الخميس، أيار 15، 2025

بنت جبيل لن تكون ساحة للترهيب

 
مسارات الأحداث والتطوّرات المرتقبة خلال المرحلة القادمة ستحدّدها الخيارات والثوابت التي فرضتها انتقاضة الشعب اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الحالي. أيضاً لا بد من الإقرار والاعتراف من قبل الجميع على السواء بأن هناك معادلة استجدّت على الساحة اللبنانية وهي تعبّر بشكل واضح وصريح أن ما بعد هذه الانتفاضة لن يكون كما قبله. والمفاجأة الكبرى في هذا السياق تمثّلت بكسر حاجز الرعب والتخويف الذي فرضته آلة القمع والترهيب لدى كافة أطراف السلطة الفاسدة المتعاقبة على سدة الحكم على مدى عشرات السنين. فشرعت الأبواب الموصودة وانتفضت جموع المواطنين التواقة للحرية والانعتاق من سجون الكانتونات الطائفية، وبادرت إلى مغادرة طوابير المذهبية لتقدم الصورة الحقيقية والنموذجية للشعب اللبناني بإصراره غيرالمسبوق على التمسك بالوحدة الوطنية وإظهار إرادته الصلبة في مواجهة زعماء الحرب الذين لم يتركوا وسيلة إلّا واستخدموها في سبيل النيل من وحدة هذا الشعب وتفتيته على قاعدة "فرّق تسد". ومن جهة أخرى بدأت منجزات الانتفاضة تتجلّى تباعاً وقد تبدّلت موازين القوى لصالح الشعب اللبناني بدءاً بإسقاط الحكومة وبفتح ملفات الحكام وفضح صفقاتهم التي تفيض بالفساد والسمسرات أمام محكمة الشعب لمساءلتهم ومحاسبتهم وتحميلهم تبعات ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب والوطن من خلال تخريب مؤسسات الدولة مروراً بتدمير الاقتصاد وانتهاءً بالسطو على الثروات ونهب المال العام.هذه الطبقة الحاكمة استأثرت بجميع مفاصل الدولة، مستغلة كل ما يناسبها من بنود اتفاق الطائف لتأمين هيمنتها المطلقة وتعميم نفوذها ليشمل كافة المناطق اللبنانية عبر أزلام أحزاب السلطة وميليشياتها. وعليه فإن الحديث عن خصوصيات المناطق الخاضعة لسلطة القوى الطائفية، أمر يستدعي الحذر والحسبان لكثير من ردات الفعل التي قد تحصل من قبل تلك الأطراف التي اعتادت التعالي فوق القوانين لتفرض قوانينها الميليشياوية مستندةً إلى عوامل عدة، وفي طليعتها إخضاع الناس وتقديم الولاء لقاء ضمان المنفعة الشخصية، الأمر الذي أتاح لها تأمين حاضنة شعبية المرتكزة على الزبائنية والمحسوبية. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن ما جرى في مدينة بنت جبيل وقرى القضاء التابع لها، بنظر الجهات النافذة، ينذر بخطر داهم ويشكّل خروجاً عن القاعدة وتمرّداً على المألوف. ولأنّه يمثل، بحسب الجهات نفسها، تخريباً للسلم الأهلي وتعرّضاً لأمن المنطقة وللمقاومة... ولأن ما جرى، حسب اعتباراتهم، نكرانٌ للجميل. يستخدم هؤلاء النافذين هذه المقولات تبريراً لما جرى من تعديات وافتراءات طالت المتظاهرين أمام سرايا بنت جبيل. فيما أن حقيقة الأمر كان ممارسة أبسط وأدنى أشكال الاحتجاج وتحت سقف ادّعاءاتهم بكثير وتحت سقف القانون وبمواكبة القوى الأمنية وبطرق سلمية من قبل مواطنين يعانون الأمرّين، والذين نزلوا إلى الساحات وتظاهروا ضد سياسات السلطة. ألا يكفيهم ما تحمّلوه من وطأة الاحتلال على مدى عقود من الزمن؟ وهل يُعقل أن تبقى لعنة المعاناة مرافقة لهم وهم من بذلوا الغالي والنفيس من أجل التحرير للخلاص من إذلال الاحتلال والعودة إلى حضن الوطن وكنف الدولة العادلة؟ تظاهر أهل بنت جبيل والقرى المجاورة بعدما مارست السلطة وميليشياتها شتّى أنواع الذل وارتهان الكرامات بحق الجنوبيين. والأغلبية الساحقة من السكان المقيمين في قرى منطقة بنت جبيل هم من مزارعي التبغ الذين لم تكترث السلطة لهمومهم يوماً بل انحازت إلى جانب شركة الريجي في احتكاراتها وأمّنت لإدارتها الفضاء اللازم للاستمرار في نهب المزارعين وسرقة محاصيلهم، ونكران كافة حقوقهم في زيادة الأسعار أو الضمان أو دعم تسليفات القروض. أما الحق في العمل، فحدّث ولا حرج، حيث باتت الوظيفة حكراً على المحسوبيات. والدخول الى المستشفى يلزمه موافقة المراجع ودورة العمل في إطار المهن الحرة هي أيضاً تخضع لسياسة الاحتكار. وهذا ما يطرح عدة تساؤلات لدى المواطنين. هل يا ترى نزول هؤلاء المواطنين بمختلف أوضاعهم وظروفهم الاجتماعية للتظاهر والاعتصام والاحتجاج سواء في ساحات بنت جبيل أم سواها أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل نزول المزارعين للاعتصام أمام مكاتب الريجي للتذكير بمطالبهم المزمنة والمشروعة، أمراً "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل اعتصام الشباب وحاملي الشهادات المُعطّلين عن العمل للمطالبة بفرص العمل أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل التظاهر للمطالبة بتطبيق القوانين ومحاسبة الفاسدين وناهبي المال العام، أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل استخدام مكبّرات الصوت للهتاف ضدّ الجوع والفقر ورفع الظلم أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! لتلك الأسباب كانت الانتفاضة في بنت جبيل وفي كل الساحات، لتلك الأسباب نزل المواطنون إلى الشوارع، سلاحهم النشيد الوطني ورايتهم العلم اللبناني، ومن أجل ذلك نحن باقون في الساحات حتى سقوط منظومة الفساد التي أوصلت الوطن إلى شفير الهاوية والاقتصاد الى درجة الإفلاس والانهيار بكامل مكوّناتها وتحميلها المسؤولية.  

يوميّات من ساحة انتفاضة عاليه

 
"كيف تكون الثورة نظيفة وهي التي تخرج من أحشاء الحاضر متّسخة به، تهدمه وتغتسل بوعد أن الإنسان جميلٌ حرّاً؟" مهدي عامل هكذا خرجت ثورتنا من أحشاء هذا الحاضر مثقلة بأزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية ونفسية دفعت الناس، كلّ الناس، للصرخة سويّاً. في أولى أيام الانتفاضة الشعبية بدأت التجمعات على دوار عالية- خط الشام قاطعة الطريق الدولية فشكلت حالة لاقت ساحات الوطن وربطت أوصاله من القلب. فأصبح هذا الدوّار معروفاً بـ"الساحة" وضمّ أبناء عاليه والمحيط. شابات وشبان نساء ورجال منهم من لم تكن ساحات التظاهر تعرفهم سابقاً، فكانت سابقة لمن خلع جلباب الزعامات المعروفة. منهم من خلع هذا المعطف سابقاً ولكن لم تكن الساحات تعرفهم ومنهم من كان في الساحات منذ زمن. هكذا كان الشوف أيضاً، في بعقلين وبيت الدين، في حركة يومية لاقت تجاوباً شعبيّاً من أبناء المنطقة. في اليوم الأول رفضت ساحة عاليه أعلام أحزاب السلطة وتوجّهت في مسيرة نحو السراي حيث كرّست العلم اللبناني والشعار الأوحد "كلن يعني كلن". نحن في عاليه، كُنّا في أولى أيامنا بالعشرات ومع تقدم الأيام صرنا بالمئات واليوم صرنا بالآف. ثُبّتت الهوية، كما ثُبّتت مطالبنا في معركة واضحة لا تراجع عنها ضد السلطة السياسة والاقتصادية الفاسدة. ولمّا كان التحدي الأكبر المحافظة على لامركزية التظاهرات، ربحت عاليه التحدي وبنت الثقة خطوة خطوة. على خط الشام - دوار عاليه أصبح موعدنا اليومي لنخلق فسحة للنقاش والتحضير للطرق والأساليب لضمان الاستمرار. ندوات اقتصادية، قانونية، سياسية، يوغا، وفن، هكذا كانت ساحتنا تشبهنا بتنوعها وبوعيها.محطات أساسية زادت من اندفاعنا بدأت مع نثر الأرز من قبل الأهالي خلال المسيرات وتأكدت مع التزام شبه الكلي للمحال التجارية تلبيةً لدعوة "ساهم بالحل، سكّر المحل". أما الطلاب، نبض هذه الانتفاضة، لبّوا النداء في رفض الخضوع لقرار فتح المدارس، فكانت جولات المدارس أكثر من جيّدة وأعادت التأكيد أن القرار للناس. كسرت الساحة هاجس الخوف والتردد ما وسَع الساحة أكثر لتتحصّن بأبناء المنطقة الذين كانوا يعبرون عن رفضهم في ساحات بيروت. الكل الآن هنا، في مكانه الطبيعي. بعد انتهاء مرحلة تسكير الطرقات انتقلت الساحة مؤقتاً إلى ساحة شكيب جابر على خط الشام أيضاً وحافظت في يومياتها على تظاهرات صباحية ولقاءات مسائية. ومن سلسلة التظاهرات، عدّة وقفات أمام المصارف، والحصة الأكبر كانت لمصرف لبنان في عاليه، المدارس التي خالفت رأي الشارع بالإضراب، شركة الكهرباء، ومصلحة المياه والسراي."مدرسة الثورة" فُتِحت أبوابها في الساحة، وكان للأطفال مساحة شبه يومية للرسم والتفاعل واللقاء، حيث مُنحت لهم المساحة والوسيلة التي يستحقونها للتعبير، فتجلّت في الساحة إنتاجاتهم اليومية من رسومات وشعارات، ما شكّل محطةً تعكس الأمل القادم على أيادي الأجيال. قد يكون زمن الندوات داخل القاعات العامة قد ولّى، إنما للحوار في الساحات طعمٌ آخر، فكان اللقاء مع د. غسان ديبة، رئيس قسم الإقتصاد في الجامعة اللبنانية الأميركية، أوّل الجلسات الحوارية، بعنوان "الاقتصاد ما بعد الثورة". وعلى الطريق العام ورغم كلّ الضجيج المحيط، كان الحوار الأمثل والنقاش المفتوح الذي عبّر عن مدى اطّلاع الناس ووعيهم لقضاياهم. مسار البوصلة للناس في الشارع بات واضحاً: إنها معركة طبقية بامتياز. "الثورة بين الشارع والدستور" كان عنوان جلستنا الحوارية الثانية مع د. سامر غمرون وهو عضو مؤسس وعضو هيئة إدارية في المفكرة القانونية وأستاذ محاضر في جامعة القديس يوسف. وفي المجال الاقتصادي أيضاً ، كان الحوار المفتوح حول القطاع المصارف مع الصحافية الاقتصادية رشا أبو زكي. وكانت دعوة "تعو نحكي سياسة وقانون" مع الأستاذ نزار صاغية، مدير وعضو مؤسس في المفكرة القانونية، في حلقة حوارية بعنوان "الفرق بين نظام الزعامة ونظام الدولة" لتؤكّد على دور الشارع في المرحلة المقبلة، فالشارع يمثّل الحكم والرقيب والحسي الذي يقف بالمرصاد وهو الكفيل للاستمرار. ولم تخلُ الساحة من الأغاني الثورية التي علا صوتها مع ابن الجبل الثائر الفنان الجميل خالد الهبر في تحية فنية منه للثوار. ولأن عاليه كما باقي الساحات عنونت هويّتها، لم تخلُ أيّامنا فيها من المضايقات والتضييقات التي لم تثنينا عن النضال بل زادت من زخمنا اليومي. يافطات تُزال فنطبع غيرها، "بلطجة" من هنا ومحاولة كسر عزيمة من هناك، فيأتي الردّ أكثر عزيمةً وإصراراً. وكما قال الشهيد كمال جنبلاط "الحياة في أصالتها ثورة فكن ثائراًعلى الدوام" ونحن على الخطى سائرون، نحن بخير ماضون.

من البقاع إلى كل لبنان: انتصرت الانتفاضة الشعبية

يمكن أن نصفَ الانتفاضة الشعبية المستمرة منذ ما يزيد عن عشرين يوماً بأنّها حدثٌ استثنائي في تاريخ لبنان، و مؤشّرٌ أخير على بدء إنهيار النظام السياسي الطائفي ووصول بنيته التحتية أي المنظومة الاقتصادية الرأسمالية التابعة إلى أزمتها المستعصية. فمن جهة، لم يعد النظام السياسي القائم قادراً على إعادة انتاج نفسه وتأمين ديمومة عمل آلياته الدستورية والقانونية، ومن جهة ثانية لم تخرج السياسات الليبرالية الجديدة التي اتّبعتها الحكومات المتعاقبة منذ اتفاق الطائف، عن مسارها الحتميّ، بتوليد آليات تزيد من الاستقطاب الطبقي، والنهب الممنهج للثروات العامة. إنّ النتائج الاجتماعية والاقتصادية لهذه السياسات باتت معروفة من ناحية توسيع هوامش الفقر، وضرب المكتسبات الاجتماعية والصحية والتعليمية للطبقات الشعبية، في حين تزداد قوة الاحتكارات الخاصة وآليات الخصخصة. ناهيك عن ازدياد الحرمان وتضخّم أعداد المُعطّلين عن العمل. لقد أتت الانتفاضة الشعبية كنتيجة حتمية للسياسات الاقتصادية المتّبعة، وفي الوقت عينه كخلاصة تراكم للاعتراض الشعبي منذ ما يزيد عن عشر أعوام، وإذ لم تقف عند الحدود المعيشية والإقتصادوية البحتة فإنّها أعلنت المواجهة مع النظام السياسيّ القائم ومع الطبقة الحاكمة بكامل أركانها، وهنا مكمن طبقيّتها الحقيقي.ولم يكن البقاع اللبناني بمنأى عن تفجّر الانتفاضة، لا بل أنّ هذه المحافظة، المهمّشة تاريخيّاً، شهدت قبل الانتفاضة بأسبوعين تحرّكات شعبية عديدة أغلق الشبّانٌ والشابات على إثرها الكثير من الطرقات، مشاركين بذلك مواطنين في مختلف أنحاء البلد، إلّا أنّ لانتفاضة أهل البقاع سماتها الخاصة. فمن جهة هي منطقة تُعدّ ضمن المناطق المحرومة إنمائيّاً وإقتصاديّاً، وهي من بين الأكثر فقراً على صعيد لبنان. وإذ أنهك الاقتصاد الريعي الإنتاج الزراعي والصناعي فيها، فقد حرم عشرات آلاف العمّال من أعمالهم. وفي الوقت التي شهدت المنطقة في فترة ما بعد الحرب نموَّ برجوزاية وسطى وفئات برجوازية صغيرة، إلاّ أنّه سرعان ما تراجعت المواقع الاقتصادية والاجتماعية لهذه الفئات؛ ولم تخدم تجارة التهريب عبر الحدود مع سوريا، أو إنتاج وتجارة الحشيش سوى فئة قليلة من أبناء المنطقة، في وقت ازدادت أعداد المتخرّجين الجامعيين، والنازحين. ومن ناحية أخرى، ومنذ نهاية الحرب الأهلية خضعت معظم مدن وبلدات وقرى المحافظة للقوى السياسية التقليدية، إذ تشدّدت قبضة قوى السلطة المذهبية بقاعاً، كل في منطقته. عمّت الانتفاضة البقاع في كافة مدنه وبلداته الكبرى، فمن بلدات البقاع الغربي وراشيا وصولاً إلى الهرمل وقراها ومروراً بزحلة وقضائها، خرجَ المنتفضون صوتاً واحداً متخطّين التبعيات السياسية والمذهبية، وكانوا عصبَ الانتفاضة البقاعية، منهم جمهورٌ كبير من المعطّلين عن العمل، ومن العمّال المياومين أو أصحاب الأجور المنخفضة، وأصحاب المهن ذات الدخل المحدود، بالإضافة إلى فئات متنوعة من الموظّفين وأصحاب المهن الحرّة، كما فئات من الرأسمالية المحلية المتضرّرة من السياسات المالية الأخيرة ومن الأزمة السورية. وفي منطقة تُعدّ محافظة اجتماعيّاً وتقليدية وذات بنية أبوية ذكورية متشددة بشكلٍ عام، كانت لافتة جدّاً المشاركة الواسعة والفاعلة للنساء، كما لطلاب المدارس مثلاً في إقفال الطرقات والتظاهرات والاحتجاجات المتنقّلة، ما يدلّ على تخلخل البنى الاجتماعية والعائلية التقليدية. لقد كانت تظاهرات طلاب الجامعات والمدارس الرسمية والخاصة علامة فارقة، وهي إذ أعادت الزخم للانتفاضة الشعبية، فإنّها في عددٍ من مدن وبلدات البقاع (بعلبك في طليعتها) استمرّت إلى حدٍّ كبيرٍ بكسرِ منطق الهيمنة والقمع "الناعم" الّذي مارسه الثنائي السياسيّ الشيعي، إذ شكّلت مشاركة طلاب مدارس وجامعات خروجاً عن الخضوع لها وتحدّياً إضافيّاً أمامها. في الوقت الذي شهدت زحلة خروج تظاهرات كبيرة عُدّت بالآلاف ورفعت مطالب إجتماعية يسارية، وسياسية مدنية. وزحلة تُعد المدينة العصّية على الأحزاب اليسارية والديمقراطية الحديثة، مثلما يصفها الكثيرون، في الوقت الذي حاول فيها حزب القوات وغيره استثمار الانتفاضة لصالح رؤيته الخاصة. كما شهدت ساحاتها، عدا عن الاعتصامات والوقفات الاحتجاجية الشعبية، ندوات حوارية يومية وفعاليات ثقافية وتوعوية (وهذه حال نقاط الاعتصام كافةً) ما شكّل فضاءً عموميّاً تشاركيّاً ديمقراطي المضمون، ما ساهم بإعادة الصلة بين المناطق والسكّان باعتبارهم مواطنين أصحاب حقوق وليسوا جماعات طائفية تابعة للقوى التقليدية السائدة. بالرغم من سياسات التهويل والقمع و"البلطجة"، وبالرغم من كلّ المخاطر الممكنة والقائمة، فقد برهنت الانتفاضة الشعبية على أن باستطاعة الشعب اللبناني بأكثريته الساحقة أن يمتلك زمام المبادرة لتغيير الواقع المفروض اقتصاديّاً وسياسيّاً، وإن لم يكن بالإمكان التيقّن من مآلات الانتفاضة، فإنّه يمكن تسجيل عدّة انتصارات لها، أوّلها أنّها أدخلت إلى الساحة السياسية لاعباً جديداً يتمثّل في القوّة الشعبية العابرة للتبعية السياسية والطائفية وللمناطق. وبذلك أضيف إلى لعبة توازن القوى قوّة جديدة ألزمت السلطة على تقديم تنازلات مرشّحة للازدياد حالما بقيت الانتفاضة مستمرة؛ وقد أدخل هذا اللاعب الجديد دينامية سياسية جديدة قادرة لاحقة على إنتاج واقع سياسيّ حديث والانتقال بالبلد إلى فضاء سياسي واقتصاديّ مغاير عن السائد ذي أفق اجتماعي ديمقراطي مدني عصري. وثاني الانتصارات، أن الانتفاضة تجاوزت الأطر التقليدية في التنظيم الهرمي الصلب، فحتّى اللحظة بقيت الانتفاضة من حيث التنظيم والتوزّع المكاني أفقيةً ممتدة وغير مركزية في وقت تنبني الدولة على التمركز، ما أربك القوى المتسلطّة وجعلها منفصلة عن الواقع المستجد، خاصةً أن كل الدعوات السلطوية لتشكيل قيادة للانتفاضة من أجل التفاوض باءت بالفشل. وثالث الانتصارات يتمثّل في أنّ الانتفاضة أعطت دفعاً للحركة النسوية حديثة الولادة، كما لتلك البيئوية، وأعادت إحياء التنظيمات النقابية والقطاعية ذات المضمون الديمقراطيّ، كما الحركة الطلابية المدرسية والجامعية. إنّ هذه الانتصارات وغيرها قادرة على ترسم مستقبلاً جديداً للبنان ينقل الجمهورية من كونها فاشلة تخدم الأثرياء إلى دولة ديمقراطية إجتماعية حديثة تخدم غالبية مواطنيها على امتداد الوطن، وفي مقدّمتهم الأشد عوزاً في الشمال والبقاع.  

عكّار: همّشها النظام، فأعادتها الانتفاضة إلى قلب الوطن

 
جاءت انتفاضة الشعب اللبناني عامة والعكّاري خاصة ضد النظام الطائفي الفاسد في ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر لتعبّر عن وجع النّاس الّذي يعيش ثلثهم تحت خطّ الفقر الأدنى وثلثهم تحت خطّ الفقر الأعلى، فيما يتحكّم ١٪ من اللبنانيين بالجزء الأكبر من ثروات البلد. وكان لانتفاضة الأطراف المهمّشة كعكار والجنوب والبقاع والهرمل الدّور الأساسيّ في دعم هذه الانتفاضة. فلنأخذ عكار مثالاً، لم يجد أبناؤها مكاناً لهم في النّظام الاقتصاديّ الرّيعيّ الّذي أرست دعائمه السّلطة الطائفيّة الفاسدة بتحالفها مع المصارف وانصياعها للسياسات الاقتصادية التي رسمها البنك الدّولي ومن خلفه أميركا. فأولاد عكار، المزارعون بأغلبهم، فقدوا دورهم في هذا النّظام الاقتصادي الرّيعي الّذي قوّض إمكانيّة بناء اقتصادٍ منتجٍ دعامته الزراعة والصناعة، فكان من الطبيعيّ أن تقع أراضي السّهل الزّراعية فريسة للمضاربات العقاريّة وتتحوّل كتل أسمنتية في نظامٍ اقتصاديٍّ حوّل الأرض لسلعة تُباع وتُشترى طمعاً في الرّبح السّريع. تحرّك أبناء عكار مع أبناء شعبهم بهدف تحقيق مطالبهم المحقة وهي: إسقاط النظام الطائفيّ الفاسد بجميع رموزه وإقامة دولةٍ مدنيّةٍ تساوي بين مواطنيها دون تمييز بين طائفةٍ أو منطقة، تشكيل حكومة إنقاذ وطنيّة تشرف على إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة خارج القيد الطائفي، محاسبة أهل السلطة والمصارف الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة عبر اقرار قانون الإثراء غير المشروع. وأكد المنتفضون في عكار على وطنيّة حراكهم، وأوضحوا أن القضيّة الفلسطينية قضيّة حقٍّ جامعة ورفضوا استغلال القضيّة والمقاومة للدفاع عن الفساد والطائفيّة. فكان اجتماعهم اجتماعاً لمواطنين من النسيج العكاري تركوا خلفهم انتماءاتهم الطائفيّة والحزبية واتحدوا تحت العناوين والأهداف المذكورة، يجمعهم وجع أبناء عكار المحرومة وهموم الوطن، فكانوا يداً واحدةً وقلباً واحداً، وسهروا وناضلوا وتعبوا في سبيل أن تكون عكار في قلب لبنان لا خارجه كما أرادت السّلطات الطائفية الّتي تعاقبت على لبنان منذ تأسيسه. وبالرّغم من الصعوبات العديدة التي يواجهونها نتيجة رفضهم التّبعيّة لأحد، استمرّوا في انتفاضتهم الوطنيّة، فرفضوا التّمويل من الأحزاب والجمعيات التي عرضته كي يبقى قرارهم مستقلّاً وأهدافهم وطنيّة. وحاول المتضرّرون من انتفاضتهم إفشالهم بشتّى الوسائل ومنها: بثّ الشائعات عن تبعيّة الحراك لأحزاب معيّنة وخلق مشاكل ذات طابع طائفي أو عائلي أو بلدي وهو ما كذّبته ممارساتهم على أرض الواقع، بالإضافة إلى محاولات لتسلّق الحراك من قبل أعوان السلطة الطائفية وجمعيات المجتمع المدني المموّلة من المنظمات الدولية أو السفارات مثل الـUSAID التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، ومحاولات لشقّ الساحة إلى ساحات متناحرة تختلف أهدافها ومطالبها مما يضيع بوصلة الصراع. كما واجهتهم مشاكل داخليّة سعوا لحلّها بالتّنظيم والتّنسيق ومنها مشكلة تمويل الحاجات اللّوجستيّة، فأنشأوا صندوق تبرعات لا يكاد يسدّ حاجاتهم الأساسية. استغلّت السلطة وأعوانها حجّة قطع الطرقات للهجوم على التحرك في عكار، فروّجوا الشائعات ووصفوا المنتفضين بقطّاع الطرق بهدف تأليب الناس عليهم، غير أنّ المنتفضين أكدوا منذ البداية، قولاً وفعلاً، أنّ قرار قطع الطرقات مرتبطٌ بصدور قرار فتح المدارس والجامعات بهدف الضغط على السلطة، فلم يقطعوا طريقاً على فقيرٍ أو مريضٍ أو آليةٍ عسكريةٍ أو حاجات أساسية (مواد غذائية، مشتقات نفطية، أدوية…)، أما بعض التجاوزات التي حصلت وتمّ ضبطها فهي نتيجة طبيعيّة لحماس الشباب الثائر في وجه السلطة الطائفية الفاسدة، واعتذروا من الأهالي عن كلّ التجاوزات التي حصلت، وأكّدوا أنّهم بذلوا ويبذلون قصارى جهدهم لتفاديها عبر التّنظيم الّذي يتبلور يوماً تلو الآخر. كانت انتفاضة الأطراف رافعة الانتفاضة اللبنانية، وحققت مع أبناء المناطق المنتفضة انتصارات عديدة على هذه السلطة الطائفية الفاسدة أبرزها: كسر الحواجز الطائفية الّتي زرعتها السلطة وغذّتها في النّفوس فنزل الجميع معاً ليطالبوا بحقوقهم المنهوبة، كسر الحواجز المناطقيّة التّي أوجدتها هذه السلطة، فهتف ابن عكار لابن الجنوب وابن البقاع لابن طرابلس وابن جبل لبنان لابن الهرمل. وحاولوا إجبار الحكومة التي أرادت خنق الفقراء بالضرائب، على الاستقالة، وهو المطلب الأول الذي تحقق من سلسة المطالب. وكان لاستمرار المنتفضين في عكار الدور الرئيسي في إفشال محاولة السّلطة باللّعب على الوتر الطائفي بعد استقالة الحريري، وهو السيناريو المرسوم لجرّ الشارع إلى الاصطفاف الطائفيّ من جديد بحجّة أنّ الانتفاضة أرادت النّيل من "الموقع السني". بعد سقوط الحكومة، قام المنتفضون بفتح الطرقات المقطوعة وانتقلوا إلى المرحلة التالية من الضغط الشعبي عبر إغلاق الإدارات الرسمية (ما عدا الإدارات الصحية) وخاصةً الإدارات المُخصخصة مثل "أوجيرو" و"ليبان بوست" وشركتي "ألفا" و"أم تي سي"، إضافةً إلى إغلاق المصارف (مع السماح بممارسة الأعمال حسب جدولٍ يسمح للموظفين والمتقاعدين بقبض رواتبهم). والهدف من ذلك توجيه بوصلة الصراع إلى النظام الاقتصاديّ الريعي والمصارف، وهو ما يعتبر ترجمةً لشعار "يسقط حكم المصرف" الّذي رفعه المنتفضون في عكار منذ اليوم الأول. وحول مستقبل الانتفاضة، يواجه المنتفضون في عكار محاولات لحرف الصراع عن أهدافه عبر توجيهه إلى تحركات مطلبية مناطقية، فبدأوا حلقات حوارية يومية في خيمة الاعتصام في حلبا تهدف إلى تشارك الآراء ووجهات النظر وتوعية العكاريين إلى أنّ الحرمان الذي يطالهم على كافة المستويات الصحية والتعليمية والوظيفية والخدماتية إنما هو نتيجةٌ طبيعية لهذا النظام الطائفيّ الزبائني والنظام الاقتصادي الريعي الفاشل، وأنّ حلّ هذه المشاكل لا يكون إلا بحلّ المسببات، أي التخلّص من الطائفية السياسية وإقامة نموذج اقتصادي وطني منتج بدل الاقتصاد الريعي المرتبط بالخارج.

عن أمل غير كاذب من بيروت

 
لم تنسَ بيروت، مثل كلّ المناطق، الاختناق الذي سبّبته الحرائق في منتصف شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر، فالناس وقفوا عاجزين أمام تخاذل مستفزّ للسلطة التي وقفت تتفرّج هازئة بحال الجموع عبر تصريحاتها. لم تخبُ خنقة المواطنين حين أمطرت السماء مساء الثلاثاء في 15 تشرين الأوّل/ أكتوبر، بل زادت وتيرتها مع ضرائب الحكومة التي نزلت كالصاعقة لتضرب المسمار الأخير في النعش، فانتفض الشعب عفويّاً ليطفىء حينها خنقة الحرائق. والتعاون الذي حصل في مناطق الحرائق وتبعه تنسيق من بيروت ومناطق أخرى لأجل تزويد الناس بكافّة احتياجاتهم، و"فتح الناس بيوتهم لناس لا يعرفونهم" قد يكون صورة مصغّرة للمشهد في بيروت بعد 17 تشرين الأوّل. أن تنتظر الناس الوقوف على شرفات المنازل ونوافذها لتقرع الطناجر عند الساعة الثامنة مساء، ولتتناقل الابتسامات والتحيّات مع إيقاع الطناجر، هو الأملُ في بيروت. شيء ما خفيٌّ – وليس مؤامرة- يجمع الناس في الساحات. المشهد جميل على الأرض بين الناس في ساحات بيروت، ولكنّه مختلف حينما نراه من الخارج. ربّما، وبسبب تسارع وتيرة الأحدث والانتقال من يوم أوّل إلى عشرين دون تحليل منطقيّ للأيّام، لسنا قادرين على أن نعي ما حقّقناه في الانتفاضة هذه، ولسنا مدركين كيف بنيت علاقتنا بحيث أصبحنا نعرف وجوه بعضنا نحن الذين أعَدنا أملاكاً سرقوها منّا لتتنقّل فيها أشباح السلطة وداعموها. ووراء الوجوه المتعبة في الساحات، صوتٌ داخليّ فرح بالوجوه الأخرى، صوتٌ يقول: نحنا ما زلنا هنا. ورغم الضياع في الموافقة على خطوات قادمة محدّدة، وفي توقّع ما سيحصل وما ستفاجؤنا فيه السلطة، يبقى ثابت واحد: لا عودة إلى الوراء. كسرت الانتفاضة تراكم سنوات من تبعيّة للسلطة وأحزابها، وفرضت نفسها في الشارع لأكثر من 24 يوما حتّى الآن. الإحباط الآن في بيروت مشروعٌ ومنطقيّ، ولكن لن نترك المصارف تهزمنا. التقلّبات النفسيّة والمزاجيّة، لا تتناقض والإصرار على استمرار الانتفاضة أبدا، بل على العكس هي المكان الوحيد الذي يمكن أن نرتاح فيه قبل العودة إلى الساحة قلبا وقالبا. طلّاب الجامعات والمدارس، التحرّكات التي تنتصر على سلطة النقابة والاتحاد العمالي العام، استرجاع الأملاك العامّة، وجعل ساحتي الشهداء ورياض الصلح ساحاتنا اليوميّة الأكثر حياة، بعد سنوات من وظيفة ساحات لأشباح سوليدير، والصمود بعد كلّ محاولة خبيثة للسلطة، هذه كلّها هي الدعم النفسيّ لنا. سقط كلّ شيء، الآن نعرف كيف نستغل الإحباط أو نضعه في سياق واضح للانتفاضة وأحداثها. المعركة الآن طبقيّة أكثر من أيّ وقت مضى، هكذا تخبرنا المصارف المغلقة، كلّما ظهر رئيس حزب سلطويّ ليحاول التلويح بمعركة طائفيّة. والمعركة طبقيّة وعليها ألا تضعنا في مواجهة مع من نالوا تسمية "زعران" للأسف، مهما حاولت السلطة العمل على ذلك. المعركة الأساسيّة هي أن نصبح فعلا في الخندق ذاته مع شباب الخندق والضاحية والشياح وحي اللجا ومع فقراء جميع أحزاب السلطة أو أولئك المضطرين إلى خوض التبعيّة لكي يضمنوا سلامة أهلهم وعملهم أو تعليمهم. المسألة مسألة وقت ربّما، ولكن الأمل الأكبر ينحصر فيها. يعيش الناس روتينهم اليوميّ المتغيّر في التنقّل بين مرافق الدولة ومساحاتها العامّة وساحات نقاشها دون أن تغيب النبطيّة وصور وطرابلس وعكّار عن تفكيرهم. وهناك في بيروت، حيث السّلطة المركزيّة، ما زلنا مستمرّين في المواجهة. وفي بعض المناطق، حيث وقفوا الناس في وجه الزعماء، لم تجد أحزاب السلطة مخرجاً غير الضرب والتهديد والتكسير حين شعرت بانقلاب شعبيّ عليهم وخسرت شريحة كبيرة من الطبقة الفقيرة والوسطى التي كانت تابعة لهم بسبب الحاجة الماديّة أو اللعب على وتر الدين والعقيدة. شيء ما انكسر هناك، لن نترك له مجالاً ليعودَ كما كان. حتّى تبقى بيروت جميلة، عليها ألّا تتخلّى عن من في ساحة المعركة الحاسمة. لا يغيب عن بال الناس في بيروت الأزمة الماليّة التي تنذر الدولة بها، ولكنهم يعرفون من سببها، ولذلك لن يتركوا الشارع في بيروت. لن تبقى بيروت جميلة إن خلت ساحاتنا وإن تركت أملاكنا العامّة في متناول الطبقة البرجوازيّة وأصحاب النفوذ السلطويّ، وإن لم نستيقظ صباحا لنتوجّه تلقائيّا إلى ساحة الرياض الصلح، أو قصر العدل، أو شركتي الاتصالات أو بحرنا الذي أطلقوا عليه تسميات غريبة مثل "زيتونة باي" و"إيدن باي". ما بعد الانتفاضة، لا نهتمّ بالإحباط والروتين، ما يشغلنا هو كيف ستظلّ بيروت جميلة مثل اليوم.