الأربعاء، تموز/يوليو 09، 2025

حب في زمن الثورة

شخصيات القصة من مدينة صور، أبطال رواية تبدو للوهلة الأولى غير حقيقية. كوثر بدوي من حارة الجورة - ما يُعرف بـ"حارة الإسلام"- حائزة على إجازة جامعية لتعليم اللغة الانكليزية عام 2018 وتبلغ من العمر 22 سنة. كانت تعمل في مقهى ستاربكس على الكورنيش البحري لمدينة صور قبل 17 اكتوبر. بدأت مسيرتها الثورية ليل الخميس عندما خرجت من المقهى لتسير مع التظاهرة الشعبية فطُرِدت من عملها في اليوم التالي. كوثر تملك صوتاً جميلاً وهي من "هتّافات" صور. الياس برادعي هو الشخصية الثانية في هذه الرواية، شاب عشريني من ما يسمّى بـ"حارة المسيحية" في صور. هو طالب جامعي في تصميم الغرافيك ويتلقّى تدريبات عديدة في التمثيل. كبطل رواية حقيقي، له هوايات عديدة منها ألعاب الخفة والنار. "كوكو"، هكذا يناديها الياس، كثيرة الحركة، اجتماعية، نشيطة بين المتظاهرين، تهتف بصوتها الرنّان بإصرار وثقة. أمّا "ليلو"، كما تناديه كوثر، فقد كان يتبعها في جميع نشاطاتها. في ساحة العلم يلتقيان، ويحتسيان القهوة ويتناولان الطعام معاً كلّ يوم. تقول روايتهما بأن الياس جاء في أحد الأيام متأخّراً يحمل طعام الغذاء لكوثر كونه يعلم أنّها ترهق نفسها في النشاطات. تمنّى لو تجلس بجانبه فتأكل وترتاح لبعض الوقت، لكنّه لم يجدها في الساحة وعندما سأل عنها قالوا له بأنها ذهبت إلى الصيدلية وسوف تعود. برد الطعام وحلّ الليل ولم تأتِ كوثر، فأصيب الياس بخيبة أمل. لم تترك له كوثر أيّ رسالة عن سبب غيابها المفاجئ. أمّا كوثر، فهي انتظرت رسالة من الياس أو اتصالاً منه، يستفسر عن سبب غيابها عن الساحة في ذلك اليوم ويطمئنّ عليها. لكن الياس لم يقدم على أي خطوة واعتبر أنّه أخطأ بإعطاء اهتمامٍ لعلاقة شخصية في ظل الثورة. عندما جاء اليوم التالي، التقيا في الساحة دون سلام. سأل أحد المتظاهرين كوثرعن مكان تواجدها في اليوم السابق، فأجابته بأنها كانت في المستشفى لأنّها كانت مريضة جداً. سمع الياس الحديث الذي دار بين المتظاهر وكوثر وأصيب بالخجل. أخذ يفكّر بكيفية الخروج من هذا المأزق، ثم ذهب إلى كوثر وأخبرها بأنه كان قد تصرف بتكبّر، وأنه لا يريد إزعاجها لأنه يعلم بأنها ليست مهتمة بأيّ ارتباط. فضحكت كوثر من دون تعليق. وعاد الياس يتبع كوثر كخيالها من الصباح حتى المساء ينتظر وقت الطعام أو القهوة صباحاً ليحظى بابتسامة أو حديث خاص بينهما. وفي يوم، قرّرأثناء إحدى الندوات الشعبية أن "يغيّر" الهتاف ويأخذ المذياع ليعلن لكوكو عن حبه بعد ثلاثة أسابيع تقريباً على بداية الثورة. إلياس الذي كان شاباً غير وفيّ في علاقاته مع النساء، يرى بأن هذه الثورة غيّرته. لم يشارك الياس في بداية الثورة ولم يهتم لما يجري، لكنه في اليوم الرابع نزل إلى مكان الاعتصام ورأى المتظاهرين. ثم لفتت نظره فتاة "هتّيفة" اجتماعية جدّاً، فأجبِر على الاختلاط بالمعتصمين. بدأ شيئاً فشيئاً يكتشف أموراً بسيطة لم يكن يعرفها من قبل، كحقّه بالحصول على الكهرباء 24/24 ، وبدأ ينمو لديه وعيٌ ثقافي حتى في مواضيع غريبة عنه تماماً كالحفاظ على البيئة. "أصبحت الثورة أملاً جماعياً"، يقول الياس. أمّا كوثر فتقول بأن الثورة هي مساحة للتعبير عن الرأي. لم يتغيّر شيء في شخصيتها المستقلة، لكنّها تعلمت من الياس "السحر". من جهة أخرى، هناك حواجز خوف في علاقة كوثر والياس، أولها الاختلاف الديني بين شخصين في علاقة. من ناحية موقف الأهل فأم إلياس أحبّت كوثر، أمّا أباه فقد اعتبرها في البداية شيوعية كافرة ومن عبدة الشياطين لعلمه بأنّ الياس تعرّف عليها في التظاهرات الشعبية، بالرغم من محاولات الياس لتوضيح صورة المتظاهرين الذين تعرّف عليهم وتعلّم منهم الكثير. والملفت أن أبا الياس مناصرٌ لحركة أمل. أبو كوثرالذي كان عضواً في حزب الله، أخذ موقفاً حاسماً جداً بعد اندلاع الثورة وخاصة بعدما طلب منه أحد عناصر حزب الله عبر اتصال هاتفي إخراج كوثر من الساحة، مهدّداً إيّاه بتجميد عضويته في الحزب. كان قرارُ أبي كوثر واضحاً، فقال له: "استقالتي جاهزة". انتفض أبو كوثر على حزبه ودعم ابنته لاستكمال مسيرتها النضالية. تختم كوثر روايتها بقولها "أحبه"، أمّا الياس فيقول: "يسقط نبيه بري".

النقل العام: طوق نجاة للبيئة الحضرية

 
أن يتوفّر الانتقال بين مكانَي الإقامة والعمل بيُسر وكلفة معقولة لكافة فئات المجتمع فهو مؤشّر يشفّ عن عدالة هذا المجتمع وحساسيته لمتطلبات معيشية أساسية لجميع أفراده. ولكن أين هي تلك الحساسية في مجتمع يتولى أمره ثلة من أصحاب المليارات لا تحتمل مخيلتهم مثل هذه المسائل!؟في نطاق بيروت الحضري وعلى صعيد النقل اليومي، يتنقّل ثمانون في المئة (80%) من الأشخاص عبر السيارة الخاصة وثلاثة عشر في المئة (13%) عبر الحافلات (الفانات والباصات) وسبعة في المئة (7%) عبر سيارات السرفيس والتاكسي. أما نسبة المتنقلين عبر الدراجات الهوائية والمشي (لغير هدف الرياضة اليومية أو الترفيه) فتكاد تنعدم بسبب فقر البنى التحتية المطلوبة لتيسير هذه الوسائط الحيوية والمستدامة للنقل. وبمثل هذه التقسيمة بين الوسائط المختلفة للنقل في مدينة كبيروت، حيث تتركّز مراكز الأعمال والسكن بمناطق محدّدة وتنحصر الطاقة الاستيعابية لشبكة الطرق (بسبب أوضاع تشغيلية هزيلة وظروف موضوعية تفرضها تضاريس المدينة وانحصارها المكاني) تكون النتيجة الحتمية هي الاختناقات المرورية المتفاقمة مع الوقت وما يرافقها من تلوّث بيئي وصخب سمعي وهدر لموارد بشرية ومادية عديدة. وما يفاقم الوضع أنّ معدل إشغال السيارات الخاصة يتدنّى لراكبٍ واحد (السائق) بالسيارة في أغلب رحلات الانتقال اليومي من وإلى أماكن العمل في ساعات الذروة الصباحية والمسائية. عدا عن كونه معزّزاً لثقافة الفردانية وعدم المشاركة، ينتج عن هذا السلوك المنتشر بين مالكي السيارات الخاصة كلفة اقتصادية باهظة، بما فيها التأخير والتلوّث وكلفة المواقف والصيانة من بين تكاليف عديدة أخرى. ومع تركز الوظائف والأعمال في مدينة بيروت ونطاقها الحضري، تتركّز مشكلة الازدحام على مداخل المدينة في ساعات الذروة الصباحية والمسائية. ويفاقم الوضع غلاء كلفة السكن داخل بيروت، بما يسبّب التمدّد العمراني المستمر في الضواحي بحيث تتبعثر مراكز جذب الرحلات اليومية وتنتشر أفقيّاً والذي يؤدّي بدوره لزيادة عدد الرحلات على شبكة النقل. في المفهوم المتقادم (اقرأ المتهالك) لحلول الازدحام المروري تسود مقاربة توسيع المساحات المخصصة للسيارات بما يشمل توسعة الطرق والتقاطعات وإقامة طرق وجسور جديدة. وقد أثبتت التجربة عبر مدن العالم أنّ كل توسعة طرق تستجلب ازدحامها المتناسب طرداً مع حجمها. وتكون المحصّلة النهائية لهذه الحلول الباهظة الكلفة الازدحام المتزايد، وصولاً إلى الإغلاق الشبكي العظيم (Grid lock) واقتطاع ساعات طويلة من الحياة اليومية في محبس السيارة الانفرادي. وتوثّق الأبحاث الاكاديمية والمهنية في الموضوع هذه الحقيقة بشواهد متكررة عبر مدن العالم. أمّا ما يثبت في البحث الأكادميي والتطبيق العملي كحل حاسم لهذه المشكلة فهو تعزيز وسائل النقل العام بدوره الحاسم في تأمين نقل حضري سلس وحيوي لاشتغال أي مدينة واستدامة حياتها اليومية. إذأً، الحل الجذري للاختناق المروري في بيروت معروف تماماً لدى جميع الأطراف المتابعة للموضوع. إنه النقل العام المتكامل والمتطور في مستوى خدمته وتشغيله وتغطيته المكانية والزمانية وموثوقيته في الانتقال اليومي، وهو يشمل الحافلات الكهربائية الحديثة وحافلات النقل السريع بالمسارات المخصصة والترام والترام-باص وغيرها من تقنيات حديثة ووسائل أخرى عديدة. ومن الملاحظ أنّ بعض صناع القرار على المستويات المتقدمة (نواب ووزراء) لا يزالون غير مدركين لحساسية المسألة ويرونها بالمنظار التقليدي القديم الداعي إلى توسعة الطرق للسيارات الخاصة. وليس هذا بالجهل البريء عند من يفترض اطلاعهم على أبسط أشكال الحياة في مدن العالم (القريب والبعيد). والمرجّح أنّ هذا الجهل مقصودٌ كرمى لأصحاب مصالح مالية كبرى تشمل ولا تقتصر على لوبيات مستوردي السيارات ومقاولي الأشغال المؤبدة على شبكة الطرق المنكوبة. أما أننا في زمن الانتفاضة المجيد.. فهلمّ إلى الدفع بالحلول الجذرية القادرة على جمعنا على متن مركب واحد، حلّاً واحداً وأخيراً!

النائب أسامة سعد: لتشكيل جبهة عريضة

تناول أمين عام التنظيم الشعبي الناصري النائب الدكتور أسامة سعد، في مقابلة على إذاعة "صوت الشعب"، الأزمة التي يمر بها لبنان وموضوع الاستشارات النيابية وتأجيلها، وأكّد على أهمية تشكيل كتلة وطنية معارضة لفرض ميزان قوى سياسي جديد من أجل فتح مسار التغيير والانتقال من الأزمة المستحكمة في البلد بانهياراتها إلى مجال عام أوسع وأرحب تكون المعارضة الوطنية فيه وازنة وفعّالة. كما تناول  سعد موضوع الفيضانات التي حصلت في معظم المناطق اللبنانية، والتي كشفت عن هشاشة البنى التحتية والفساد في التلزيمات، مؤكّداّ أّنّ مليارات الدولارات قد صرفت على البنى التحتية دون أي نتيجة. وهو ما يدل على أنّ سرقات قد حصلت، إضافة إلى تنفيعات لمقاولين من جماعة السلطة، يضاف إليها الاستهتار في أعمال  الصيانة. واعتبر سعد أنّ "التحقيقات أو الملاحقة العدلية في الموضوع يجب أن تحمّل المسؤولية للمعنيين بمتابعة هذا الملف؛ إن في الوزرات، أم في الادارات المعنية". وشدّد على أن "تكون الملاحقة شاملة، وتطال كل المتسبّبين، كما يتوجب على المسؤولين ان يتحملوا المسؤولية، وليس أن يعتذروا فقط، كما عليهم ملاحقة المتسببين بهذه الأضرا". أمّا في موضوع الاستشارات النيابية وتأجيلها إلى الاثنين المقبل، واعتذار الخطيب بعد لقاء المفتي،  قال سعد أنّ "هناك تخبّطاً وسط أطراف السلطة بعد الانتفاضة الشعبية والتفاهم الرئاسي انهار، وهناك محاولات مستمرة لترميمه لإعادة انتاج النظام نفسه. والانتفاضة فرضت واقعاً جديداً أوجد صعوبات بين أطراف السلطة لإنتاج النظام من جديد، لكون تركيبة السلطة مركبة على محاصصات طائفية ومذهبية".  وأضاف سعد أنّ "التغيير بحاجة إلى موازين قوى تفرضه، ويجب العمل على توفير موازين قوى جديدة تفرض التغيير"، معتبراً أنّ "الانتفاضة ذات الهوية الوطنية تحمل إرادة التغيير، كما ترفض الواقع". وقال "كنا على الدوام مع شركائنا  في العمل الوطني والتقدمي نرفض الواقع ونحمّله اسباب الانهيارات، وأيضاً الانتفاضة تدين المرحلة الماضية وتطالب بالتغيير وعدم إعادة إنتاج النظام نفسه".  وأكّد سعد على أهمية تكتل القوى الوطنية لفرض واقع سياسي جديد يؤدي إلى مسار تغييري عبر مرحلة انتقالية. كما على قوى السلطة التسليم بواقع سياسي جديد فرضته الإرادة الشعبية، وعليها تقديم التنازلات السياسية لننتقل إلى واقع جديد عبر مرحلة انتقالية يعبرها البلد بسلام، وحتى لا نتعرض لمخاطر جدية على المستوى الاجتماعي والأمني.  وأشار سعد الى أهمية أن يشكل الحراك  لنفسه وزناً سياسيّاً، وأن يخلق معادلة سياسية جديدة لفرض خياراته ومواجهة الطبقة السياسية الحاكمة، وذلك عبر بناء معارضة وطنية شعبية وازنة تحمل رؤية وبرنامج يشمل كل الملفات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها من أجل التغيير الديمقراطي.  وأخيراً شدّد سعد أنه "ينبغي على القوى السياسية  الوطنية المعارضة على مدى عقود من الزمن أن تتواصل  مع المجموعات المعترضة من أجل تشكيل جبهة عريضة للمعارضة الوطنية الشعبية لفرض ميزان قوى جديد في لبنان يفتح مسارات للتغيير والانتقال بسلام من حالة الأزمة المستحكمة بانهياراتها الى مجال عام اوسع وأرحب حيث تكون المعارضة الوطنية فاعلة، وإما أن تكون في السلطة إذا تمكنت من ذلك، أو تكون معارضة تفرض خياراتها على من هم في السلطة".   

الشعب في مكان والسلطة في مكان آخر

 
لبنان لا يغرق فقط في مياه الأمطار ووحولها كلما اشتد المطر، بل يغرق في الفساد والتلوث، وفي العجز والمديونية، وفي لجة الانهيار الاقتصادي والمالي أيضاً. ومع ذلك ما يزال سير سلطة القرار، أبطأ من السلحفاة. وهم يعلمون مدى خطورة الوضع، وعدم استطاعتهم تجاهل الانتفاضة والغضبة الشعبية، والمطالب والحقوق التي تنادي بها. لكنّهم ينطلقون أوّلاً، من مصالحهم هم، وتثبيت مواقعهم على كراسي السلطة، قبل وفوق مصالح الشعب والوطن. لقد أربكتهم هذه الانتفاضة العابرة للطوائف، وظهّرت التباينات والاختلافات بينهم، وأدّت إلى إسقاط حكومة "وحدتهم الوطنية" في الشارع. وسقطت معها تلك المفاهيم الكاذبة، المبنية على الطائفية وتحاصصاتها، كالميثاقية، والتوافقية، والوحدة الوطنية، التي عَنَت وتعني، وحدتهم هم، وتوافقاتهم على مصالحهم في مواقع السلطة وفي حصص الهدر والفساد. ويكشف تحايلهم من جديد، لتركيب حكومة "وحدة وطنية" من نفس طينة الطبقة السلطوية. إنّ السلطة في مكان، والشعب وانتفاضته في مكان آخر. ويدرك الكثيرون من الناس، أنّ من أوصل بلاده إلى الإنهيار، ويجعل حياة شعبه جحيماً، ليس هو من يُخرج البلد والشعب من حالة الانهيار. فالسارقون يُحالون إلى المحاسبة ويتمّ استعادة المال العام الذي نهبوه. ولا تتمّ مكافأتهم بإعادتهم من جديد إلى السلطة. والكلام المعسول والوعود البرّاقة التي سئم الناس سماعها في تصريحات المسؤولين، لم يَعُد تكرارها ينطلي عليهم. وطالما بقي بناء السلطة وتشكيل الحكومات على الأسس والمفاهيم نفسها، أي التحاصص الطائفي، ووفق ذهنية التسابق على الحقائب المهمة والدسمة، فلن يكون الشعب مطمئناً. وليست ثقة المجلس النيابي للحكومة، هي الأساس، بل ثقة الشعب. ثقة الانتفاضة، التي تطالب بإصرار، بأن تكون الحكومة مستقلة ولفترة انتقالية، وببرنامج يقضي بإجراء انتخابات نيابية مبكرة، وفق قانون نسبي وغير طائفي ولبنان دائرة واحدة. وليس مقنعاً ولا مقبولاً الامتناع عن إجراء الانتخابات المبكرة، بذريعة، أنّ المجلس النيابي الحالي قد انتُخب منذ حوالي سنتين. فبلدان كثيرة تُقدم على إجراء انتخابات مبكرة لأسباب أقل بكثير مما جرى ويجري في بلدنا. والمسلّم به دستوريّاً، أنّ الشعب هو المرجعية الأساسية، وهو الأصيل الذي من حقه نزع الوكالة من الذين أوكلهم، وإيكال بديل عنهم. إنّ انتفاضة شعبنا الرافضة لسياسة الانهيار والفساد والمطالبة بالتغيير، إذ تمثّل المصالح والحقوق الاجتماعية والطبقية للشعب ، فإنّها تحمل مضموناً وبُعداً وطنياً في مجابهتها سياسة التبعية الاقتصادية والمالية لمخططات ومراكز الرأسمال العالمي، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وباريس 1و2و3 ، والآن سيدر، التي تُغرق الوضع الاقتصادي والمالي اللبناني، بالمزيد من التبعية، وصولاً إلى الضغط لإرضاخ لبنان سياسيّاً أيضاً لمصالحها. إنّ تعدّد المنافذ التي تدخل منها المخططات الأميركية- الصهيونية، من العدوان العسكري، إلى التناقض الذي يَستولده النظام الطائفي، إلى الشأن الاقتصادي والمالي وغيره، يظهر الترابط بين مجالات مواجهة العدو نفسه. وهذا ما يستدعي من جميع قوى المقاومة والمواجهة، دعم الانتفاضة واكتساب أوسع قاعدة شعبية، في مواجهة سياسة الإفقار والتجويع والفساد من جهة، والتبعية الاقتصادية والمالية لمؤسسات الرأسمالية الكبرى والدور الأميركي فيها، من جهة أخرى.وأهمية هذه الانتفاضة الشعبية غير المسبوقة، لا تكمن فقط فيما فرضته على السلطة من امتناع فرض ضرائب على الشعب في موازنة 2020، ولا حتى في إسقاط الحكومة، ومنع انعقاد جلسة المجلس النيابي، والعفو المشبوه، الذي كان على جدول أعمال الجلسة. فقد حرّكت مِئات الآلاف الذين خرجوا من حالة الصمت والرضوخ لما هو قائم، وشكّلت عامل وعي يظهر قدرة الشعب ودوره على الفعل، وجذبت الأوساط بمطالبها وشعاراتها التغييرية، ممّن خرجوا على الولاء لزعمائهم وطوائفهم. وإذا كان التنوع نقطة ضعف في انتظامها، فإنه نقطة قوة لها في الوقت نفسه. فقد أيقظت الانتفاضة الحلم لدى الناس وبخاصة الشباب، وأنعشت الأمل بإمكانية التغيير وبناء وطن لجميع أبنائه. والمؤكد الآن هو أنّ تجاهل دور الشعب، من قبل أي سلطة، لم يعُدْ ممكناً.

الانتفاضة الشعبية: المسار والأطوار

يصدِفُ أن تلتقيَ بشخصٍ تعرفه وأنت تمشي في الشارع ليسارع بسؤالك السؤال الآتي "شو وين صرتو؟" وكأنّه ينتظر من الانتفاضة الشعبية أن تحقّق تغييراً شاملاً لسلطة متجذّرة ولدت إبّان إعلان دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠، من خلال خمسين يوماً من التظاهرات. عجيبٌ أمر هذه الشريحة من المواطنين وكأنّ الانتفاضة ستعطي مفاعيل وتأثيراتٍ في غاية السرعة. ثمّة قوانين ناظمة لأيّ حركةٍ جماهيرية علّمتنا إيّاها تجارب الشعوب المنتفضة، بالاستناد إلى التراث الماركسي- اللينيني، فقد وضعت الأخيرة الأسسَ التنظيمية للثورة اشتراكية التي تبدأ بتنظيم صفوف الطبقة العاملة، وتمرّ بحتمية رفع مستوى وعي هذه الطبقة، ومن ثمّ تأطير نضال الطبقة العاملة على المستوى السياسي وأخيراً القيام بالفعل الثوري. في حقيقة الأمر، دائماً ما يُنظر إلى "الحراك- الانتفاضة- الثورة" وكأنّها تأخذ خطّاً مستقيماً تصاعدياً وهذا ما تدحضه ثورات الشعوب المنتفضة في أمكنة وأزمنة عديدة. إنّ الاعتقاد بأنّ "الحراك- الانتفاضة- الثورة" يأخذ هذا الخطّ التصاعدي يحيلنا إلى الاعتقاد بأنّ الرسم البياني لها هو عبارة عن منحنى الجرس أو ما يعرف بالـ "bell curve". على عكس هذا الاعتقاد، فإنّ مسار "الحراك- الانتفاضة- الثورة" هو أقرب إلى تعرجات غير مستقيمة، أفقياً وعموديّاً، تماماً كما حركة التاريخ، فكما قال لينين أنّه يمكن أن تمر عشرون سنة في التاريخ مفعولها كيوم واحد، وأن يمر يوم واحد يراكم في مساره ما يعادل عشرين سنة. في هذا السياق، فإنّ شكل "الحراك- الانتفاضة- الثورة" هو بالضرورة عبارة عن أطوار مختلفة تتشكّل من منحنيات مختلفة. فلنأخذ الثورة المصرية مثالاً، فإنها مرّت بأربعة أطوار لغاية الآن. في الطور الأوّل، سقط حسني مبارك (٢٠١١) ليستلم من بعده الحكم المجلس العسكري لفترة انتقالية قادت إلى تنظيم انتخابات جديدة وتعديلات دستورية. الطور الثاني كان عندما أفضت الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٢ إلى فوز محمد مرسي، الذي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، بسدة الرئاسة. الطور الثالث حدث عندما أُزيح مرسي بفعل انقلابٍ عسكريّ وبضغط شعبي قاده عبد الفتاح السيسي (حزيران ٢٠١٣) ليتولّى المنصب رسميّاً عام ٢٠١٤. الطور الرابع والحديث نسبيّاً تمثّل في تظاهرات شهدتها عدّة مدن مصرية في أيلول/سبتمبر من العام الحالي (٢٠١٩). بهذا المعنى، فإنّ الثورة هي سيرورة مستمرة في الزمن. ولكلّ "حراك- انتفاضة- ثورة" نقطة تحول (turning point) هي عبارة عن تجميع كمّي لظروف ذاتية وموضوعية، بعضها مرئي وبعضها الآخر غير مرئي، ومن ثم تلتئم في ظرفٍ سياسي معيّن ليتحول هذا التراكم الكمّي إلى تحوّل نوعي (راجع المقالة السابقة: التراكم التاريخي لانتفاضة ١٧ أكتوبر). عند إسقاط هذه النظرية على الحالة اللبنانية، فإنّ نقطة التحول التي أّدّت إلى اندلاع الانتفاضة كانت ضريبة الواتساب التي اقترحتها الحكومة السابقة، على محدودية أبعادها السياسية. ولّد هذا الأمر انفجاراً شعبياً هائلاً، فكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير فأطلقت الثورة الشعبية من قمقمها. لقد أدّى ذلك برئيس الحكومة الى إعلان استقالة حكومته بعد ١٢ يوماً من المظاهرات في مختلف المناطق اللبنانية. اليوم وبعد أكثر من خمسين يوماً من عمر الانتفاضة الشعبية لتاريخه، فإنّ الانتفاضة قد استنفذت جميع أشكال الاعتراض الشعبي في طورها الأوّل من خلال اعتصامات وتظاهرات وقطع طرقات وإقفال مرافق عامة وحملات على المصارف وتحركات طلابية وقطاعية عديدة. إنّ انتقال الانتفاضة من الطور الأوّل إلى الطور الثاني مرهونٌ بظروف وتطوّرات، بعضها ذاتي ينتج عن مدى قدرة قوى الانتفاضة بالانتقال من شكلها الحالي إلى شكل أكثر جذرية، وهنا المسؤولية الأساس تقع على عاتق الحزب الشيوعي اللبناني بصفته الحزب الثوري الفاعل في صفوفها. والبعض الآخر من الظروف هو ظروف موضوعية تمليها تطورات الوضعين السياسي والاقتصادي وما قد ينتج عنهما. في الشقّ السياسي، فإنّ تشكّل حكومة تكنو-سياسية يرأسها الحريري أو غيره، قد يكون محطة مفصلية أخرى للانتفاضة لأنّ التغيير الموعود في هذه الحالة لم يعكس المزاجَ الشعبي المطالب بحكومة وطنية انتقالية من خارج المنظومة الحاكمة، وعندئذٍ سيكون للانتفاضة كلمتها لناحية رفض هذه الحكومة. أمّا في الشق الاقتصادي- الاجتماعي، فينبغي النظر إلى خمسة مسارات سيكون لها تأثيرات سلبية على مختلف الشرائح الاجتماعية، وبالأخص الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. المسار الأوّل هو استمرار المصارف بحجز أموال المودعين الصغار وتقييد عملية السحب النقدي. المسار الثاني يكمن في موجة الغلاء المستمرة في الأسواق مع ما يقابلها من إمكانية فقدان أو شحّ المواد الغذائية الأساسية والأدوية والمستلزمات الطبية. المسار الثالث يكمن في توجه مؤسسات القطاع الخاص بتسريحٍ جماعي للعمّال والموظفين أو قضم حقوقهم عبر إعطائهم نصف معاش، وعبر ذلك ستزيد أعداد العاطلين عن العمل بشكل مطّرد في سوق عمل يتميّز أصلاً بقلّة فرص العمل فيه. المسار الرابع يكمن في تناقص سيولة الدولة اللبنانية إلى الحدّ الذي سيجعلها غير قادرة على دفع رواتب وأجور العاملين في القطاع العام بمؤسساته المختلفة. المسار الخامس والأخير يكمن في استمرار تقلّبات سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي حيث وصل إلى عتبة الـ٢٣٠٠ ليرة (الخميس في ٢٨ تشرين الثاني/ نوفمبر). إذاً مراقبة هذه المسارات وتفاعلها مع المسار السياسي سيكون له نتائج وتأثيرات عديدة على مستوى الانتفاضة الشعبية وانضمام شرائح اجتماعية عديدة إليها، وبالتالي تجذّرها أكثر على مستوى الفاعلية والخطاب السياسي المرافق لتطوّرها. إنّ اشتداد وقع الازمة الاقتصادية- الاجتماعية بدأ يدفع بالمواطنين بالإقدام على الانتحار في مؤشّرٍ خطيرٍ لما آلت وستؤول إليه الأوضاع. وفي هذا السياق، فقد سُجّلت ثلاث حالات انتحار في الفترة الممتدّة من ١ كانون الأول/ ديسمبر وحتى ٤ من الشهر نفسه. بناءً على ما تقدّم، فإنّ انتهاء الطور الاوّل من الانتفاضة لا يجب أن يحيلنا إلى اعتقاد بأنّ الانتفاضة الشعبية انتهت أو خفّ وهجها، بل هي في مرحلة انتقالية للدخول إلى الطور الثاني. ولا يمكن التكهّن بالمهلة الزمنية للانتقال إلى هذا الطور لأنّ ما جعل الطور الأول يبدأ ويتفاعل لم يكن في الأساس "قراراً حزبياً" من حزب الطبقة العاملة أو من النقابات التي تدور في فلكه وإن كنّا نأمل ذلك! على أيّ حال، ينبغي متابعة نضالنا اليوميّ ضدّ النظام بكافة قواه وفروعه وفي طليعتها طبعاً الأوليغارشية المالية وجعله يأخذ مستوى أكثر جذريةً. وينبغي علينا التأكيد في كلّ مناسبة أنّ معركتنا مع هذا النظام هي معركة طبقية في المقام الأوّل، وبأنّ مسار المواجهة مع هذه السلطة العفنة سيطول حتماً ولكنّ الأهمّ أنه بدأ في ١٧ تشرين الأول/أكتوبر. سأصطحب هذا المقال معي أينما حللت للردّ على سؤال الشاب الاستفزازي "شو وين صرتو؟".