 مداخلة (دون سقف للوقت)، شملت مداخلات مقدّمة من الهيئات والمنظمات القاعدية التي عقدت عشرات الاجتماعات، ومداخلات فردية، مكتوبة أو شفهية. وقد تجاوزت النقاشات موضوع الانتخابات بحد ذاته لتطرح العديد من المسائل في الفكر والسياسة والتنظيم الحزبي. وبنتيجة هذه النقاشات توصلت اللجنة المركزية إلى اتخاذ جملة قرارات وإجراءات وخلاصات سياسية وتنظيمية، تعلن أبرز نقاطها امام الرأي العام اللبناني وفق الآتي:
شكّلت الانتخابات النيابية في لبنان - وسط احتدام الصراع الدولي والإقليمي لإعادة تشكيل المنطقة ورسم خرائط دولها من خلال الهجمة الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية - محطّة مهمّة لغالبية القوى الأساسية المنخرطة في هذا الصراع كي تتدخّل في الانتخابات وتحاول التأثير في مجرياتها ونتائجها، بعد تمديد المجلس النيابي السابق سلطته ثلاث مرّات والخشية المتزايدة من انفجار المواجهة السياسية والشعبية الداخلية ضد التمديد والتعطيل وتفاقم الاوضاع الاقتصادية – الاجتماعية في البلد. وقد ارتدت هذه التدخلات الخارجية أشكالاً عدّة: من محاولة صياغة التحالفات السياسية بين أطراف في السلطة، إلى الدعم الاقتصادي والمالي المباشر لها، إلى مساندتها على الصعيدين الإعلامي والإعلاني وبكل السبل المتاحة، حتى تلك التي لا تجيزها الإجراءات الانتخابية المقرّة.
لقد جدّدت الانتخابات النيابية الأخيرة النظام السياسي القائم، وأفضت، من خلال تحالف أحزابه الطائفية والمذهبية مع قوى الرأسمال المالي والريعي، إلى تعزيز التوجّه العام نحو قيام شكل من أشكال "الدولة الفدرالية". وهذا النمط من الحكم، المستند إلى تحالف "أكثريات" فئوية أفرزتها سياسات الفرز الطائفي والمذهبي وتسعير حدّة التخويف والقلق الدائمين من الاقتتال الأهلي، يستجيب بشكل أو بآخر لمشاريع تقسيم دول المنطقة على أسس طائفية ومذهبية، وهو الأمر الذي وقفنا ضده، شكلاً ومضموناً، قبل وخلال مجمل مراحل الانتخابات النيابية. وتفرض علينا هذه المعطيات ضرورة التبصّر وإمعان النظر في سبل مواجهة هذا الواقع مستقبلا، من خلال فهم أعمق لطبيعة المتغيّرات الجارية في المنطقة، والإحاطة الوافية بحجم ونوع التحوّلات داخل البنية السياسية والاجتماعية اللبنانية، بما يمكّننا من تحديد الخط السياسي الواضح والخطاب الملائم وأدوات العمل الجديدة التي ينبغي على الحزب والقوى الوطنية والعلمانية امتلاكها لبناء مقوّمات المواجهة في التحرر الوطني والاجتماعي.
إن القانون الانتخابي قد شكّل الأداة السياسية - القانونية المنتجة لحكم الأكثريات المذهبية، من خلال مضمون للنسبية كرّس القيد الطائفي وطريقة تقسيم الدوائر وهندسة الصوت التفضيلي، وحرص فعلا على تجاهل مقتضيات تمثيل النساء والشباب ومنع تمثيل القوى العلمانية والوطنية. وتمّ تفصيل هذا القانون لمصلحة الأحزاب الطائفية – بعدما تحوّلت الطوائف إلى أحزاب سياسية "شمولية"، فكان أن أجمعت تلك الأحزاب على إقرار القانون لإعادة إنتاج سلطتها بصيغة متجدّدة في الشكل حفاظا على مصالحها السياسية والطبقية، مع حرصها الفعلي موضوعيا على التحالف فيما بينها بالرغم من خلافاتها وصراعاتها حول القضايا الإقليمية والدولية.
والمنتج الجديد من هذه الانتخابات تمثّل في زيادة عدد كبار رجال الأعمال والأثرياء والمصرفيين بين المرشحين والنواب المنتخبين، مما يعكس إزدياد تركّز وتداخل السلطة ورأس المال، اللذين يتغذّيان - بقسم كبير منها - من فضاء الريع والثروات المالية المحقّقة في الداخل والخارج، مع العلم أن هذا الفضاء لم ينتج لا فرص عمل لائقة ولا انتاجاً مادياً ذا قيمة مضافة عالية، وتلازم نموّه على الدوام مع إنتاج المزيد من الفقر والافقار والهجرة والبطالة والتراجع في القاعدة المادية للإنتاج وللنمو الاقتصادي الحقيقي.
كما شكّلت الانتخابات بحد ذاتها مثالاً حيّاً على مستوى الفساد السياسي الذي وصلت إليه البلاد، والذي شمل كل المستويات: من الضغط لفرض ترشيحات وسحب أخرى، إلى تدفّق المال السياسي بالجملة وشراء الذمم بالمفرّق، إلى ضخامة التمويل الخارجي الذي انصبّ على دعم لوائح أطراف أساسية في السلطة وحلفائها عبر قنوات الإعلام والإعلان الانتخابيين، حيث انحصرت الإطلالات الإعلامية في كبار المتمولين، وسط عجز مطلق عن ضبط الإنفاق الانتخابي ومصادر تمويله الفعلية لأسباب متنوّعة، من ضمنها السرّية المصرفية. وقد سخّرت أطراف السلطة أجهزتها كافة لمصلحة مرشحيها مستخدمة التزوير والترهيب والترغيب وتقديم المنافع والخدمات الزبائنية بالتوظيف وتقديم الهبات، وصولاً إلى تقويض الإشراف الفعلي على الانتخابات، وهو ما كشفت بعضاً من جوانبه هيئة الإشراف على الانتخابات ومؤسسات دولية وإقليمية ومحلية.
إنّ المساعي التي بذلتها قوى الاعتراض والتغيير الديمقراطي عموماً، والحزب منها خصوصاً، لتوحيد طاقاتها - وإن حقّقت نجاحات جزئية في اتفاقها على خوض الانتخابات النيابية ضد أحزاب السلطة، وسعيها لتشكيل لوائح مشتركة تمكّنت من حصد أصوات وازنة خصوصا في دوائر مثل صور وعاليه ...– إلاّ إنها لم تنجح بالمحصلة في توحيد طاقاتها على المستوى الوطني لتشكل بديلاً قادراً ومقنعا يُترجم أصوات المحتجّين في الشارع إلى أرقام في صناديق الاقتراع. هكذا جاءت النتائج عموما سلبية وأقلّ من المتوقع ولمصلحة أحزاب السلطة التي استطاعت جمع صفوفها حول "مشروع الفدرلة" والخطاب الطائفي والمذهبي التخويفي، ما دفع الناس إلى الارتهان والتموضع طائفياً، متوهّمين أن في ذلك حماية أمنية واجتماعية لها.
وبالرغم من ذلك، تؤكد اللجنة المركزية على صوابية قرارها خوض الانتخابات النيابية - كمحطة في سياق محطات المواجهات الشعبية والنقابية والبلدية المتعاقبة واستكمالا لها - بالوقوف ضد القانون الانتخابي وضد قوى السلطة الفاسدة التي أقرته، وتظهيراً لموقفها من النظام السياسي- الطبقي وأطرافه المختلفة، وتطبيقا لمقررات المؤتمر الحادي عشر للحزب ومقرّرات التقارير التقييمية ذات الصلة بتجارب الانتخابات النيابية السابقة، بالإضافة إلى كون قرار الحزب بالمشاركة هو الشكل النضالي الأنسب الذي يفسح المجال أمامه كي يسعى الي تجميع أوسع فئات المتضرّرين - المشاركين في هذه المعركة الانتخابية - وتأمين الشروط السياسية المؤاتية للمضيّ قدما في معركة التغيير الديمقراطي.
- التأكيد على أولوية العمل على استنهاض وتعبئة وتنظيم صفوف العمال والأجراء وكل المتضررين – عبر النقابات ومراكز العمل وأماكن السكن - ضد إستغلال وتعسّف رأس المال، والتأكيد أيضا على تلازم هذه الأولوية مع اعتبار العمل على تجميع قوى الاعتراض والتغيير الديمقراطي، مهمة وطنية إنقاذيه وأحدى الجوانب الأساسية للمعركة السياسية في مرحلة الانتخابات النيابية وخصوصا بعدها. لذلك تدعو اللجنة المركزية إلى استمرار التمسّك بهذا التوجّه ومتابعته بغية إحداث تغيير في موازين القوى بالتعاون مع الأحزاب اليسارية والوطنية والشخصيات السياسية العلمانية على المستوى الوطني والمحلي، وبالتعاون أيضا مع كافة أطر العمل الاجتماعي والمدني غير الطائفية وكل أطياف المتضررين.
- بالرغم من الطابع العام للنتائج الانتخابية التي جاءت سلبية ومخيبة في أغلبية الدوائر مقارنة مع التعهدات المقدمة، فان انجازا سياسيا قد تّحقق في هذه المعركة، باعتراف كل القوى، وهو الآتي: أن الحزب خرج من المعركة الانتخابية منسجماً إلى حدّ كبير مع موقفه وخطابه وأدائه وذا مصداقية في تحالفاته، حيث حرص على ترجمة الأقوال بالأفعال في الترشيح والتحالف وتشكيل اللوائح، وفي موقفه من القانون ومن أحزاب السلطة التي أقرّته.
- كشفت نقاشات تقييم الانتخابات في اللجنة المركزية والهيئات الوسطى، وجود اجتهادات وآراء متنوّعة حول حيثيّات تشكيل بعض اللوائح والتحالفات التي تمّ نسجها من قبل الحزب أو التي فرضتها عليه صعوبات المعركة في بعض الدوائر، وكذلك حول مدى صحّة تبنّي أو عدم تبني مقولة "كلهم يعني كلهم" في تعامل الحزب مع أطراف السلطة. وتعكس هذه الاجتهادات الحاجة القصوى إلى بذل مزيد من الجهد على مستوى البحث الفكري والسياسي والتنظيمي داخل الحزب، وهو الأمر الذي تطرّقت اليه نقاشات التقرير التقييمي التي إرتدت في بعض جوانبها طابعاً مؤتمرياً. مما يستوجب الاقرار بأن الوثيقة السياسية الصادرة عن المؤتمر الحادي عشر ربّما انطوت، في جوانب منها بعد اختبارها، على قصور في استشراف التطورات والتوقعات المحتملة، وهو أمر ينبغي معالجته في المؤتمر الثاني عشر.
- إن الخروقات والأخطاء التي حصلت أثناء تنفيذ قيادة الحزب لقرار المشاركة بالانتخابات، لم تغيّر على وجه العموم من طبيعة المعركة الانتخابية كمعركة سياسية بامتياز ضد أحزاب السلطة، ولا من موقع الحزب في هذه المعركة. أما أسباب هذه الخروقات والأخطاء، فإن بعضها يعود إلى صعوبات موضوعية تطال العمل المشترك بين قوى الاعتراض التي تفتقد إلى أطار عمل موحّد. وتتحمّل قيادة الحزب، في هذا الإطار، مسؤوليتها الحزبية الداخلية وكجزء من قيادة حالة الاعتراض، وهي تعلن اعترافها بذلك واستعدادها للمحاسبة امام الشيوعيين داخل التنظيم وخارجه وأمام المؤتمر الثاني عشر وجمهور اليسار وقوى الاعتراض والرأي العام اللبناني عموماً.
- أما البعض الآخر من تلك الخروقات والأخطاء فتتشارك في تحمّل مسؤوليته بعض من لجان التنسيق ومن الهيئات الوسطى، فضلا عن قسط لا يستهان به من المسؤولية يقع على عاتق عدد من الرفاق القياديين بشكل خاص، الذين وقفوا بالسياسة ضد قرار الحزب خوض معركة انتخابية ضد أحزاب السلطة، وخرقوا أيضا بالتنظيم أصول العمل الحزبي بالعمل بشكل منظم ومعلن ضد قرارات الهيئات الشرعية لأفشال المعركة بمختلف السبل والأشكال من الانسحابات إلى الاستقالات إلى دعوات المقاطعة والعمل لها في ذروة معركة الحزب ضد أحزاب السلطة، أي في ذروة الحاجة إلى جمع صفوف الشيوعيين وتعبئة جهودهم. وينطوي هذا السلوك على خطأ مزدوج سياسي وتنظيمي، وهو موضع ادانة من جانب اللجنة المركزية.
- لقد نوّهت اللجنة المركزية بموقف الرفاق الذين التزموا قرار الحزب وعملوا على تنفيذه بالرغم من معارضتهم له. اما بخصوص ما نشر من افتراءات وأخبار عارية عن الصحة - ضمن أوراق وبيانات وزعت على مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام حول موضوع الانتخابات النيابية فستقوم اللجنة المركزية بإحالتها إلى الهيئات الحزبية والدستورية المعنية لإجراء المقتضى.
- أظهرت الانتخابات النيابية ضعف علاقة الحزب مع الناس وضعف التواصل والنشاطية من خلال الفجوة الواسعة بين ما تعهّدت به الهيئات الحزبية من تقديرات حول وزنها الانتخابي وبين النتائج الفعلية التي افرزتها الانتخابات النيابية، وكذلك من خلال التردد والإرباك اللذين حصلا في الترشيحات الحزبية من قبل الهيئات، وأظهرا كأن الاستحقاق الانتخابي لم يكن فعلا على جدول أعمال هذه الهيئات. ومع ذلك، فان أوضاع الهيئات الحزبية التي خاضت المعركة الانتخابية بدت أفضل حالا من أوضاع الهيئات التي لم تخض أو لم تتمكّن من خوض هذه المعركة. وهو أمر يؤكد مدى ضرورة خوض المعارك السياسية وأهمية فتح وتوسيع قنوات التواصل مع الناس، حيث استطاع الحزب، بمرشحيه ومنظماته، أن يعقد عشرات اللقاءات والندوات والمهرجانات الانتخابية بحضور آلاف المواطنين ويطرح خطه السياسي ومواقفه، وهو الأمر الذي من شأنه أن يسهّل مهمات الحزب اللاحقة.
وفي ختام التقييم لا بدّ لنا من توجيه التحية الخالصة إلى كل الرفاق والأصدقاء من المرشحين وإلى الناخبين الذين اقترعوا للوائح الحزب وقوى الاعتراض والتغيير الديمقراطي عموماً وإلى كل الرفاق الذين انخرطوا في هذه المعركة الانتخابية، ووصلوا الليل بالنهار، ودفعوا ما دفعوه من اثمان نتيجة التزامهم بموقف حزبهم، فكانوا تلك الروح الثورية التي صمدت بوجه الرياح الطائفية العاتية، فرفعوا راية الحزب ليؤكدوا وجوده حزباً مقاوماً ضد القوى الطائفية والمذهبية، ضد كل أشكال القهر والاستغلال الطبقي والاجتماعي، حزبا للتحرير والتغيير على درب النضال من أجل وطن حر وشعب سعيد.
بيروت في 29/8/2018
اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اللبناني