الثلاثاء، كانون(۱)/ديسمبر 16، 2025

تحديات الانتفاضة وتسارع الانهيار

 
أربعون يوماً والانتفاضة الشعبية مستمرّة، والسلطة السياسية بأطرافها عموماً لم تُقدِم حتى تاريخه على تشكيل حكومة، أية حكومة، لا تكنوقراط ولا تكنوسياسية، ولا حكومة أكثرية. وحتى تاريخه، لم تتجاوب السلطة مع مطالب الانتفاضة بالانخراط فوراً في طريق الإصلاح وإعادة تكوين قواعد السلطة. كما أنّها، بتجاهلها لانتقال الأزمة الاقتصادية والمالية من مرحلة بدايات الانهيار إلى مرحلة الذروة فيها وسط عدم وجود أية حكومة، تحاول نفض يدها والتنصّل من مسؤوليّتها المباشرة عن الجريمة الوطنية الكبرى المتمثّلة في كارثة الانهيار المالي والنقدي الذي يعرّض اللبنانيين للإفقار والبطالة وصولاً إلى المجاعة. إنّ السلطة، بفعلتها هذه، تعمل من دون تردّد على إلقاء تبعات النتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة على عاتق الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، ولا سيّما الفقراء منهم، فتضعهم بشكل قسري أمام خيارين أساسيّين: إما الخضوع لسياساتها أو تعميم الفوضى المحفوفة بالعودة إلى زمن النزاعات الأهلية المدمّرة. وتستقوي السلطة في الحالتين بتبعية نظامها السياسي الطائفي للخارج الذي تعود له الكلمة الفصل في تعيين رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي وكل ما يعود لحيثيّات "الحرية والسيادة والاستقلال". وهذا بالتحديد ما نشهده اليوم من خلال ما يتسرّب من معطيات ومؤشرات عبر قنوات التفاوض مع الطرف الأميركي، على تشكيل حكومة تكنوسياسية تخضع لمواصفاته وتوجيهاته وتعيد تجديد النظام الطائفي المحتضر، بدلاً من الاستجابة لمطالب الانتفاضة الشعبية وطرق أبواب الإصلاح السياسي الذي هو المدخل الفعلي لأيّ إصلاح اقتصادي أو مالي يمكن البناء عليه. هذا مع العلم أنّ تسليم الأوراق للطرف الأميركي، والغربي عموماً، يأتي في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ هذه القوى في المنطقة العربية وخصوصاً في لبنان. إنّ رفض السلطة السياسية اللبنانية تشكيل حكومة انتقالية، وطنية من خارج منظومتها الحاكمة، وبصلاحيات استثنائية بما في ذلك صلاحية التشريع، يثير قلقاً كبيراً في صفوف اللبنانيين حول عدم استرجاع المال والأملاك العامة المنهوبة وعلى عملية إلقاء تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية على الفئات الاجتماعية المسحوقة. وهذا القلق المشروع يعود إلى أنّه من غير المعقول أن تشرّع هذه السلطة قوانين ضدّ مصالحها السياسية والطبقية، وتكشف بشفافية عن المكامن الملموسة لفسادها، الأمر الذي سوف يحمّلها المسؤولية الأساسية عن تفجّر المحنة الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل راهناً كاهل الشعب اللبناني. ويأتي في الإطار ذاته، ما دأبت عليه بعض قوى "المعارضة" السلطوية التي تركب موجة الانتفاضة للتهرّب من تحمّل مسؤولياتها عن الأزمة وارتباطاً بأجنداتها الخارجية، إلى اعتماد اسلوب قطع الطرقات، مدركة أضراره في هذه الظروف على الانتفاضة لجهة حرفها عن أهدافها الوطنية والاجتماعية، بوضع شارع في وجه شارع آخر الذي سرعان ما استجاب وأطلق التهديدات على المنتفضين التي طالت المقاومين في محافظتي الجنوب وبعلبك-الهرمل الذين لم يقطعوا لا طريقاً ولا زاروباً حيث تمّ الاعتداء (المُدان) عليهم في ساحة المطران في بعلبك وساحة الحرية (دوار العلم) في صور وحرق خيمهم للمرة الثانية، في رسالة واضحة إلى الشعب اللبناني مفادها الآتي: "اختاروا أيها اللبنانيون إمّا الموت غير المباشر جوعاً او الموت المباشر قتلاً بالفتنة"، وهو الأمر الذي لطالما دأبت عليه تاريخياً الأطراف المتنفّذة داخل هذه السلطة كلّما تهدّدت مصالحها السياسية والطبقية في مواجهات شعبية كبرى. تلك هي بوصلة الانتفاضة في تجاوز هذه التحديات مقدّمين أحرّ التعازي إلى عائلتيْ شهداء الوطن الذين سقطوا على طريق الجية حسين شلهوب وسناء الجندي. مثل هذا السلوك السلطوي هو الذي يجرّ البلاد دونما شكّ نحو الفوضى ويفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية وازدياد الضغوط الأميركية السافرة والمُدانة، بحسب ما تشير إليه يوماً بعد يوم بيانات السفارة الأميركية والتصريحات المتكرّرة للمسؤولين الأميركيين، وآخرهم فيلتمان، والتي تستوجب المزيد من التصدّي الشعبي لها وإطلاق كل المبادرات المتاحة ضدّها بمختلف أشكال وأساليب الشجب والاستنكار. وهذه التدخلات مرشّحة للتصاعد طالما بقيت السلطة مفتقدة لاستقلاليّة قرارها السيادي، الأمر الذي يتيح لتلك التدخلات توظيف ما يحصل من تطورات في لبنان في خدمة مشاريعها العدوانية المعادية لمصالح الشعب اللبناني ومصالح شعوبنا العربية. وهذا ما ينطوي على أخطار ينبغي التصدّي لها ولأدواتها الداخلية من قِبل كل القوى الديمقراطية والهيئات واللجان الشعبية المنخرطة في الانتفاضة.أربعون يوماً مضت على الانتفاضة الشعبية، والسلطة لم تحرّك ساكناً لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي انتقلت مظاهرها من مرحلة بدايات الانهيار باتّجاه مرحلة الذروة فيها. وتهدف السلطة من خلال تجاهلها للواقع الاقتصادي والاجتماعي المأساوي، إلى إرباك الانتفاضة وضربها واجتثاث ما حملته من معانٍ ودلالات عميقة سوف تبقى راسخة في الحاضر والمستقبل. أمّا أبرز مظاهر التسارع في هذا الانهيار فتتمثّل في الآتي: • بلوغ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار ( دولار مقابل 2000 ل.ل) والحبل على الجرار، ما يعني تهديد القوة الشرائية للرواتب والأجور والتعويضات ومعاشات التقاعد، حيث لم يعد بالإمكان توفير الحاجات الضرورية للعاملين الذين يتقاضون مداخيل بالليرة اللبنانية. • اتساع ظاهرة الفقر والعوز والجوع لا سيّما لدى المُعطّلين عن العمل والمهمشين الذين بالأساس لا أجور أو مداخيل لديهم إضافة إلى المياومين وعموم المواطنين الذين يفتقدون إلى الضمانات الاجتماعية. • ازدياد خطر تبخّر قيمة تعويضات صندوق نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي وسائر الصناديق الضامنة، لا سيّما إذا ما تم إقرار مشروع قانون ضمان الشيخوخة الحالي الذي لا تزال معظم مرتكزاته موضع جدل وتباين. • احتمال التوقف عن دفع أجور العاملين في المصانع والمتاجر والمؤسسات بسبب الإقفال والصرف الكيفي. • ازدياد القيود المنفذة في المصارف على الودائع والتحويلات، حيث يعجز أصحابها عن سحبها أو الحصول عليها أو تحويلها كما يريدون لتسيير أعمالهم وصرف أجور موظفيهم جراء تفرد المصارف في تقرير العلاقة مع المودعين والمقترضين بمعزل عن الدولة، كما هو واقع الحال راهناً. • وصول تأثير الانهيار المالي إلى السلع والمواد الأساسية المستوردة بالدولار من الخارج نتيجة القيود المفروضة على التحويلات بالدولار، حيث أنّ بعض السلع بدأت تُفقَد من الأسواق والمستشفيات أعلنت أنّ احتياطاتها من المعدات الطبية تتضاءل بشكل سريع. • التصاعد المريع في معدلات البطالة والارتفاع غير المسبوق في الديون المشكوك في تحصيلها من المؤسسات المتعثرة والمفلسة. • تفاقم مشكلة السكن جراء تحرير جزء كبير من عقود الإيجارات بالدولار في حين أنّ أجور ومداخيل معظم المستأجرين هي بالليرة، مع تسجيل ندرة متزايدة للدولار الأميركي في الأسواق المحلية. إن العجز المتمادي للسلطة السياسية عن فرض الآليات والاجراءات التي يجب القيام بها لفرض التعامل بالليرة اللبنانية – بدلا من الدولار - في عمليات الشراء والبيع في الأسواق الداخلية، وسط استمرار عدم الاستقرار في أسعار الصرف.إزاء ما يحصل على المسارات كافة، فإنّ قوى الانتفاضة مطالبة بالانتقال إلى مرحلة تصعيدية جديدة، بدءاً من توسيع دائرة الحوار المتعلق بالانتفاضة الذي استهلّته الورشة الحوارية حول المرحلة الانتقالية وبرنامجها، مروراً بتوسيع وبلورة إطار المواجهة الشعبية وتصعيد أشكالها، ضمن خطة تحركات تصعيدية متدرجة وصولاً إلى إعلان العصيان المدني. وهذا يشمل أيضاً التوجّه إلى المتضررين -الذين دفعوا ويدفعون وسيدفعون أكثر فأكثر تكاليف الانهيار فقراً وبطالة وهجرة- كي يشبكوا الأيادي ويوحّدوا الصفوف منعاً للفوضى والفتنة ووقوفاً بوجه التدخلات الخارجية وأدواتها السلطوية وحيتان المال، وكذلك بوجه محاولات بيع ما تبقّى من مؤسسات للدولة تحت شعار كاذب ومخادع هو تنفيذ ما يُسمّى "الورقة الإصلاحية"، مع ما تتضمّنه من خصخصة للمرفأ والمطار والاتصالات والمرافئ وشركة طيران الشرق الأوسط والكازينو وغيرها وتعميم التعاقد الوظيفي وضرب نظام التقاعد. إنّ أية حكومة يُراد تشكيلها يجب أن لا تعيد إنتاج السلطة السياسية عينها ما سيزيد الأزمة السياسية والاجتماعية تفاقماً بينما المطلوب حكومة انتقالية وطنية قادرة على التصدّي للتدخلات الخارجية والضغوط الأميركية وتقديم حلول ملموسة لكلّ ما تقدّم من مخاطر حول مظاهر الانهيار المالي والنقدي والاجتماعي، وفي أولوية برنامجها مسألتان أساسيّتان: أوّلاً، رؤيتها لبرنامج المرحلة الانتقالية، وفي مقدّمها: إقرار قانون للانتخابات النيابية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي (المادة 22 من الدستور)؛ وتحديد طرق استرداد الأموال العامة المنهوبة؛ وتأسيس نظام ضريبي تصاعدي يطال المداخيل والأرباح والثروات والريوع الكبيرة؛ وابتداع إجراءات مفصلية تتيح إعادة هيكلة مكوّنات القطاع العام، لا سيّما المؤسسات العامة والمصالح المستقلة. ثانياً، معالجة مظاهر الانهيار المالي والنقدي بما يؤمّن الحماية الاجتماعية بشكل أساسي للعمال والأجراء والموظفين والفئات الدنيا الفقيرة والمتوسطة، ليُصار إلى تركيز الإجراءات على الفئات التي استفادت بالدرجة الأولى من سياسات الحكم واستحوذت على الريوع والفوائد والأرباح وشاركت في نهب المال العام.  

التغيير الجذري يغلق أبواب التدخل الخارجي

يلعب العم سام لعبته المفضلة اليوم. استغلال المتغيرات والتناقضات الداخلية القائمة، ومحاولة التأثير عليها لاستثمارها في حسابات مصالحه السياسية. الكونغرس الأميركي يناقش في جلسات علنية التطورات في لبنان. تبرز تناقضات بين أعضائه حول ماهية الوسائل الأفضل لاستثمار الانتفاضة الشعبية. يقول فريق منهم أنّه من الضروري وقف دعم الجيش وتضييق الخناق حتى يستسلم الجميع للضغوطات والشروط المطلوبة، فيما يقول فريق آخر أنّه من الهام جداً تقديم حزمة مساعدات للجيش، لتصوير أميركا أنها تريد الخير للبنان وشعبه، من أجل كسب ثقته، والدفع قدماً بحلفائها على قاعدة وعود بالإنقاذ الاقتصادي إذا استجاب اللبنانيون للضغوط. وحجة الفريق الثاني أنّ الانهيار الشامل سوف يفتح المجال أمام القوى المناوئة إقليميّاً ودوليّاً للدخول وملء الفراغ وكسب لبنان في صفّهم. ومن ضمن جلسات النقاش والاستماع تقدم جيفري فيلتمان، السفير السابق في لبنان، برأيه أمام الكونغرس، وهو من مؤيدي وجهة النظر الثانية. وعلى ما يبدو أن الاتجاه العام للإدارة الأميركية سينحو في هذا الاتجاه خاصة أن مواقف وزراء الخارجية والدفاع أقرب اليوم إلى هذا الرأي. نقول للأميركيين أن انتفاضتنا ترفضهم وتلفظهم، وأنّنا هبينا إلى الشارع ضد هذا النظام الطائفي وسياساته الاقتصادية الريعية التي أوصلت البلاد إلى نفق الانهيار لا لنفتح لهم باب التدخل، بل على العكس تماماً، لنوصده بوجههم بكل ما أوتينا من قوّة. إن الظروف مؤاتية اليوم لتحقيق تغيير جذري في بنية نظامنا التابع للامبريالية في السياسة كما في الاقتصاد، وبدء مسار بناء دولة علمانية ديمقراطية مقاومة، تحقق سيادة بلدنا واستقلاله الحقيقيين، وتبني اقتصاداً منتجاً لا يمكن إخضاعه لإملاءات السفارات والصناديق ولا لمصالح الريوع وكبار الرأسماليين كما هو الواقع اليوم بقيادة أحزاب السلطة الحاكمة. فمشروعنا للتغيير السياسي، هو هو طريقنا إلى التحرر الوطني. فلتفتح أبواب التغيير لتغلق معها أبواب التدخل الخارجي.

بنت جبيل لن تكون ساحة للترهيب

 
مسارات الأحداث والتطوّرات المرتقبة خلال المرحلة القادمة ستحدّدها الخيارات والثوابت التي فرضتها انتقاضة الشعب اللبناني في السابع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الحالي. أيضاً لا بد من الإقرار والاعتراف من قبل الجميع على السواء بأن هناك معادلة استجدّت على الساحة اللبنانية وهي تعبّر بشكل واضح وصريح أن ما بعد هذه الانتفاضة لن يكون كما قبله. والمفاجأة الكبرى في هذا السياق تمثّلت بكسر حاجز الرعب والتخويف الذي فرضته آلة القمع والترهيب لدى كافة أطراف السلطة الفاسدة المتعاقبة على سدة الحكم على مدى عشرات السنين. فشرعت الأبواب الموصودة وانتفضت جموع المواطنين التواقة للحرية والانعتاق من سجون الكانتونات الطائفية، وبادرت إلى مغادرة طوابير المذهبية لتقدم الصورة الحقيقية والنموذجية للشعب اللبناني بإصراره غيرالمسبوق على التمسك بالوحدة الوطنية وإظهار إرادته الصلبة في مواجهة زعماء الحرب الذين لم يتركوا وسيلة إلّا واستخدموها في سبيل النيل من وحدة هذا الشعب وتفتيته على قاعدة "فرّق تسد". ومن جهة أخرى بدأت منجزات الانتفاضة تتجلّى تباعاً وقد تبدّلت موازين القوى لصالح الشعب اللبناني بدءاً بإسقاط الحكومة وبفتح ملفات الحكام وفضح صفقاتهم التي تفيض بالفساد والسمسرات أمام محكمة الشعب لمساءلتهم ومحاسبتهم وتحميلهم تبعات ما ارتكبوه من جرائم بحق الشعب والوطن من خلال تخريب مؤسسات الدولة مروراً بتدمير الاقتصاد وانتهاءً بالسطو على الثروات ونهب المال العام. هذه الطبقة الحاكمة استأثرت بجميع مفاصل الدولة، مستغلة كل ما يناسبها من بنود اتفاق الطائف لتأمين هيمنتها المطلقة وتعميم نفوذها ليشمل كافة المناطق اللبنانية عبر أزلام أحزاب السلطة وميليشياتها. وعليه فإن الحديث عن خصوصيات المناطق الخاضعة لسلطة القوى الطائفية، أمر يستدعي الحذر والحسبان لكثير من ردات الفعل التي قد تحصل من قبل تلك الأطراف التي اعتادت التعالي فوق القوانين لتفرض قوانينها الميليشياوية مستندةً إلى عوامل عدة، وفي طليعتها إخضاع الناس وتقديم الولاء لقاء ضمان المنفعة الشخصية، الأمر الذي أتاح لها تأمين حاضنة شعبية المرتكزة على الزبائنية والمحسوبية. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فإن ما جرى في مدينة بنت جبيل وقرى القضاء التابع لها، بنظر الجهات النافذة، ينذر بخطر داهم ويشكّل خروجاً عن القاعدة وتمرّداً على المألوف. ولأنّه يمثل، بحسب الجهات نفسها، تخريباً للسلم الأهلي وتعرّضاً لأمن المنطقة وللمقاومة... ولأن ما جرى، حسب اعتباراتهم، نكرانٌ للجميل. يستخدم هؤلاء النافذين هذه المقولات تبريراً لما جرى من تعديات وافتراءات طالت المتظاهرين أمام سرايا بنت جبيل. فيما أن حقيقة الأمر كان ممارسة أبسط وأدنى أشكال الاحتجاج وتحت سقف ادّعاءاتهم بكثير وتحت سقف القانون وبمواكبة القوى الأمنية وبطرق سلمية من قبل مواطنين يعانون الأمرّين، والذين نزلوا إلى الساحات وتظاهروا ضد سياسات السلطة. ألا يكفيهم ما تحمّلوه من وطأة الاحتلال على مدى عقود من الزمن؟ وهل يُعقل أن تبقى لعنة المعاناة مرافقة لهم وهم من بذلوا الغالي والنفيس من أجل التحرير للخلاص من إذلال الاحتلال والعودة إلى حضن الوطن وكنف الدولة العادلة؟ تظاهر أهل بنت جبيل والقرى المجاورة بعدما مارست السلطة وميليشياتها شتّى أنواع الذل وارتهان الكرامات بحق الجنوبيين. والأغلبية الساحقة من السكان المقيمين في قرى منطقة بنت جبيل هم من مزارعي التبغ الذين لم تكترث السلطة لهمومهم يوماً بل انحازت إلى جانب شركة الريجي في احتكاراتها وأمّنت لإدارتها الفضاء اللازم للاستمرار في نهب المزارعين وسرقة محاصيلهم، ونكران كافة حقوقهم في زيادة الأسعار أو الضمان أو دعم تسليفات القروض. أما الحق في العمل، فحدّث ولا حرج، حيث باتت الوظيفة حكراً على المحسوبيات. والدخول الى المستشفى يلزمه موافقة المراجع ودورة العمل في إطار المهن الحرة هي أيضاً تخضع لسياسة الاحتكار. وهذا ما يطرح عدة تساؤلات لدى المواطنين. هل يا ترى نزول هؤلاء المواطنين بمختلف أوضاعهم وظروفهم الاجتماعية للتظاهر والاعتصام والاحتجاج سواء في ساحات بنت جبيل أم سواها أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل نزول المزارعين للاعتصام أمام مكاتب الريجي للتذكير بمطالبهم المزمنة والمشروعة، أمراً "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل اعتصام الشباب وحاملي الشهادات المُعطّلين عن العمل للمطالبة بفرص العمل أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل التظاهر للمطالبة بتطبيق القوانين ومحاسبة الفاسدين وناهبي المال العام، أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! وهل استخدام مكبّرات الصوت للهتاف ضدّ الجوع والفقر ورفع الظلم أصبح "منكراً" ويسيء للمقاومة؟! لتلك الأسباب كانت الانتفاضة في بنت جبيل وفي كل الساحات، لتلك الأسباب نزل المواطنون إلى الشوارع، سلاحهم النشيد الوطني ورايتهم العلم اللبناني، ومن أجل ذلك نحن باقون في الساحات حتى سقوط منظومة الفساد التي أوصلت الوطن إلى شفير الهاوية والاقتصاد الى درجة الإفلاس والانهيار بكامل مكوّناتها وتحميلها المسؤولية.  

من بين الرّعب والفرح، تفجّرت ثورة صور

كانت البداية عفوية غير مخطّط لها مسبقاً حين انتفض الشباب والشابات. تجمّعوا على ساحة العلم، بدعوة سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي في 17 تشرين الأول/ أكتوبر تزامناً مع اندلاع الانتفاضة الشعبية في بيروت. جالت التظاهرة ليلاً من ساحة المدينة إلى السراي الحكومي وإلى مكاتب نواب في صور تحمل شعارات أسقطت "وهرة" كل زعيم سياسي في لبنان. كلمة حرامي طالت جميع نواب لبنان وعلى رأسهم "نواب صور". استُكمِلت التظاهرات في يومها الثاني، من مصرف لبنان إلى "استراحة صور"، المنتجع المتعدي على الأملاك البحرية، والذي تشير المعطيات المتوفرة إلى أنّه مملوك من قبل رنده بري. فتم حرقه وتكسيره من قبل بعض المتظاهرين وأغلبهم من موظفي الاستراحة وموالين للسلطة وبعضهم ما زال قيد التوقيف من قبل الأجهزة الأمنية. تزامناً مع هذه التظاهرة، اعتصم آخرون على مفرق العباسية فقطعوا الطريق وحرقوا صور رئيس مجلس النواب نبيه بري ووضعوا الخيم وبدأوا اعتصامهم هناك. وفي اليوم الثالث من الانتفاضة، دعوا لتظاهرة منظمة سلمية أكدوا فيها على عدم استعمال الشتائم، واستخدموا فيها هتاف "كلن يعني كلن" و"تسقط سلطة رأس المال"، فكان "بلطجية" السلطة لهم بالمرصاد من كل حدب وصوب، لا يفرّقون بين نساء ورجال وشباب وأطفال، فانهالوا ضرباً على المعتصمين على مرأى الجيش اللبناني. ونتيجة للضرب المبرح الذي تعرّضوا له، عاد معظم المعتصمين إلى بيوتهم، والبعض الآخر لم يتمكّن من الوصول إلى التظاهرة. لكنّ شباب صور المستقلين والشباب المنتمين إلى قطاع الشباب والطلاب في الحزب الشيوعي أصرّوا على استمرار التظاهرات في شارع "أبو ديب" في قلب المدينة، ولكن تمّ قمعهم بقوة السلاح من قبل ميليشيات السلطة وعلى مرأى الجيش أيضاً ومن دون لا حسيب ولا رقيب. وقد انتشر تسجيلٌ مصوّر للحادثة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تظهر أنّ "البلطجية" والقوى الأمنية، على حدٍّ سواء، في خدمة السلطة. فأتى الردّ سريعاً من قبل الثوار الذين نزلوا مجدّداً إلى الشوارع وتضاعفت أعداد المعتصمين تباعاً. فكان الاعتصام المفتوح في ساحة العلم، حيث أقيمت الحوارات المفتوحة وعلَتْ الهتافات المطلبية وأصوات الأغاني الثورية. كما أُعيد إقفال طريق العباسية ووضعت الخيم على الشارع العام من جديد. وانضمّ إلى ساحات الاعتصام عدد من المنتديات المستقلة والجمعيات النسائية. ولم تغب حقوق المرأة من بين الشعارات المطلبية، التي رفعت في ساحات الاعتصام، ومنها حق المرأة في منح جنسيتها لأولادها. وكما كان متوّقعاً، سلطة الأمر الواقع لم تستسلم، بل استكملت استخدام أساليب "البلطجة" والتهديد وعمدت إلى الضغط على أرباب العمل وتهديد الموظفين بالفصل في حال المشاركة في التظاهرات الشعبية. وبعض المتظاهرين تمّ طردهم من عملهم بشكل تعسفي. هذا بالإضافة إلى عمد البعض، بالقوّة والترهيب، على إجبار كلّ من شتم سياسيّي السلطة الحاكمة على تسجيل اعتذارٍ مصوّر. كلّ ذلك أدّى إلى انسحاب الكثير من المعتصمين من ساحات الاعتصام للحفاظ على وظائفهم وسلامتهم وسلامة عائلاتهم. ونتيجةً لهذا التهديد، وتجنّباً لأي افتعال للمشاكل من قبل قوى السلطة، فُتِحت الطرقات، وانضمّ ثوار المنطقة إلى ساحة العلم في صور. وقد تعاطفت جميع المناطق اللبنانية، كما اللبنانيون في الخارج، مع منتفضي صور وهتفوا "صور صور صور كرمالك بدنا نثور". لم ينتفِ الخطر الأمني نهائيّاً عن المعتصمين، فهم معرّضون للاعتداء في أي مكان وزمان. ولا بدّ لنا أن نحيي أبطال مجهولون حملوا أكفانهم على أيديهم، وناموا في خيم الاعتصام للتأكيد على استمرار الانتفاضة من صور إلى كل لبنان. لا يعرفون معنى الاستسلام ويقولون، ليس لدينا ما نخسره، فكلّ ما لدينا هو هذه الانتفاضة الشعبية، لأنها أملنا الوحيد: إما أن تنجح انتفاضتنا أونهجر بلادنا التي نحبّ. المفارقة هنا أننا لو عُدْنا إلى اليومين الأولين من الاعتصام، عندما شتم المنتفضون زعماء الجنوب بالأسماء وحرقوا الصور وقطعوا الطرقات وجالوا في التظاهرة على السراي في صور والمناطق المناصرة بشدّة لحركة أمل وحزب الله، لم يظهر البلطجيون في حينه، وغاب المناصرون، ولاذوا بصمت عميق. هل كان صمتهم علامة الرضا؟ جاء الهجوم الشرس من قبل البلطجية المسلحة في اليوم الثالث لإعادة إثبات نفوذهم بالقوة، بعد أن تمّ شحنهم وتجميع قواهم من قبل قيادتهم، ليقولوا نحن هنا، ليس فقط لترويع المعتصمين، بل لتخويف المناصرين أوّلاً. هم يعرفون أنّ هناك جمهوراً كبيراً مؤيّداً للانتفاضة الشعبية في مدينة صور، يلتزم بعضهم الصمت، وبعضهم من يدعم بإطلاق "أبواق" سياراتهم عند مرورهم جنب الاعتصام، كإشارة لتأييد معنوي من بعيد. بين الشيوخ والنساء والشباب، ومن بين الرعب والفرح المتّحدين في قلوبنا، تستمر صور في انتفاضتها المتينة كشجرة النخيل الشامخة فوق رؤوس المعتصمين في ساحة العلم التي تستمر كمساحة للنقاش والفنّ والثقافة، ومنبراً للانتفاضة وللتضحيات في سبيل التغيير.

من جل الديب إلى جبيل: نحن في الاعتصام، فانضموا إلينا!

 
منذ بدء الانتفاضة في السابع عشر من الشهر الفائت، بدأ المواطنين اعتصامهم في جل الديب، حيث أقفِل مسار واحد من الأوتوستراد تماماً بالسيارات وتحوّل إلى ما يشبه الموقف العام. أمّا الجهة الأخرى، أي المسلك المؤدّي من جونية إلى بيروت، اعتصم فيه المحتجّون بلحمهم الحي حيث جلسوا أرضاً، وكان اعتصامهم اليومي. وأصبح هتاف "سلمية سلمية" الشعار المعتمد في كلّ مرة يحاول فيها الجيش اللبناني بالقوة فتح الطريق في أوقات متأخرة من الليل أو عند الصباح الباكر. وكلّما استطاع جنود الجيش فتحها، كان يهبّ بعض المعتصمين لقرع أجراس الكنائس في المنطقة بشكل كثيف، فتهرع الناس لإقفال الشارع من جديد. ومن أبهى ما كرّسته هذه الانتفاضة هو نبذ الطائفية على امتداد ساحات الاعتصام في أرجاء الوطن. وفي جل الديب، هتف المعتصمون تضامناً مع كل المناطق من الجنوب إلى الشمال. وصدحت حناجر المعتصمين بعدة هتافات، أبرزها "كلن يعني كلن" و"يا حكومة فلّي فلّي عيّشتينا بالقلة"، وسط انتشار كثيف للأعلام اللبنانية التي رفرفت عالياً أو رُسِمت على وجوه المعتصمين، كباراً وصغاراً. اتهامات المغرضين التي ظهرت منذ اليوم الأول للانتفاضة وتكثّفت تباعاً باتهامات التمويل والتبعية للسفارات شكَلت استياءً كبيراً لدى المعتصمين في جل الديب. وحضور الناس الكثيف فاجأ الجميع، كما أثار الشكوك لدى البعض بتبعية المعتصمين لأحزابٍ من السلطة، إلّا أنّ معظم المشاركين كانوا فعليّاً من المستقلين، ومن مناصري بعض الأحزاب الذين انتفضوا على أحزابهم، وآخرين من شريحة علمانية وقوى يسارية كان حضورها الأكثر خجلاً. اعتصام جل الديب كان مشابهاً لباقي الاعتصامات في لبنان، تجد فيه من كل الفئات العمرية، وكان حضور الشباب لافتاً فيه، وأعداد المعتصمين كانت مفاجئة إذ أنّها تجاوزت الخمسة آلاف مواطن. ومعظم المعتصمين، أثبتوا استقلالية اعتصامهم عبر هتافاتهم المطلبيّة، وهم ممّن كانوا فاقدي الأمل في أي تغيير ممكن وكانوا يبحثون عن مستقبلهم خارج لبنان، وما إن هبّت الانتفاضة حتى شكّلت لهم فسحة أمل للمستقبل، وكانت المرّة الأولى التي ينزلون فيها إلى الشوارع للتظاهر. وفي جلّ الديب، أيضاً، كان حضور الطبقة الوسطى جليّاً، ليدلّ على فشل السلطة في تأمين حقوق حتى للبعض من ميسوري الحال. يقولون أن السلطة لم تترك لهم حتى هواءً نظيفاً ويشكون من الوضع البيئي الخطير الذي يترافق مع تلوث الهواء والمياه والتربة ويسبب الأمراض المميتة. معظم هؤلاء ممّن سافر أبناؤهم إلى الخارج للبحث عن العيش الكريم في بيئة سليمة. يعتصمون آملين ببناء وطن كي لا يُجبروا على الهجرة. يشتكي كثير من المعتصمين من تردّي البنية التحتية وزحمة السير الخانقة في هذه المنطقة وعدم الاستقرار الذي يعيق أدني المتطلبات الحياتيّة. استمرّ الاعتصام في جل الديب إلى أن عمد الجيش على فتح الطريق وفك الاعتصام وإزالة المنصة والصوتيات وجميع الخيم. رفع أهالي جل الديب اعتصامهم هناك لكنهم مستمرون في مطالبهم تزامناً مع باقي التحركات الشعبية. أما منطقة الذوق فشهدت منذ بدء الانتفاضة حضوراً لافتاً لأحزاب السلطة السياسية، ولكن المستقلّين عن أحزاب السلطة فرضوا وجودهم هناك، حاملين الشعارات والمطالب المحقة مثل باقي المناطق، واستطاعوا من خلالها التمايز وإثبات استقلالية حراكهم. استمرّ المتظاهرون بالتوافد إلى مكان الاعتصام على الطريق العام، إلى أن فُتحت الطريق بعد مواجهة عنيفة مع الجيش في صباح نهار الاثنين في الرابع من الشهر الجاري. وهذا الأمر لم يثنِ المعتصمون عن استكمال تحرّكاتهم، فخرجت التظاهرات الطلابية واستكمل المعتصمون تحرّكاتهم عبر إقفال المرافق العامة، مؤكدين على أنّ لا ثقة بهذه السلطة. في مدينة جبيل، كانت بداية الانتفاضة مع تسكير الطرقات من قبل مستقلين ويساريين وشيوعيين، وبعض مناصري السلطة الذين سعوا لإثبات وجودهم، مثل معظم المناطق، بغية تحقيق مكتسبات سياسية على حساب الناس المنتفضين. وضعوا المنتفضون الخيم في ساحة الاعتصام في أولى أيام الانتفاضة وأخذ الاعتصام يأخذ موقعه الصحيح من خلال هتافات المطالب المعيشية وحلقات حوارية. وعمد المعتصمون (من خارج أحزاب السلطة) إلى التنسيق في ما بينهم وشكّلوا مجموعات عمل ميدانية للتنظيم طوال الفترة الأولى. وبعد فتح الطرقات نظموا عدة وقفات أمام السراي في جبيل ومصرف لبنان وشركة "أوجيرو" وما زالوا مستمرين من خلال جلسات النقاش والندوات التي يقيمونها في ساحة البلدية. اللافت في هذه المناطق، كما كل أرجاء الوطن، أنّ التظاهر أصبح جزءاً من أسلوب حياة اللبنانيين. طالبوا باستقالة الحكومة وهذا ما حصل. ويطالبون الآن بتشكيل حكومة مستقلة وطنية من خارج قوى السلطة ذات صلاحيات تشريعية استثنائية للحكومة لوضع خطة انقاذ اقتصادية، وصياغة قانون انتخاب نسبي خارج القيد الطائفي، لتتم الدعوة على أساسه لانتخابات مبكرة. وفي حين أن آخرين يطالبون بحكومة تكنوقراط ، خطأً أو خبثاً، لأهداف واضحة، لا ثقة في أي اصلاح تضعه السلطة الحالية، فنحن لن نسامح ولن نقبل بسياسات الاستغلال والإفقار وبإعادة إنتاج سلطة عاجزة أشبعتنا خطابات كاذبة لم ينفذ منها حرف واحد، بعد أن بات اللبنانيون يسكنون في بيت واحد وهو ساحات الوطن المنتفضة، طامحين بسقف العيش الكريم لكل المواطنين.