الثلاثاء، تموز/يوليو 08، 2025

انتفاضة 17 أكتوبر: خطوة على طريق الثورة

 
دخلت "انتفاضة 17 أكتوبر" أسبوعها السادس على التوالي، وسط إصرار من المنتفضين بكافة الساحات وعلى امتداد مساحة الوطن على توحيد مطالبهم ومواصلة تحركاتهم حتى تشكيل حكومة وطنية انتقالية، وتطبيق المادة الـ 22 من الدستور وإقرار قانون انتخابات نسبي وخارج القيد الطائفي، ثم تحقيق استقلالية القضاء واسترجاع المال العام المنهوب والأملاك العامة. انتفاضتهم لم تعرف الخوف ولا التعب أو الملل، فهم يعلمون أن معركتهم طويلة لإسقاط هذا النظام السياسي الطائفي وبناء الدولة الوطنية العلمانية الديمقراطيّة وتغيير السياسات الاقتصاديّة - الاجتماعيّة، حينها تتحقق الثورة. مماطلة، اعتقالات، بلطجة واعتداءات، بث الإشاعات والفتن،... مشهدٌ اعتدناه لليوم الـ 44 على التوالي، لسيناريو "تخبّط أهل السلطة" في وجه منتفضين سطّروا بكفاحهم وصلابة إرادتهم تاريخاً مجيداً للبنان. تلك السلطة الغارقة في تجاذبات الاشتباك السياسي دفاعاً عن محاصصاتها أرعبها إصرار الشعب على مواجهة سياسات التجاهل المعتمد من كافة أطرافها دون استثناء، وسط انهيار مالي واقتصادي.تلك الانتفاضة جاء تمويلها "السري" من وجع مواطنين أُرهقوا بنهج المحاصصات والفساد والتبعية والولاءات مدة ثلاثين عاماً، وسياسات حكومات متعاقبة دمرّت البلد وأفقرت شعبه وأغرقته بديون مؤتمراتها الباريسية. وهجّرت أبناءه، تقاسمت أملاكه، وضربت مؤسساته العامة. وسلبته حقوقه بالطبابة والسكن والعلم والعمل والكهرباء والبيئة الصحية. "مش فالّين"أما خطابات السلطة "فتزيد من الطين بلة"، إذ تشكل مفعولاً عكسياً على المنتفضين الذين اعتادوا على تجاهل مطالبهم ونضالهم اليومي منذ 44 يوماً، ليأتي ردهم في تزايد زخم الساحات، وتصويب الاحتجاجات على المرافق العامة ومكامن الهدر والفساد كخطوة ضرورية للاستمرارية حتى تحقيق المطالب.إذ أن مقابلة الرئيس عون الأخيرة (12 تشرين الجاري) والتي طالب فيها من المتظاهرين بالخروج من الشارع وتشكيل وفد لطرح مطالب الحراك، خاتماً بعبارته الشهيرة "اللي ما عجبوا يفل" والذي حاول جاهداً في ما بعد إلى تبريرها غير المبرّر، والتي أشعلت غضب الساحات وأعلنت الإضراب العام، فتزايدت أعداد المنتفضين، مطلقين هتافات "مش فالين"، و"بيّ الكل، فل".الغضب من خطاب عون، تصاعد مع سقوط شهيد الثورة الثالث علاء أبو فرج وعاد زخم الثورة، وتكثّفت التحرّكات في كافة المناطق من دون انقطاع. المماطلةيراهن أقطاب السلطة على تعب الشعب، فيتقاذفون الاتهامات فيما بينهم من جهة، ويبرعون في استخدام أساليب شدّ العصب الطائفي والمذهبي وتأجيج الثورة المضادة من جهة ثانية. في المقابل، يظهّر الحراك موقفاً موحّداً، أمام هكذا محاولات، في ظل وجود عمل يومي للتنسيق بين القوى والمجموعات، رغم عدم وجود قيادة موحدة جامعة. فما إنْ تسرّب اسم الوزير السابق محمد الصفدي لترؤس الحكومة العتيدة، بادرت الساحات في كافة المناطق إلى تنفيذ احتجاجات شعبية والمطالبة بالتحقيق معه ومحاكمته على خلفية ملف الاعتداء على الأملاك العامة البحرية وإقامة "الزيتونة باي" على خليج السان جورج.ونجحت الانتفاضة مجدّداً بتسجيل انتصارٍ آخرعلى السلطة وإسقاط صفقة الخليلين بطرحهم للصفدي، الذي أعلن في 16 تشرين الثاني عن اعتذاره عن قبول الاتفاق السياسي على تسميته لتشكيل حكومة. استقلال الاستقلاليخوض اللبنانيون في انتفاضتهم اليوم معركة الاستقلال الحقيقي عن هذا النظام السياسي الطائفي المولّد لكافة الأزمات التي يعيشها البلد، للتحرر من سياسات الاستغلال والهيمنة والسيطرة التي تفرضها السلطة؛ أولاً، بالاستغلال الطبقي الذي أوصل البلد إلى الإنهيار وشعبه إلى مزيد من الإفقار. وثانياً، بالولاءات والتبعية للخارج وفرض الهيمنة الغربية والسيطرة الأميركية على مقدراتنا وبأدواتها الصهيونية والعربية الرجعية. وخير دليل على ذلك، ما نشهده اليوم من التدخلات الأجنبية ولا سيما المبادرة الثلاثية الأخيرة التي قامت بها كل من فرنسا وأميركا، وبريطانيا.وبما يتعلقبالاستغلال الطبقي يواصل الحراك الشعبي مواجهته له، عبر رفض ما سمي بالورقة الإصلاحية، ووضع حلول بديلة من اقتصاديين واخصائيين تساعد البلد للنهوض من هذه الأزمة.أما بما يخص التبعية والهيمنة، فمطالب الحراك واضحة، تترجم عبر التمسك بضرورة "التحرير والتغيير"، فجاءت الوقفات الاحتجاجية في ساحات الاعتصام رداً على تصريحات جيفري فيلتمان الأخيرة. العرض المدنيأحيا لبنان العيد السادس والسبعين للاستقلال بعرضين متناقضين؛ الأول تخلله عرضٌ عسكريٌّ باهت ومصغر، سادته أجواء واضحة على وجوه الرؤساء الثلاثة عكست خلافاتهم السياسية حول تشكيل الحكومة المرتقبة وفقاً لمقاسات ومحاصصات كتلهم النيابية. في المقلب الثاني، شهدت ساحة الشهداء، استعراضاً وطنياً شعبياً بعنوان "العرض المدني"، شارك فيه 41 فريقاً من مناطق مختلفة.، فكان أشبه بعرس وطني لأول مرة أعطى للبنانيين المعنى الحقيقي للاستقلال منذ 76 عاماً.استهل العرض بتحية تخليداً لأرواح الشهداء والنشيد الوطني، ثم عرضٌ على الخيل، تلته الفرق التي تقدم كل منها لافتة باسمها مسبقة بكلمة "فوج" وهي: الدراجات النارية والهوائية، الإرادة، العسكريون المتقاعدون، المعلمون، البيئة، المحامون، الطلاب، الأمهات، الأشبال، الآباء، أطباء، إعلام، خبراء ومكافحة، زراعة، مهندسون، إيقاع، عمال، صناعيون، مواصلات، اندفاع، حقوق النساء، حرفيون، تجارة، فنانون، نساء ورجال أعمال، مبدعون، طاقة، رياضة، سياحة، طناجر، حقوق الإنسان، مشاة، مغتربون، موسيقيون، ناشطون، جنوب، شمال، بقاع، جبل لبنان، وبيروت.وقدّم كل فوج أفكاره بطريقة خاصة، عبر ابتكار شعارات مطلبية مناسبة لفوجه، وذلك على وقع الأغاني الوطنية والثورية التي عزفتها إحدى الفرق الموسيقية. "خبز وملح"المنتفضون من الشمال إلى الجنوب شاركوا في "أحد التجمع على النقاط البحرية" بعنوان "خبز وملح" تأكيداً على حق اللبنانيين في الإفادة من الشاطئ ورفضاً للتعديات على الأملاك البحرية والمطالبة باسترجاعها للشعب.وأيضاً، تجمّعوا في محمية مرج سد بسري للمطالبة بإيقاف الجريمة البيئية وإقامة مشروع السد. هزائم الثورة المضادة"غزوة" فجر الاثنين الماضي على جسر "الرينغ" ومحيطه جاءت أكثر حدية من "الغزوة" السابقة يوم 29 تشرين الأول الماضي في ساحتي الصلح والشهداء، وجّه خلالهما الثنائي الشيعي رسالة واضحة تجاه مظاهر الحراك. الأولى تبعها إعلان الحريري استقالة الحكومة، أما الثانية فتبعها محاولات أخرى سريعة في أقل من 24 ساعة لإثارة الفتن وزرع الرعب في بعض المناطق وهتافات تلوّح بعودة 7 أيار مجدداً، فكانت ذروتها في الهجوم على اعتصام ساحة العلم في صور وحرق الخيمة التي بادر حراك صور إلى نصب غيرها، معلناً مواصلة انتفاضاتهم، ثم تلاه الاعتداء على اعتصام ساحة المطران في بعلبك، وسط صمود واستمرار المعتصمين.وفي سياق متصل، قام مشبوهون بافتعال إشكال بين القوى الأمنية ليل 19 تشرين الثاني في ساحة رياض الصلح، ما أدى إلى رد الأخيرة إلى جرح 3 معتصمين واعتقال 12 آخرين من المشاركين في الاعتصام الذين لا علاقة لهم من قريب أو بعيد، بالاستفزاز المدبّر مسبقاً بين بعض العناصر والقوى الأمنية. فأدان بيان باسم انتفاضة 17 أكتوبر هذا التعدي، مشيراً إلى أنها "ليست المرة الأولى التي يجري فيها افتعال مثل هذه الأعمال لتشويه صورة الانتفاضة".كما أكّد المنتفضون على مواصلة اعتصامهم السلمي في ساحة رياض الصلح بوجه كل محاولات السلطة وأدواتها ممن ترسلهم إلى ساحات الاعتصام للتخريب ولبث الإشاعات والتحريض على المعتصمين.يذكر، أن نقيب المحامين الأستاذ ملحم خلف سارع ليلتها إلى التواجد في ثكنة الحلو ولجنة المحامين للدفاع عن المتظاهرين الذين أفرج عنهم صباح اليوم التالي. تنظيم الحراكيتساءل البعض وأبرزهم السلطة وأتباعها عن قيادة الحراك، متجاهلين أن هيمنة أحزابها على النقابات والروابط والاتحاد العمالي العام وتحالفاتهم ضربت الجهة المفترض أن تقوم بتمثيل الشعب وتحمل لواء الدفاع عن حقوقه لا التآمر عليه.فجاء الرد من قوى وشخصيات سياسية واقتصادية واجتماعية وهيئات ومجموعات شبابية وطلابية ومدنية واتحادات نقابية ومهنية وتعليمية من مختلف ساحات الانتفاضة، تداعت كلجنة تحضيرية إلى عقد ورشة حوارية في الكومودور في 19 تشرين الثاني حول الانتفاضة تحت عنوان "المرحلة الانتقالية: الرؤية والبرنامج"، وخلصت إلى إعلان الآتي: التوجّه بتحية إكبار إلى شهداء الانتفاضة علاء بو فخر وحسين العطار وعمر زكريا، وإلى كل المنتفضين الذين ملأوا الشوارع والساحات وعلى امتداد مساحة الوطن طيلة شهر بكامله، وسطّروا بكفاحهم وصلابة إرادتهم تاريخاً مجيداً للبنان، بالرغم من الاعتداءات والاعتقالات التي تعرّضوا لها، في المخافر وعلى الطرقات العامة والساحات، ومن قبل القوى الأمنية وميليشيات الزعامات الطائفية، والدعوة إلى متابعة الانتفاضة وتصعيدها للخلاص من السلطة السياسية الفاسدة ونظامها الطائفي والمذهبي المولّد للأزمات والتدخلات الخارجية، وصولاً إلى بناء دولة وطنية ديمقراطية". وتم التوجّه بالشكر أيضاً لكل الذين قاموا بتلبية الدعوة، و"الذين أسهموا، عبر عشرات المداخلات، في إغناء النقاش حول مسألة إعادة تكوين مرتكزات السلطة وتشكيل حكومة انتقالية وطنية وذات صلاحيات استثنائية، تتولّى اتخاذ إجراءات فورية لمعالجة التبعات الاقتصادية والاجتماعية للانهيار النقدي والمالي، وتؤمّن استعادة المال والأملاك العامة المنهوبة والتأسيس لنظام ضريبي تصاعدي جديد ولإعادة هيكلة الإنفاق العام، بالتزامن مع إقرار قانون جديد للانتخابات قائم على النسبية خارج القيد الطائفي". وتداول المجتمعون "أهمية تصعيد الانتفاضة واستمرار الحوار المشترك، بمختلف السبل والأشكال المناسبة، بما يعزّز مساحة التفاعل البنّاء والتلاقي الوثيق بين مكوّنات الانتفاضة". وتقرّر في هذا السياق الأخذ بالاقتراحات والملاحظات والتعديلات التي أبداها المشاركون على مشروع الورقة المقدمة إلى الورشة الحوارية، كما تقرّر عقد جلسات حوارية. هي انتفاضة بحجم الوطن، عابرة للطوائف والمذاهب. سواء أطلق عليها ثوّارها "انتفاضة"، أو "حراك" أو "ثورة". فالعزيمة والإصرار والحرص على استكمال المواجهة هي الإسفين الذي ضرب نعشَ هذا النظام السياسي الطائفي الفاسد الذي سيزول حتماً لتحقيق نقلة نوعية في طبيعة هذا النظام المتعفّن وخلق منظومة جديدة في الاقتصاد والسياسة والتعليم والنقابات.

الانتفاضة وجدليّة تكوين الموقف السياسي

 
تسجل الانتفاضة الشعبية، انتفاضة 17 اكتوبر، ولأول مرة في لبنان، حدثاً تاريخيّاً بكل المقاييس، وهوحدثٌ سيؤثّر حكماً، ويطبع بطابعه المرحلة المقبلة، وفي اتجاهين؛ أفقياً، على اتساع الوطن وشمولية القطاعات والقضايا، وعمودياً، على مستوى القوى المنخرطة فيه على ضفتي المواجهة؛ السلطة ومكوناتها، والشعب بكليته وبقواه السياسية – الجذرية منها أو المتسلقة على أكتاف المناسبات للاستفادة الآنية من نتائجها– يضاف إليهما الخارج، وهو الممسك ببعض الداخل، من قوى سياسية مرتبطة به وبمشاريعه، والمعني بالأساس، بالتركيبة السياسية القائمة في لبنان، والتي بطبيعتها تابعة بالسياسة والاقتصاد، لتعكس توازنات إقليمية ودولية محكومة بنمط من علاقات الدول ومصالحها. فالقراءة السياسية لهذا الحدث محكومة إذن بتلك التعقيدات؛ فالتركيبة الهجينة للنظام السياسي جعلت مساحة التقاطع الإقليمي والدولي واضحة وجليّة، ما يجعل كل قراءة تغفل أيّاً من تلك العوامل، ناقصة. وفي المقابل، أي تعامٍ عن الظروف الداخلية للأزمة، والتي لا تنقصها الأدلّة ولا الإشارات، ستجنح بالابتعاد عن الفهم الموضوعي المطلوب في هذا الوقت. فأدلّة الداخل لا تنقصها مؤشرات الخارج، لأن بناءه لم يكن في الأساس من خارج عباءة ذلك الخارج وتأثيراته، لا بل أكثر من ذلك، كان من صلب مشروعه الإمبريالي المستمر. فالنظام السياسي القائم في لبنان، ومنذ وجوده ككيان مستقل، لم يكن، لا في الشكل ولا في المضمون وكذلك في الوظيفة، إلّا استجابة لخارجٍ استثمر مبكراً في طبيعة هذا البلد وتركيب منظومته، السياسية والاقتصادية، القائمة على الجمع بين الطوائف، ككيانات "مستقلة" ضمن منظومة تحاصص واحدة، لكنها ليست ثابتة، تتبدل أدوارها وفق تبدل الوصايات الدولية؛ فَعَمِل، أيذلك الخارج، على ترسيخ تلك الوضعية كما على تطويرها وحمايتها. فأي خلل ناتج عن سلوك هذه التركيبة أو مشغليها، كان يُعَبّر عنه بتوترات وحروب أهلية، تَخرج البلاد بعدها بنمط علاقات جديدة تُصاغ بين مكوناتها "المستقلة" تعكس نتائج تلك الحروب. فعلى ذلك التقاطع، البنيوي والشديد الوضوح، القائم بين الداخل والخارج، سنقدم الرؤية المفترضة لفهم الظروف ولقياس المقاربات؛ فالطبيعة التابعة–المستدامة للنظام السياسي في لبنان أعطت لذلك الخارج "مونة" وازنة على الداخل، وهذا مفهوم ومعلن وليس مستتراً، وقد طاول حجم التدخل، مختلف القضايا وبكل الأساليب والطرق، ما أوجد أرضية التقاطع تلك، الواقعة بين تحديات مشاكل المنطقة وتطوراتها وتعقيداتها من جهة، واستجابة القوى الموجودة لتنفيذ أدوار مطلوبة منها في الصراعات الدائرة من جهة أخرى. هذا التناقض أوقعها في انفصام جليّ ومستدام فيطبيعة موقفها وسلوكها والدور المطلوب منها، ولو أدّى ذلك إلى تناقض مع "شريكها" المحلي. وهذا ما شهدناه تكراراً طوال مرحلة من عمر لبنان المستقل. بالاستناد إلى هذه القراءة يمكننا مقاربة هذا الحدث "التاريخي"، الذي يجري اليوم، بغض النظر عن النتائج المتوقعة أو المرجوة منه؛ هو حدث غير مسبوق في التاريخ المعاصر للبنان، بحيث ينتفض الشارع متخطّياً، ولو بالشكل، حدود الانقسام المذهبي والطائفي والمناطقي الذي عاشه أطواراً متتالية من الزمن. فهذا الانزياح "الجنيني"، الذي ظهر، وفي كل المناطق، والذي عُبّر عنه بخطاب موحّد، إلى حدٍ يمكن البناء عليه، قد يجعل إمكانية التفلت من كوابح المذاهب والطوائف أمراً متاحاً ولو جزئياً، بالإضافة إلى تلمس حالات من التمرد الخجول على خطابات سياسية، لطالما ربطت الجمهور بمصالح من خارج مصلحته المباشرة، فظهر الناس في انتفاضتهم اليوم وهم أكثر جرأة على الإشهار بغضبهم، والذي لم يرقَ بعد إلى حالة من التفلت أو الانفكاك عن وعيهم الطائفي باتجاه آخر وطني أو طبقي، وهذا أمرٌ لا يمكن التغافل عنه أو تخطّيه، إذ لا يمكننا هنا تسجيل تقدم ملحوظ في هذا المجال بل إرهاصات محسوسة أو مفترضة لذلك التقدم، لا بدّ من التدقيق فيها، وأخذها من ثمّ، في الاعتبار. وعليه، يبقى الرهان على تجذير تلك النزعة "الانفصالية" الحاصلة ولو جزئياً وتطويرها إذا أمكن، ومن ثم تثبيتها عند الحدود التي نستطيع البناء عليها. هذا الأمر يتطلّب إحداث تلك النقلة النوعية المطلوبة، وبعيداً عن أي أوهام أو التباسات، بين حدّين متوازيين: حد المجاهرة المعلنة برفض السائد والموروث، وحدّ الاقتناع بالخطاب المعلن والموجود اليوم والمُعَبّر عنه في الشارع، ولو بطريقة مرتبكة. وهذا لن يتم إثباته والركون إليه، إلّا من خلال توضيح السقف السياسي وخطابه المعلن ونتيجته، والتي ستشكل فرزاً واضحاً في المواقف، لا لبس فيه ولا التباس، وهذه هي النقلة النوعية المطلوبة اليوم والتي يمكن الرهان عليها لبناء المستقبل. إن المجاهرة في رفض النظام السياسي القائم، وتحميله وزر الأزمات المتلاحقة، والتي أوصلت البلد إلى الانهيار واستكمالاً، تحميل من تولى السلطة المسؤولية السياسية عن ذلك، باتت من ثوابت كل تلك الساحات، وإن تباينت أو التبست بين ساحة وأخرى، أو اندرجت في خانة ردة الفعل العفوية، وأحياناً المفتعلة. كما أن ضرورة إحداث تغيير في بنية السلطة السياسية وفي المنظومة الحاكمة، شغل قسماً كبيراً من الخطاب السياسي المواكب، والذي كان يترجّح بين سقوف متباعدة، وأحياناً متناقضة. فالمسافة بين الحد الأقصى والحد الأدنى للخطاب، لا تقاس هنا بالفارق الجوهري أو النوعي، بل بمنطق الاختلاف الحاصل والمعلن بوضوح في الوعي السياسي لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه المجموعة أو تلك وكذلك لخياراتها. فنكاد نتحصل، وفي الوقت نفسه، على موقف سياسي واضح وعالي السقف من كل الساحات وأيضاً نقيضه. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل على حجم التفاوت الموجود بين المشاركين، وأيضاً على شمولية الحراك الذي يشمل أكثرية الشعب اللبناني، بمناطقه وإقطاعاته السياسية والطائفية والاجتماعية والطبقية. بناءً على ما تقدم، فإن استخراج الموقف السياسي من نبض الشارع يصبح بذاته أمراً أكثر إلحاحاً، وإن لم يشكل إجماعاً آنياً. الخلاصة المحققة من كل تجارب التعايش مع هذا النظام السياسي تؤكد بأنّ لا حل إلّا بتغيير أساسه، وإعادة تكوين السلطة على قواعد جديدة، انطلاقاً من ثابتة، ولو أنها غير مكتملة العناصر، وهي أن الشعب قد تخطّى، ولو مرحليّاً، حاجز الخوف الوجودي الذي وضعه فيه أصحاب الطوائف. وعليه، يصبح الانطلاق من هذه الأرضية الصلبة للموقف الذي سيُبنى عليه المشروع، قادراً على إطلاق برنامج تأسيسي لدولة وطنية بمهام وبرامج وسياسات تستطيع من خلالها التصدي، بكفاءة وبمسؤولية، للتحديات الكبرى التي ستواجهها مستقبلاً، إن كان على مستوى مواجهة الأخطار والمشاريع الإمبريالية من خلال إقفال أبوابها إلى الداخل وتعطيل مفاعيلها، أو على مستوى تحديات مشاكل الداخل الذي يعاني، بدوره، فقدان المناعة المطلوبة. إن بناء الدولة يجب أن يلحظ ضرورة الربط ما بين طبيعتها ووظيفتها، لأن التركيبة الداخلية للمنظومة السياسية هي شرط أساسي لإشهارالأساس الحقيقي لبرنامج المواجهة. لقد أهدرت التركيبة الحالية، المتوارثة والمهجّنة، والتي حكمت البلد منذ مدة طويلة، الكثير من الوقت والفرص والإمكانيات؛ فطبيعة النظام السياسي القائمة على المذهبية والطائفية، قد أفقد النظام متانة وحدته الضرورية للتصدي لمستلزمات بناء الدولة بكليتها. كما أن العلاقة التشاركية بين الكتل المكوّنة لتلك التركيبة جعلت نمط العلاقات البينية بين أطرافها تتّسم بالريبة وأحياناً بالتوجس، ما جعلها تهتز عند أي حدث، داخليّاً كان أم خارجيّاً. فمع تلك التركيبة المصطنعة، وبدورواضح من الخارج، أصبح لكل مكوّن علاقاته الداخلية، التي ترسمها خطوط الطوائف وحدود مصالحها وتقاطعاتها وطبيعة سلوكها، وأيضاً نمط علاقاته الخارجية، التي يستمد منها الدعم والمؤازرة متى تطلبت خياراته الداخلية ذلك، أو متى طلب منه الخارج تنفيذاً لأجنداته. في الحصيلة المضمونة، أصبحت المناعة الداخلية للبلد، ربطاً بنظامه السياسي، غير قادرة على الوقوف في وجه هذه التحديات. ومع هذا الثقب الأسود المُتأتّي من ذلك، وخطورة فتح الطرقات الداخلية أمام تلك المشاريع، فإن البناء على شمولية التحرك يصبح الهدف المطلوب، وإن شابه بعض التشويش المقصود أو المخطط له، نظراً لأنّ الغاية الكبرى (الشمولية) تفسد الغايات المشتبه فيها (الجزئية) وتعطّلها، حتى ولو أدارتها دول ومنظمات ورؤوس أموال لها ارتكازاتها الطائفية والمذهبية. كما أن الانكفاء خلف نظرية المؤامرة، والتي هي موجودة بكل تأكيد، والتستّر بها، لا يمكن أن يؤسس لمواجهة جديّة معها، لا بل يعطي أصحابها دفعاً إضافياً نحو تحقيق غايةٍ من اثنتين: إمّا تحقيق أهدافهم وإمّا إحباط الأهداف الحقيقية للانتفاضة، وفي كلتا الحالتين هو انتصار لهم وهزيمة لنا. لذلك يصبح فرز الساحات ضرورة تفرضها موجبات المواجهة وضمانة مزدوجة، للنجاح ولمنع المصادرة في الوقت نفسه. على تلك الأرضية، يصبح طرح شعار إسقاط النظام السياسي في لبنان ضرورة في المواجهة الشاملة مع المشاريع الإمبريالية المقيمة في منطقتنا أو القادمة إليها؛ فالطبيعة التابعة للنظام السياسي هي بذاتها إحدى أدواته، وعليه تصبح المقاربة أكثر جدية وموضوعية ووضوحاً، وأكثر قابلية للتحقّق، فيما لو أن زخم تلك التحركات جرت الاستفادة منه في هذا الإطار. وأيضاً، فإن الدور الخارجي لن يكون بعيداً عن الاستفادة من هذا الوضع، وأن يستثمر فيه تنفيذاً لمشروعه، منطلقاً من نقاط ارتكاز محلية، سياسية ومالية واقتصادية. أمّا مهمة التصدي لهذا "العدوان"، فيجب أن تكون من خلال تعديل موازين القوى لمصلحة من يرى في النظام السياسي الحالي وسياساته وسلوكه استجابة لمشاريع غربية تحاول وضع يدها بالكامل على المنطقة، ما يحرم الخارج، في هذه الحالة من أدواته، ومن لعب دوره، ما قد يفقده إمكانية الاستخدام والتجيير والاستفادة. إنّ الانتفاضة الشعبية دخلت لاعباً جديداً على خط التوازنات السياسية والتحالفات في لبنان. وعلى هذا الأساس يصبح تطويرها وتصعيدها مسألتين ضروريتين تفرضهما طبيعة المواجهة القائمة؛ فتغيير السياسات مرتبط بتغيير موازين القوى وإعادة تشكيل السلطة وفق مكونات جديدة، تعكس، إلى حد مقبول، طبيعة القوى السياسية والمجتمعية التي تمثل، ليس على صعيد القضايا فقط، بل على صعيد نبض الشعب اللبناني الذي يرفض المشاريع التقسيمية في المنطقة وفي لبنان، ويعمل على مقاومتها والتصدّي لها، كما يرفض في الوقت ذاته التبعية للسياسات الاقتصادية والمالية والارتهان لها ولمؤسساتها الدولية، والتي تشكل الذراع المالية للإمبريالية. وعلى هذا الأساس نرى اليوم بأن المهمة الأساس هي استكمال تلك المواجهة، باتجاه إعادة تشكيل السلطة وفق آليات جديدة تعكس المستجد الحاصل داخلياً، مع الإشارة، لا بل التأكيد، أنّ "الخرق"، باتجاه بنية النظام، لن يكون إلّا أحد الأهداف التي يجب الوصول إليها، وأيضاً من خلال التحوّل باتجاهات جديدة في الاقتصاد وبوجهة تحررية، من إرث متوارث لا يزال معمولاً به إلى آخر يكسر بأبعاده، وبما يهدف إليه، التبعية المتوارثة، ويفتح أفقاً جديداً يتماشى مع المتغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي. فالتكامل الاقتصادي بين الدول مع الانفتاح على أسواق أو وجهات جديدة يمكنها أن تشكّل الخرق الحقيقي لتغيير مسار تقليدي أوصل البلاد إلى الأزمات المتتالية التي نعيشها. هذا الأمر يتطلب النظر في اتجاهات جديدة تخالف السائد، وتعمل لاستمالة قوى إضافية، ومن مواقع متقاربة؛ قوى تستطيع تقديم دعم إضافي، مطلوب بإلحاح الآن، إن أردنا التأسيس لمرحلة جديدة في الوضع اللبناني ومساره، وإلّا سيلزمنا عقوداً إضافية من السنوات كي يعاود الشعب اللبناني حركته هذه؛ ربما لأن دورة "الاستفاقة" له، يلزمها أطواراً كي تتجدّد.

تحديات الانتفاضة وتسارع الانهيار

 
أربعون يوماً والانتفاضة الشعبية مستمرّة، والسلطة السياسية بأطرافها عموماً لم تُقدِم حتى تاريخه على تشكيل حكومة، أية حكومة، لا تكنوقراط ولا تكنوسياسية، ولا حكومة أكثرية. وحتى تاريخه، لم تتجاوب السلطة مع مطالب الانتفاضة بالانخراط فوراً في طريق الإصلاح وإعادة تكوين قواعد السلطة. كما أنّها، بتجاهلها لانتقال الأزمة الاقتصادية والمالية من مرحلة بدايات الانهيار إلى مرحلة الذروة فيها وسط عدم وجود أية حكومة، تحاول نفض يدها والتنصّل من مسؤوليّتها المباشرة عن الجريمة الوطنية الكبرى المتمثّلة في كارثة الانهيار المالي والنقدي الذي يعرّض اللبنانيين للإفقار والبطالة وصولاً إلى المجاعة. إنّ السلطة، بفعلتها هذه، تعمل من دون تردّد على إلقاء تبعات النتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة على عاتق الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، ولا سيّما الفقراء منهم، فتضعهم بشكل قسري أمام خيارين أساسيّين: إما الخضوع لسياساتها أو تعميم الفوضى المحفوفة بالعودة إلى زمن النزاعات الأهلية المدمّرة. وتستقوي السلطة في الحالتين بتبعية نظامها السياسي الطائفي للخارج الذي تعود له الكلمة الفصل في تعيين رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي وكل ما يعود لحيثيّات "الحرية والسيادة والاستقلال". وهذا بالتحديد ما نشهده اليوم من خلال ما يتسرّب من معطيات ومؤشرات عبر قنوات التفاوض مع الطرف الأميركي، على تشكيل حكومة تكنوسياسية تخضع لمواصفاته وتوجيهاته وتعيد تجديد النظام الطائفي المحتضر، بدلاً من الاستجابة لمطالب الانتفاضة الشعبية وطرق أبواب الإصلاح السياسي الذي هو المدخل الفعلي لأيّ إصلاح اقتصادي أو مالي يمكن البناء عليه. هذا مع العلم أنّ تسليم الأوراق للطرف الأميركي، والغربي عموماً، يأتي في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ هذه القوى في المنطقة العربية وخصوصاً في لبنان. إنّ رفض السلطة السياسية اللبنانية تشكيل حكومة انتقالية، وطنية من خارج منظومتها الحاكمة، وبصلاحيات استثنائية بما في ذلك صلاحية التشريع، يثير قلقاً كبيراً في صفوف اللبنانيين حول عدم استرجاع المال والأملاك العامة المنهوبة وعلى عملية إلقاء تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية على الفئات الاجتماعية المسحوقة. وهذا القلق المشروع يعود إلى أنّه من غير المعقول أن تشرّع هذه السلطة قوانين ضدّ مصالحها السياسية والطبقية، وتكشف بشفافية عن المكامن الملموسة لفسادها، الأمر الذي سوف يحمّلها المسؤولية الأساسية عن تفجّر المحنة الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل راهناً كاهل الشعب اللبناني. ويأتي في الإطار ذاته، ما دأبت عليه بعض قوى "المعارضة" السلطوية التي تركب موجة الانتفاضة للتهرّب من تحمّل مسؤولياتها عن الأزمة وارتباطاً بأجنداتها الخارجية، إلى اعتماد اسلوب قطع الطرقات، مدركة أضراره في هذه الظروف على الانتفاضة لجهة حرفها عن أهدافها الوطنية والاجتماعية، بوضع شارع في وجه شارع آخر الذي سرعان ما استجاب وأطلق التهديدات على المنتفضين التي طالت المقاومين في محافظتي الجنوب وبعلبك-الهرمل الذين لم يقطعوا لا طريقاً ولا زاروباً حيث تمّ الاعتداء (المُدان) عليهم في ساحة المطران في بعلبك وساحة الحرية (دوار العلم) في صور وحرق خيمهم للمرة الثانية، في رسالة واضحة إلى الشعب اللبناني مفادها الآتي: "اختاروا أيها اللبنانيون إمّا الموت غير المباشر جوعاً او الموت المباشر قتلاً بالفتنة"، وهو الأمر الذي لطالما دأبت عليه تاريخياً الأطراف المتنفّذة داخل هذه السلطة كلّما تهدّدت مصالحها السياسية والطبقية في مواجهات شعبية كبرى. تلك هي بوصلة الانتفاضة في تجاوز هذه التحديات مقدّمين أحرّ التعازي إلى عائلتيْ شهداء الوطن الذين سقطوا على طريق الجية حسين شلهوب وسناء الجندي. مثل هذا السلوك السلطوي هو الذي يجرّ البلاد دونما شكّ نحو الفوضى ويفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية وازدياد الضغوط الأميركية السافرة والمُدانة، بحسب ما تشير إليه يوماً بعد يوم بيانات السفارة الأميركية والتصريحات المتكرّرة للمسؤولين الأميركيين، وآخرهم فيلتمان، والتي تستوجب المزيد من التصدّي الشعبي لها وإطلاق كل المبادرات المتاحة ضدّها بمختلف أشكال وأساليب الشجب والاستنكار. وهذه التدخلات مرشّحة للتصاعد طالما بقيت السلطة مفتقدة لاستقلاليّة قرارها السيادي، الأمر الذي يتيح لتلك التدخلات توظيف ما يحصل من تطورات في لبنان في خدمة مشاريعها العدوانية المعادية لمصالح الشعب اللبناني ومصالح شعوبنا العربية. وهذا ما ينطوي على أخطار ينبغي التصدّي لها ولأدواتها الداخلية من قِبل كل القوى الديمقراطية والهيئات واللجان الشعبية المنخرطة في الانتفاضة.أربعون يوماً مضت على الانتفاضة الشعبية، والسلطة لم تحرّك ساكناً لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي انتقلت مظاهرها من مرحلة بدايات الانهيار باتّجاه مرحلة الذروة فيها. وتهدف السلطة من خلال تجاهلها للواقع الاقتصادي والاجتماعي المأساوي، إلى إرباك الانتفاضة وضربها واجتثاث ما حملته من معانٍ ودلالات عميقة سوف تبقى راسخة في الحاضر والمستقبل. أمّا أبرز مظاهر التسارع في هذا الانهيار فتتمثّل في الآتي: • بلوغ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار ( دولار مقابل 2000 ل.ل) والحبل على الجرار، ما يعني تهديد القوة الشرائية للرواتب والأجور والتعويضات ومعاشات التقاعد، حيث لم يعد بالإمكان توفير الحاجات الضرورية للعاملين الذين يتقاضون مداخيل بالليرة اللبنانية. • اتساع ظاهرة الفقر والعوز والجوع لا سيّما لدى المُعطّلين عن العمل والمهمشين الذين بالأساس لا أجور أو مداخيل لديهم إضافة إلى المياومين وعموم المواطنين الذين يفتقدون إلى الضمانات الاجتماعية. • ازدياد خطر تبخّر قيمة تعويضات صندوق نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي وسائر الصناديق الضامنة، لا سيّما إذا ما تم إقرار مشروع قانون ضمان الشيخوخة الحالي الذي لا تزال معظم مرتكزاته موضع جدل وتباين. • احتمال التوقف عن دفع أجور العاملين في المصانع والمتاجر والمؤسسات بسبب الإقفال والصرف الكيفي. • ازدياد القيود المنفذة في المصارف على الودائع والتحويلات، حيث يعجز أصحابها عن سحبها أو الحصول عليها أو تحويلها كما يريدون لتسيير أعمالهم وصرف أجور موظفيهم جراء تفرد المصارف في تقرير العلاقة مع المودعين والمقترضين بمعزل عن الدولة، كما هو واقع الحال راهناً. • وصول تأثير الانهيار المالي إلى السلع والمواد الأساسية المستوردة بالدولار من الخارج نتيجة القيود المفروضة على التحويلات بالدولار، حيث أنّ بعض السلع بدأت تُفقَد من الأسواق والمستشفيات أعلنت أنّ احتياطاتها من المعدات الطبية تتضاءل بشكل سريع. • التصاعد المريع في معدلات البطالة والارتفاع غير المسبوق في الديون المشكوك في تحصيلها من المؤسسات المتعثرة والمفلسة. • تفاقم مشكلة السكن جراء تحرير جزء كبير من عقود الإيجارات بالدولار في حين أنّ أجور ومداخيل معظم المستأجرين هي بالليرة، مع تسجيل ندرة متزايدة للدولار الأميركي في الأسواق المحلية. إن العجز المتمادي للسلطة السياسية عن فرض الآليات والاجراءات التي يجب القيام بها لفرض التعامل بالليرة اللبنانية – بدلا من الدولار - في عمليات الشراء والبيع في الأسواق الداخلية، وسط استمرار عدم الاستقرار في أسعار الصرف.إزاء ما يحصل على المسارات كافة، فإنّ قوى الانتفاضة مطالبة بالانتقال إلى مرحلة تصعيدية جديدة، بدءاً من توسيع دائرة الحوار المتعلق بالانتفاضة الذي استهلّته الورشة الحوارية حول المرحلة الانتقالية وبرنامجها، مروراً بتوسيع وبلورة إطار المواجهة الشعبية وتصعيد أشكالها، ضمن خطة تحركات تصعيدية متدرجة وصولاً إلى إعلان العصيان المدني. وهذا يشمل أيضاً التوجّه إلى المتضررين -الذين دفعوا ويدفعون وسيدفعون أكثر فأكثر تكاليف الانهيار فقراً وبطالة وهجرة- كي يشبكوا الأيادي ويوحّدوا الصفوف منعاً للفوضى والفتنة ووقوفاً بوجه التدخلات الخارجية وأدواتها السلطوية وحيتان المال، وكذلك بوجه محاولات بيع ما تبقّى من مؤسسات للدولة تحت شعار كاذب ومخادع هو تنفيذ ما يُسمّى "الورقة الإصلاحية"، مع ما تتضمّنه من خصخصة للمرفأ والمطار والاتصالات والمرافئ وشركة طيران الشرق الأوسط والكازينو وغيرها وتعميم التعاقد الوظيفي وضرب نظام التقاعد. إنّ أية حكومة يُراد تشكيلها يجب أن لا تعيد إنتاج السلطة السياسية عينها ما سيزيد الأزمة السياسية والاجتماعية تفاقماً بينما المطلوب حكومة انتقالية وطنية قادرة على التصدّي للتدخلات الخارجية والضغوط الأميركية وتقديم حلول ملموسة لكلّ ما تقدّم من مخاطر حول مظاهر الانهيار المالي والنقدي والاجتماعي، وفي أولوية برنامجها مسألتان أساسيّتان: أوّلاً، رؤيتها لبرنامج المرحلة الانتقالية، وفي مقدّمها: إقرار قانون للانتخابات النيابية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي (المادة 22 من الدستور)؛ وتحديد طرق استرداد الأموال العامة المنهوبة؛ وتأسيس نظام ضريبي تصاعدي يطال المداخيل والأرباح والثروات والريوع الكبيرة؛ وابتداع إجراءات مفصلية تتيح إعادة هيكلة مكوّنات القطاع العام، لا سيّما المؤسسات العامة والمصالح المستقلة. ثانياً، معالجة مظاهر الانهيار المالي والنقدي بما يؤمّن الحماية الاجتماعية بشكل أساسي للعمال والأجراء والموظفين والفئات الدنيا الفقيرة والمتوسطة، ليُصار إلى تركيز الإجراءات على الفئات التي استفادت بالدرجة الأولى من سياسات الحكم واستحوذت على الريوع والفوائد والأرباح وشاركت في نهب المال العام.  

التغيير الجذري يغلق أبواب التدخل الخارجي

يلعب العم سام لعبته المفضلة اليوم. استغلال المتغيرات والتناقضات الداخلية القائمة، ومحاولة التأثير عليها لاستثمارها في حسابات مصالحه السياسية. الكونغرس الأميركي يناقش في جلسات علنية التطورات في لبنان. تبرز تناقضات بين أعضائه حول ماهية الوسائل الأفضل لاستثمار الانتفاضة الشعبية. يقول فريق منهم أنّه من الضروري وقف دعم الجيش وتضييق الخناق حتى يستسلم الجميع للضغوطات والشروط المطلوبة، فيما يقول فريق آخر أنّه من الهام جداً تقديم حزمة مساعدات للجيش، لتصوير أميركا أنها تريد الخير للبنان وشعبه، من أجل كسب ثقته، والدفع قدماً بحلفائها على قاعدة وعود بالإنقاذ الاقتصادي إذا استجاب اللبنانيون للضغوط. وحجة الفريق الثاني أنّ الانهيار الشامل سوف يفتح المجال أمام القوى المناوئة إقليميّاً ودوليّاً للدخول وملء الفراغ وكسب لبنان في صفّهم. ومن ضمن جلسات النقاش والاستماع تقدم جيفري فيلتمان، السفير السابق في لبنان، برأيه أمام الكونغرس، وهو من مؤيدي وجهة النظر الثانية. وعلى ما يبدو أن الاتجاه العام للإدارة الأميركية سينحو في هذا الاتجاه خاصة أن مواقف وزراء الخارجية والدفاع أقرب اليوم إلى هذا الرأي. نقول للأميركيين أن انتفاضتنا ترفضهم وتلفظهم، وأنّنا هبينا إلى الشارع ضد هذا النظام الطائفي وسياساته الاقتصادية الريعية التي أوصلت البلاد إلى نفق الانهيار لا لنفتح لهم باب التدخل، بل على العكس تماماً، لنوصده بوجههم بكل ما أوتينا من قوّة. إن الظروف مؤاتية اليوم لتحقيق تغيير جذري في بنية نظامنا التابع للامبريالية في السياسة كما في الاقتصاد، وبدء مسار بناء دولة علمانية ديمقراطية مقاومة، تحقق سيادة بلدنا واستقلاله الحقيقيين، وتبني اقتصاداً منتجاً لا يمكن إخضاعه لإملاءات السفارات والصناديق ولا لمصالح الريوع وكبار الرأسماليين كما هو الواقع اليوم بقيادة أحزاب السلطة الحاكمة. فمشروعنا للتغيير السياسي، هو هو طريقنا إلى التحرر الوطني. فلتفتح أبواب التغيير لتغلق معها أبواب التدخل الخارجي.

بنت جبيل لن تكون ساحة للترهيب

 
مسارات الأحداث والتطوّرات المرتقبة خلال المرحلة القادمة ستحدّدها الخيارات والثوابت التي فرضتها انتقاضة الشعب اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الحالي. أيضاً لا بد من الإقرار والاعتراف من قبل الجميع على السواء بأن هناك معادلة استجدّت على الساحة اللبنانية وهي تعبّر بشكل واضح وصريح أن ما بعد هذه الانتفاضة لن يكون كما قبله. والمفاجأة الكبرى في هذا السياق تمثّلت بكسر حاجز الرعب والتخويف الذي فرضته آلة القمع والترهيب لدى كافة أطراف السلطة الفاسدة المتعاقبة على سدة الحكم على مدى عشرات السنين. فشرعت الأبواب الموصودة وانتفضت جموع المواطنين التواقة للحرية والانعتاق من سجون الكانتونات الطائفية، وبادرت إلى مغادرة طوابير المذهبية لتقدم الصورة الحقيقية والنموذجية للشعب اللبناني بإصراره غيرالمسبوق على التمسك بالوحدة الوطنية وإظهار إرادته الصلبة في مواجهة زعماء الحرب الذين لم يتركوا وسيلة إلّا واستخدموها في سبيل النيل من وحدة هذا الشعب وتفتيته على قاعدة "فرّق تسد". ومن جهة أخرى بدأت منجزات الانتفاضة تتجلّى تباعاً وقد تبدّلت موازين القوى لصالح الشعب اللبناني بدءاً بإسقاط الحكومة وبفتح ملفات الحكام وفضح صفقاتهم التي تفيض بالفساد والسمسرات أمام محكمة الشعب لمساءلتهم ومحاسبتهم وتحميلهم تبعات ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب والوطن من خلال تخريب مؤسسات الدولة مروراً بتدمير الاقتصاد وانتهاءً بالسطو على الثروات ونهب المال العام. هذه الطبقة الحاكمة استأثرت بجميع مفاصل الدولة، مستغلة كل ما يناسبها من بنود اتفاق الطائف لتأمين هيمنتها المطلقة وتعميم نفوذها ليشمل كافة المناطق اللبنانية عبر أزلام أحزاب السلطة وميليشياتها. وعليه فإن الحديث عن خصوصيات المناطق الخاضعة لسلطة القوى الطائفية، أمر يستدعي الحذر والحسبان لكثير من ردات الفعل التي قد تحصل من قبل تلك الأطراف التي اعتادت التعالي فوق القوانين لتفرض قوانينها الميليشياوية مستندةً إلى عوامل عدة، وفي طليعتها إخضاع الناس وتقديم الولاء لقاء ضمان المنفعة الشخصية، الأمر الذي أتاح لها تأمين حاضنة شعبية المرتكزة على الزبائنية والمحسوبية. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن ما جرى في مدينة بنت جبيل وقرى القضاء التابع لها، بنظر الجهات النافذة، ينذر بخطر داهم ويشكّل خروجاً عن القاعدة وتمرّداً على المألوف. ولأنّه يمثل، بحسب الجهات نفسها، تخريباً للسلم الأهلي وتعرّضاً لأمن المنطقة وللمقاومة... ولأن ما جرى، حسب اعتباراتهم، نكرانٌ للجميل. يستخدم هؤلاء النافذين هذه المقولات تبريراً لما جرى من تعديات وافتراءات طالت المتظاهرين أمام سرايا بنت جبيل. فيما أن حقيقة الأمر كان ممارسة أبسط وأدنى أشكال الاحتجاج وتحت سقف ادّعاءاتهم بكثير وتحت سقف القانون وبمواكبة القوى الأمنية وبطرق سلمية من قبل مواطنين يعانون الأمرّين، والذين نزلوا إلى الساحات وتظاهروا ضد سياسات السلطة. ألا يكفيهم ما تحمّلوه من وطأة الاحتلال على مدى عقود من الزمن؟ وهل يُعقل أن تبقى لعنة المعاناة مرافقة لهم وهم من بذلوا الغالي والنفيس من أجل التحرير للخلاص من إذلال الاحتلال والعودة إلى حضن الوطن وكنف الدولة العادلة؟ تظاهر أهل بنت جبيل والقرى المجاورة بعدما مارست السلطة وميليشياتها شتّى أنواع الذل وارتهان الكرامات بحق الجنوبيين. والأغلبية الساحقة من السكان المقيمين في قرى منطقة بنت جبيل هم من مزارعي التبغ الذين لم تكترث السلطة لهمومهم يوماً بل انحازت إلى جانب شركة الريجي في احتكاراتها وأمّنت لإدارتها الفضاء اللازم للاستمرار في نهب المزارعين وسرقة محاصيلهم، ونكران كافة حقوقهم في زيادة الأسعار أو الضمان أو دعم تسليفات القروض. أما الحق في العمل، فحدّث ولا حرج، حيث باتت الوظيفة حكراً على المحسوبيات. والدخول الى المستشفى يلزمه موافقة المراجع ودورة العمل في إطار المهن الحرة هي أيضاً تخضع لسياسة الاحتكار. وهذا ما يطرح عدة تساؤلات لدى المواطنين. هل يا ترى نزول هؤلاء المواطنين بمختلف أوضاعهم وظروفهم الاجتماعية للتظاهر والاعتصام والاحتجاج سواء في ساحات بنت جبيل أم سواها أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل نزول المزارعين للاعتصام أمام مكاتب الريجي للتذكير بمطالبهم المزمنة والمشروعة، أمراً "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل اعتصام الشباب وحاملي الشهادات المُعطّلين عن العمل للمطالبة بفرص العمل أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل التظاهر للمطالبة بتطبيق القوانين ومحاسبة الفاسدين وناهبي المال العام، أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل استخدام مكبّرات الصوت للهتاف ضدّ الجوع والفقر ورفع الظلم أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! لتلك الأسباب كانت الانتفاضة في بنت جبيل وفي كل الساحات، لتلك الأسباب نزل المواطنون إلى الشوارع، سلاحهم النشيد الوطني ورايتهم العلم اللبناني، ومن أجل ذلك نحن باقون في الساحات حتى سقوط منظومة الفساد التي أوصلت الوطن إلى شفير الهاوية والاقتصاد الى درجة الإفلاس والانهيار بكامل مكوّناتها وتحميلها المسؤولية.