الأربعاء، أيار 14، 2025

الانتفاضة في طرابلس: ضدّ الطائفية، والتبعية والطبقية

 
"أم الفقير" لقب عرفت به مدينة طرابلس التي صُنّفت أفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسّط. هي نفسها المدينة التي أُقحِمت بنزاعات سياسية لا ذنب لها فيها فشهدت 22 جولة معارك تسببت بلقب جديد "قندهار لبنان".مدينة طرابلس كما نعرفها في كتب التاريخ، مدينة صناعية، أمّا في الواقع، هناك غياب تام لهذا القطاع عنها، الأمر الذي أدّى إلى انتشار البطالة فيها بشكل كبير، في حين تتفنّن السّلطة في "تشحيد" أبنائها قطرات من الأموال في مواسم الانتخابات مستغلّة الفقر المدقع الذي يعانون منه. طرابلس الفيحاء التي اشتهرت برائحة الليمون تفوح في أرجائها، استعاضوا عنها برائحة النفايات التي غزت المدينة بجبل نفايات يبلغ علوّه 37 متراً، والأخطر أنّ هناك توجّهاً لاستحداث "جبل" جديد. كلّ ما سبق ليس إلّا دافعاً لينتفض الشّعب الطّرابلسي، ويعطي درساً في الثّورة الحقيقيّة الّتي انبثقت في 17 تشرين الأوّل. وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على انتفاضة الشعب، وجّهت طرابلس البوصلة نحو المصارف وذلك لأن شعبها المتهم بعدم وعيه السياسي أدرك وبكلّ وعي أنّ صلب أزمة الانهيار الاقتصادي يدور في فلك المصارف ولا سيّما مصرف لبنان وهندساته المالية، فكان الهدف الرّئيس للثّوار الاعتصام أمام مصرف لبنان وإقفاله. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أخذ المتظاهرون يجولون شوارع طرابلس وتوقّفوا أمام كلّ مصرف، هاتفين "سكروا سكروا". وأعلن أهل طرابلس الإضراب العام والعصيان المدني من خلال إغلاق جميع الدّوائر الرسمية والمصارف والمرافق العامة. تبلور الوعي بسرعة هائلة خلال هذه الانتفاضة، بنبذ طرابلس للطّائفية وهي المتّهمة بالتّقوقع المذهبيّ فأظهرت وجهها الآخر الحقيقي، لتهتف لكل أرجاء الوطن المنتفض، لتصدح آلاف الحناجر من طرابلس بشعارات مثل "صور صور صور كرمالك بدنا نثور" و"من طرابلس للنّبطية معركتنا طبقيّة". ولا يُخفى على أحد أن ساحات وشوارع المدينة شهدت محاولات عدّة من قبل السلطة وأحزابها للتّدخل وخرق الانتفاضة. ففي اليوم الثاني منها، تلوّنت أرض ساحة النور بدماء شبابها بعد دخول سيارة تابعة للنائب السابق مصباح الأحدب وهو بداخلها، بهدف الانضمام إلى الشعب والادّعاء بأنّه يشارك أبناء المدينة وجعهم. لم تمرّ هذه المسرحية على الشعب الطرابلسي الذّي هتف لخروج الأحدب من بين المتظاهرين، فجاء ردّ مرافقي الأخير بإطلاق النار على الثوار العزّل. أدّت هذه الجريمة الموصوفة بحقّ الطرابلسيين إلى حالة من الغضب، اتجه على إثرها مجموعات كبيرة نحو شركة خاصّة للاحدب ونحو منزله وأضرموا النار فيهما. في الواقع، لقّن الطرابلسيون السلطة درساً في يومهم الثاني في ساحة النور، فأكّدوا أنهم لن يسمحوا لأيٍّ كان بالتّسلق على ثورتهم وانتفاضتهم، الأمر الذي دفع إلى نزول حوالي ٧٠ ألف مواطناً إلى الساحات، التي ما زالت تحتشد كلّ يوم بالمنتفضين وبشكل متواصل. والسّلطة اللبنانية، من جهتها، دائماً تتفوّق على نفسها في ارتكاب المزيد والمزيد من الهرطقات، فبعد استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، حاول منتسبو حزبه وأنصاره اختراق الساحات والتواجد بين الناس كحزب سلطة، محاولاً كسب الشّارع الطرابلسي من جديد، إلا أنّ الطرابلسيين، وللمرّة الثانية على التّوالي، أظهروا وعيهم في إدراك ألاعيب السّلطة، ولم يسمحوا لهم بتشويه المطالب المحقة أو التخريب. من جهة أخرى، لا يمكن حصر محاولات إفشال الانتفاضة بأحزاب السّلطة فقط، فللأجهزة الأمنية حضورٌ بارز بين ثوار طرابلس، فهي تحاول السيطرة على مكبّرات الصوت في الساحة وتوجيه الناس نحو نعرات طائفية والتصويب السياسي فقط نحو العهد. إلّا أن أهل طرابلس مدركون أنّ الازمة لا تتمحور نحو العهد فقط، بل حول النظام الطائفي الذي كرّس ميليشيات الحرب الأهلية في لبنان وطرابلس. وقد صرخ أهل طرابلس في يوم انتفاضتهم الثالث في ساحة ثورتهم "الحرب الأهليّة انتهت في ١٧ تشرين!". هذا بالإضافة إلى "المهرجان الفني" الذي تحاول زرعه الأجهزة الأمنية لتشتيت مطالب الانتفاضة، والذي شكّل استياءً وامتعاضاً لدى معظم المنتفضين من طلاب وعمال ومُعطّلين عن العمل. ولا شكّ أنّ العمل على الأرض مع الناس لتوجيه الخطاب السياسي شكّل تحديّاً كبيراً لهم، إلّا أنّهم عمِلوا جاهداً على التنسيق في ما بينهم وقاموا بتنظيم مسيرات وحوارات وحلقات نقاشية تهدف إلى توجيه المطالب وتسيطر على هذا التشتيت الممنهج الذي تعمل السلطة على خلقه. يبقى الأمل في هؤلاء الطلاب والعمال الذين تواجدوا في الساحات ولا يزالون في الواجهة، مستمرّين في مطالبهم، في ظل غياب الاتحادات الطلابية والنقابات الفعّالة المستقلة عن أحزاب السلطة."عمّال وفلاحين وطلبة" يعملون ليلاً ونهاراً لاغتنام هذه الفرصة الذهبية لخلق تغيير فعلي وواقعي من خلال انتفاضة ١٧ أكتوبر.

انتفاضة النبطية، قلب الجنوب وقلب لبنان

 
في 17 تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت النبطية كباقي المناطق أنها من وفي قلب الوطن. يتصل صديق لي ويقول: " عكفرمان يلا الناس كتار ورايحين عقلب النبطية". وصلت إلى دوار كفرمان والناس في حالة من الهلع تركض نحو النبطية. أوقفوا حركة السير، قطعوا الطرقات بمستوعبات كبيرة.يزداد عدد المتظاهرين شيئا فشيئاً، فيعلو صوت واحد: "الشعب يريد إسقاط النظام!". وصلنا إلى السراي في النبطية التي غصّت بأصوات الجموع تردد الجملة عينها. النبطية بحيثياتها السياسية والاجتماعية والتي تميل إلى الثنائي الشيعي كأكثرية واضحة، وصورتها الدينية البحتة، لم تجعلنا نتوقع يوماً مشاركة هذا الكم الهائل من فئات لا يمكن لشيوعيي أنصار وكفرمان وبلدات المنطقة حشدها. جاب المتظاهرون في الليالي الأولى للانتفاضة شوارع النبطية وبيوت نوابها، حيث أن ضغط الشارع كان كفيلاً بحرق لوحات مكاتب النواب. إرباك حتى الصباح في النبطية، وأعداد هائلة للقوى الأمنية واستمرار المعتصمين بين دوار كفرمان والنبطية وإقفال الطرق. في اليوم الثاني للانتفاضة، اقتلع المتظاهرون "البارك ميترز" والأعداد في تزايد مستمر حتى منتصف الليل، قبل هجوم بلطجية قوى الأمر الواقع وفتح الساحة. لم تنتهِ الأمور هنا فحسب، بل في يوم ٢٣ تشرين عمدت البلدية إلى شنّ هجوم منسق ضمّ أفراداً من بلدية النبطية ومحازبين لحركة امل وحزب الله وانهالوا على المتظاهرين ضرباً بالعصي، بطريقة وحشية بهدف فضّ الساحة أمام السراي حتى وصول الجيش ليقف بين الشارعين.هذه القوى قسّمت الشارع ،بين أُناس يطالبون بحقوقهم وبين فقراء آخرين.لم ترضَ القرى المجاورة بما حصل ففي اليوم التالي استمرت الاعتصامات والمسيرات دعماً للمنتفضين وضد الاعتداء الذي حصل.النبطية ليست كما غيرها من المدن، النبطية تعيش اليوم أفضل أيامها، تعيش اليوم حركات طلابية ضخمة وتظاهرات كبرى يغيب عنها الإعلام اللبناني، مع العلم أن الشيوعي في كفرمان له فائض القوة في الصمود إلى يومنا هذا ومؤازرة متظاهري المدينة. تقول إحدى الرفيقات: "إنّ ما حصل في الأسبوعين الفائتين كان إثباتاً حتميّاً لانتصار النبطية، التي غدت أيقونة الثورة وعروسها. النبطية التي نحب! أناس خلعوا رداءهم الحزبي، قالوا كلمتهم المحقّة، هتفوا ضد الثنائي الشيعي كاسرين القيود والأطر باسم الحرية وحدها. لم أتخيّل قط أنّ مدينة كالنبطية كانت ولا زالت تضم الاكثرية الغالبة من مؤيدي حزب الله وحركة أمل أن تنتفض على هذه الشاكلة، أن تنتصر فيها كلمة الفقير، أن تجرؤ، وبالكامل، على رفض التبعية السياسية والفساد بجميع أشكاله، الاجتماعي، السياسي، التربوي، الصحي والمالي، أن تجرؤ على تسمية الأمور كما هي، غير آبهة بنتيجة الغد لأنّ فقر الأمس ومآسي اليوم قد نهشا كرامتها الإنسانية.وقد كان ملفتاً في اليومين الاخيرين، موجة تحركات طلابية من شمال لبنان وصولاً إلى جنوبه. وكان للنبطية دورٌ كبيرٌ فيها، حيث ساهمت جلُّ الجامعات والمدارس والمعاهد في إضرابٍ عن التعليم. وكان من اللافت أيضا كلمات وهتافات الطلاب والتلاميذ المطلبية التي كانت تطال السياسات التعليمية والفساد التربوي برمّته. لقد أثبت جيلُ الغد بأنّه جيلٌ لغدٍ أفضل. ليس بوسعنا إلّا أن نعبّر عن صورة النبطية الجديدة، بحلّة ثائرة، رافضة للفساد، تحكمها كلمة الحق. لن تسمح النبطية مجدّداً أن تعود للتبعية ولا للحيثيات السياسية التي كانت ترخي بثقلها على المنطقة وتؤطر حريتها في التعبير عن مطالب أهلها وناسها". ضجّت النبطية بأهلها يوم الأحد الفائت، في 10 تشرين الثاني، وبالأخص نساء كفرمان وأنصار اللواتي كنّ في مقدمة التظاهرة تحت عنوان "صرخة نساء الجنوب".ما حصل، وما يحصل في مدينتنا الأم ثورة لم نشهدها قط، وما عجزت عنه قوى الاعتراض في الانتخابات النيابية يقوم به رجال ونساء وطلاب النبطية في حالة الاعتراض هذه رغم بطش قوى السلطة وتهديداتها المستمرة في القرى. حين قلنا أنّ هذه الانتفاضة عليها أن تنصف مدينتنا فعليّاً، فعليها إذاً أن تذكّرَ القريب والبعيد أن النبطية في قلب الجنوب والجنوب في قلب الوطن، وأن المقاومة للجميع كما الأرض.

برجا والإقليم: انتفض الليل على سواده

 
لا يمكنك توقع الكثير خلال الليل، تسعى جاهداً إلى حصر أفكارك وتكثيف تخايلاتك لكن الصورة الأوضح في الليل يسودها السواد. فتحاول مجدداً ومجدداً توسيع أفق تساؤلاتك معتمداً على سؤال مركزي "ما الذي يحدث؟"، ومن ثم تترجّل مجموعة متسلسلة من الأسئلة التي تخرج بتراتبية غريبة وكأنها جاهزة مسبقاً: "من؟ كيف؟ الآن؟ لماذا؟". ويأتيك الجواب المختصر الذي يسبق كل الإجابات "مكان الشعب الطبيعي عندما يُظلم هو الشارع". وسرعان ما يبدأ السواد في الصورة من الانسحاب ليحلّ مكانه وضوح الخطوات التي تدنو مسرعةً للالتحاق بالشارع دعماً للمنتفضين. وصلنا مع مجموعة من الشباب إلى الأوتوستراد وكان قد سبقتنا مجموعة أخرى، الطريق مقفل بالإطارات المشتعلة وحالة من الغضب والرفض تسيطر على الموجودين من مختلف الفئات: عمال وأجراء مهندسين، محامين، سائقي تكسيات، طلاب جامعيين وعدد كبير من المتخرجين المُعطّلين عن العمل. بالتشاور والاتفاق أتى قرار المعتصمين، لا عودة من الشارع ولا سكوت بعد اليوم على تصرفات وسياسات السلطة، وبناءً عليه تم الاتفاق على ضرورة بقاء عدد من الشباب لساعات الصباح الباكر عند بداية شروق الشمس، وهو الوقت الذي تعتمده القوى الأمنية في العادة للتدخل وفتح الطريق لأن الأعداد تكون أقل ويكون التعب والنعاس قد اجتاح صفوف المعتصمين، وبالفعل هكذا حصل وصل جنود الجيش اللبناني عند الساعة السادسة إلى نقطة القطع الأولى عند محطة الكيلاني، فترجّلوا من آليّاتهم وتعرّضوا بالضرب للمعتصمين بمحاولة منهم لفتح الطريق. فوصل الخبر إلى نقطة القطع الثانية التي تبعد حوالي ٤٠٠ متر عند مفرق برجا حيث كان هناك عدد أكبر من الشبان الذين تراجعوا خلف النيران المشتعلة واصطفّوا انتظاراً لوصول الجيش. وما لبث أن حضر جنود الجيش وكان اللافت استخدامهم السريع للقوة والقمع، فتوجه بعضهم نحو تلة محاذية للأوتوستراد وبدأوا برمي الحجارة من الأعلى على المعتصمين، أما الجنود الآخرين أطلقوا وابل من الرصاص الحي من بنادقهم، بعضها صعوداً في الهواء، وأخرى أطلقوها باتجاه الأسفل بين أقدام المعتصمين. وبعد عدة محاولات لتفريق الموجودين وعمليات الكر والفر، أعاد الشباب التجمع وجلسوا على الأرض بمحاولة منهم للتعبير السلمي، ولكن ذلك لم يمنع الجيش من التعدّي بالضرب والركل واعتقال عدد من المعتصمين، ما أثار غضب الأهالي الذين وصلتهم أخبار التعرض لأبنائهم المعتصمين وأدّى إلى تزايد عدد المعتصمين بشكل كبير. أُقفِل الطريق مجدّداً، وبالرغم من توقّع السلطة بفتحه خلال ١٤ دقيقة من التهويل، استمرّ قطع الطريق لأربعة عشر يوماً وتحوّل إلى ساحة لانتفاضة الإقليم، يتوافد إليها يوميّاً آلاف المعتصمين والمشاركين من مختلف مناطق الإقليم. فتحوّل الحراك العفوي والطارئ إلى إطار نضالي أكثر تنظيماً عبر شعارات مطلبية أكثر عمقاً وتجذراً في صلب الصراع الطبقي الحقيقي المحرّك للنظام اللبناني المتخفي تحت غطاء الطائفية التي حاول البعض استعادتها وضخّها داخل الاعتصامات بمحاولة لتشويه مسار الانتفاضة وتحجيم شعاراتها ومطالبها. يوماً تلو الآخر زاد التنسيق والتنظيم بين الشباب المعتصمين وشكّلوا ما يشبه اللجان التنظيمية واللوجستية التي سعت إلى الحفاظ على مسار هذه الانتفاضة وحماية المعتصمين والحؤول دون وقوع أي إشكال أو استفزاز يمكن أن يؤثر على استمرار هذه الانتفاضة. وبالإضافة إلى هذه اللجان، كان هناك مجموعات تجتمع بهدف التخطيط والتنسيق في ما بينها بشكل يومي بغية تحديد نقاط قطع الطرق في أماكن مختلفة على طول الساحل، ضمن المسار الذى اعتُمِد في كل الحراكات على مساحة الوطن بهدف تعطيل وشلّ الحياة اليومية من حركة الموظفين والمستخدمين الذين تعرضوا لضغوطات قذرة تجبرهم على الالتحاق بأماكن عملهم بمحاولة بائسة من السلطة لفضّ الحراكات وإعادة الحياة بالبلد إلى طبيعتها وكأن شيئاً لم يكُن. استمر قطع الطريق والاعتصامات 14 عشر يوماً وسقطت الحكومة على إثره. تلا ذلك نقاشٌ بين المعتصمين حول خطة تسمح باستكمال الانتفاضة وترتقي بها نحو مستوى أعمق وأوسع، فكانت الاستعاضة المؤقتة عن إقفال الطرقات. وهذا ما تحقق في اليوم التالي مباشرةً حيث تحدّد مكان لاعتصام دائم في برجا ليكون مساحةً للنقاش والحلقات الحوارية ومكاناً لانطلاق المعتصمين نحو تسكير وإقفال العديد من المؤسسات الرسمية والخاصة والمصارف بإطار تنفيذ إضراب عام والضغط على السلطة لتشكيل حكومة انتقالية من خارج الطبقة السياسية والتي من مهامها اقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة ومحاسبة الفاسدين والسارقين واستعادة الأموال المنهوبة. كما شهدت هذه الساحة اعتصامات حاشدة للطلاب من مختلف مدارس الإقليم، وبدأت الحركة بالتوسع والانتشار في مختلف مناطق الإقليم التي يجمع بينها إطارٌ من التنسيق والتواصل.

صيدا حرّرت، صيدا تغيّر

 
يومَ أعلن جيش الاحتلال الصهيوني اجتياح لبنان، هبَّ الجنوب بسواعد أبنائهِ دفاعاً عن أرضه وكرامته، فتصدّى وتحدّى وقاوم فانتصر وقدّم الغالي والنفيس انطلاقاً من صيدا، بوابة الصمود وعاصمة الجنوب، مروراً بصور والنبطية وبنت جبيل وسائر مدن وقرى الجنوب، ليسطَّر بطولات عمّدت الأرض بدماء الشهداء والفدائيين. واليوم يعاني أهل الجنوب، كما سائر الأهالي في كافة المحافظات على امتداد الوطن، من عدو آخر للشعب وهو النظام اللبناني الطائفي الذي نهب ثروات الوطن وهدر ماله العام واحتلّ مرافقه الحيوية وهجّر شبابه وسلب إرادة الناس واغتصب أحلامهم وحرم الشعب أبسط حقوقه المعيشية والاقتصادية وانتهك كرامته وكرّم العملاء وجرّم المقاومين وجعل الوطن عرضة للخارج ليتطاول عليه ويجعله رهن إملاءاتهم وسياساتهم. والمقاومة كما عبّر عنها الشهيد حسين مروّة وُلِدت بالأساس من أجل مواجهة الظلم بكلّ أشكاله سواءً تأتّى من احتلال أو حاكم فاسد أو ظلم. ولأنّ الطلقة الأولى جنوباً في وجه العدو الصهيوني انطلقت من صيدا، ولأنّها كانت السبّاقة دوماً في مناصرة قضايا الصيّادين والفقراء، انتفضت صيدا في الثالث والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 2019 حيث تمّ نصب خيمة في ساحة الشهداء وتنظيم حملة شعبيّة اعتراضيّة تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" والتي قامت بتنظيمها مجموعة من القوى السياسيّة الشبابيّة الوطنيّة ومجموعات من المجتمع الأهلي والقطاعي، حيث قامت بمجموعة من الأنشطة ودعت إلى تظاهرات شعبيّة تمثّلت بمسيرتين شعبيتين في أحياء المدينة والسوق التجاري تضامناً مع تجّار صيدا نظراً للأوضاع المعيشيّة الصعبة وتظاهرتين على مصرف لبنان، وقام المنظّمون آنذاك بمجموعة من الحوارات السياسيّة والاقتصاديّة، وفي السابع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر، وبالتزامن مع الشرارة الأولى للإنتفاضة الشعبيّة، دعا المنظّمون إلى تظاهرة مسائيّة أمام شركة أوجيرو وسرعان ما توجّه المتظاهرون إلى تقاطع إيليّا الذي بات يُعرَف اليوم بـ"ساحة ثورة 17 أكتوبر"، وقاموا بقطع الاوتوستراد الشرقي الرئيسي تماهياً مع الحالة العامّة للانتفاضة، وقام المساهمون في تنظيم فعاليّات الانتفاضة في اليوم الذي تلاه بقراءة بيان سياسي أكّد فيه المنتفضون أنّ الجنوب ينتفض وصيدا تنتفض من أجل إسقاط النظام، ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة الإجتماعيّة، ومن أجل إقرار قانون انتخابي نسبي خارج القيد الطائفي بهدف كسر هيمنة ونفوذ واحتكار الطبقة الحاكمة للسلطة السياسية، ومن أجل محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ومن أجل استعادة المال المنهوب ووقف الهدر، كذلك من أجل فرض الضريبة التصاعدية على أرباح المصارف والريوع العقارية، وأخيراً، أنّ الجنوب ينتفض وصيدا تنتفض من أجل بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة المدنيّة.وسرعان ما انضمّ إلى جموع الانتفاضة في صيدا كافّة القوى والفعاليّات السياسيّة الوطنيّة والمدنيّة والجمعيّات الأهليّة والكشفيّة والقطاعيّة وقاموا بتشكيل تنسيقيّة محليّة بهدف المساهمة في تنظيم فعاليّات الانتفاضة الشعبيّة في المدينة، وازداد التجاوب الشعبي جرّاء الظروف المعيشيّة والاقتصاديّة الصعبة، حتّى امتلأت ساحة انتفاضة 17 أكتوبر بالآلاف من المنتفضين بشكل يومي من حياة الانتفاضة المجيدة. كذلك كانت للانتفاضة في صيدا الفضل في انطلاقة الانتفاضة الطلّابيّة لطلّاب المدارس والجامعات والتي تميّزت بحضورها ووعيها السياسيّيْن، ودفعت بالحركة الطلابيّة على امتداد الوطن في اليوم التالي أن حذت حذوها، وعلى إثر الانتفاضة الطلّابية استعادت الساحات في كافّة المدن والمناطق وهجها. وقد طالت تحرّكات المنتفضين المرافق العامّة والمصارف ومصرف لبنان المركزي وفرضت عليهم حالة الإقفال التامّة لأيّام متتالية، وذلك لأنّ المعركة الرئيسيّة لهذه الانتفاضة كان يجب أن تتمركز حول رفض السياسات الماليّة لمصرف لبنان وفي المطالبة بفرض الضرائب على أرباح المصارف التي وصلت خلال عقدين من الزمن إلى 320 مليار دولار أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الدين العام. وبهدف رفع مستوى الوعي السياسي للمنتفضين وتفعيل النقاشات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، تمّ تنظيم عشرات الحلقات الشعبيّة الحواريّة في ساحة ثورة 17 أكتوبر في صيدا، استضافت فيها الساحة العديد من الخبراء القانونيين والاقتصاديين والسياسيين والنقابيين والتربويين، ووجوه ثقافيّة وفنيّة. وقد نجحت الإنتفاضة في تعزيز حسّ المسؤوليّة والمشاركة الفعّالة تجاه ما يجري والانخراط في كامل أنشطة الانتفاضة التي باتت دوريّة يوميّة.ترسم صيدا اليوم طريقاً للتغيير نحو مستقبل أفضل، بعزيمة أهلها وشبابها وشاباتها الذين وجدوا في الانتفاضة الشعبية أملاً في التقدّم والتغيير، وهويةً جديدةً حرمهم منها النظام القائم.  

نساء الانتفاضة، انتفاضة النساء

 
منذ انطلاقة هذه الانتفاضة، استحال إيجاد قيادة موحّدة مركزيّة لها عند كل التنظيمات والأحزاب والمجموعات السياسية. لكن غياب القيادة المنتخبة لم يعنِ غياب قيادة فعلية للنساء، في تغطية الانتفاضة إعلامياً وتوجيه التحركات والقرارات وفي التنظيم وتوثيق الانتفاضة ويومياتها. نحن عصب الانتفاضة نقول، لأننا أكثر من يستغّله النظام. تمشي ببطء وتعب. يجرّها ابنها من يد، بينما تحمل علماً في اليد الأخرى. أتخيّل ما يمكن أن تكون قصّتها، امرأة تمشي في مظاهرة نسوية، وحيدة لا تعرف أحداً منهنّ. أمُطلّقة هي ويحاربها زوجها والمؤسسة الدينية بكل عتادها ليأخذ ابنها منها؟ أم هي تريد الطلاق ولا تستطيع طلبه لأن أهلها يرفضون استقبالها في بيتهم إن أصبحت مطلّقة، وهي لا تملك مالاً لتستأجر بيتاً لأنه لم يسمح لها بالعمل منذ زواجهما؟ أم أنّه يهينها ويضربها ويهدّدها بالزواج عليها كلَّ صباح؟ أم أنها فقط لا تريد البقاء معه، ولا تعرف كيف تهرب بابنها دون أن تخسر حياتها ثمناً لذلك؟ غيرها كثيرات في هذه الانتفاضة، نساء تحاربن وحوشاً ليس بالمُستطاع حتى تخيّلها. نمشي في المظاهرة النسوية، واحدة من العديدات اللاتي تغطّي شوارع المناطق خلال هذه الانتفاضة، وكلّ منّا تحمل قصصاً لا تنتهي من الاستغلال والقهر. فهذه الانتفاضة تربط وبشكل واقعي وراديكالي في الوقت عينه، القصص الكثيرة التي تحدث لنا تحت نظام رأسمالي قاهر، ليكون اليومي والشخصي والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفني والعلمي حلقات مترابطة من المنظومة الاستغلالية ذاتها. ما يحصل اليوم في الانتفاضة هو تظهير واقع النساء، أي تظهير القمع الذكوري من جهة، وتظهير ما تقوم به النساء كل يوم من عمل سياسي. وبما أن النسوي سياسي بامتياز، فإن عمل النساء في الانتفاضة لا ينفكّ يقويّ الخطاب القائل بأن قمع النساء هو جزء من النظام الرأسمالي. في إطار تشكّل الوعي النسوي عند الفئات الأوسع من النساء في بيروت والمناطق، نجد أيضاً تحرّراً من منطق الجمعيات غير الحكومية ومفاهيمها للعمل النسوي ولأسباب الاستغلال. فبينما تُرفع اليوم الشعارات النسوية رافضة النظام الذكوري الأبوي، رابطة الاستغلال الرأسمالي باستغلال النساء واللاجئين والعمّال (ومن بينهم العمّال غير الشرعيين)، يصبح السقف أعلى ممّا يمكن لهذه الجمعيات تحمّله. فالخطاب السياسي الاقتصادي التقاطعي يطرح ما لا تريده هذه المؤسسات، يطرح صلة واضحة بين حالات النساء الفردية وممارسات النظام غير الفردية. أي أن الخطاب النسوي الحالي يُخرج معاناة النساء (في ظل النظام الرأسمالي والذكوري الأبوي) من خانة المشاكل العائلية أو سوء المعاملة بسبب سوء الأحوال (وهي حجج واهية) إلى حالة النهج الذكوري الأبوي: من الفردي الذي يجدر السكوت عنه و"تكبير العقل" لكي لا تزيد المشاكل والتحمّل لأن هذا هو "دور النساء"، إلى المنظومة الاستغلالية المتكاملة التي تعتبر النساء مخلوقات من مستوى أدنى. وإذ نعتبر أن الانتفاضة ليست نشاطاً سياسياً في الشارع فحسب، بل لحظة وعي أو إمكانية وعي، نعي بأن العمل النسوي الحاصل اليوم هو أيضاً لحظة بلورة الفكر في الشارع وبين النساء، ولحظة تشذيب الرؤيا ودفعها خارج الأطر التي وضعها النظام لها. فمن داخل منظومة الهيمنة، وُجِد خطاب يحمل ظاهراً داعماً للنساء بينما هو في باطنه يهمّشهنّ ويعيدهنّ إلى صفوف المتلقيات والتابعات. ويعمل هذا الخطاب عبر استخدام الخدمات كوسيلة أساسية للعمل النسوي، وعبر فصل النسوي عن السياسي ضارباً بعرض الحائط كل أعمال النسويات اللواتي أظهرن الارتباط العضوي للمفهومين، كما يجعل من النسويات ناشطات - موظّفات فيختصر عملّهن السياسي بوظيفة مكتبية خدماتية أو يحوّل عملهنّ السياسي إلى عمل مدفوع الأجر. ما يجري اليوم في بيروت والمناطق، هو خروج النساء عن سيطرة هذا الخطاب، رافضات في الوقت عينه الخطاب الفوقي التلقيني للجمعيات هذه، والذي يعتبر بأن نساء المدن مثلاً أكثر وعياً من نساء القرى والمناطق، وأن المتعلّمات أكثر وعياً من غير المتعلّمات وأن الوعي النسوي ملك خاص لـ"أنتلجنسيا" استطاعت أن تحصل عليه بسبب علاقتها بمؤسسات تربوية أجنبية أو عبر تدريبات على النوع الاجتماعي تبعتها ورش عمل في فندق ما. الوعي ليس ملكاً خاصاً لأحد، وهو بالتأكيد ليس ملكاً خاصاً للطبقة المهيمنة، هذا ما تثبته النساء كل يوم في عملهن السياسي. الانتفاضة، في أساسها ليست فقط رفض للنظام الحالي بشكله الواضح، وإنّما هي أيضاً رفض لتجليّاته المنمّقة وأشكاله الكامنة المختبئة في أثواب متنوّعة: هي رفض للوعي الزائف والثورة المضادة المتخفّية بإعادة تدوير الخطاب المهيمن. تنتصر هذه الانتفاضة كل يوم للجماعات المهمّشة والطبقة العاملة في لبنان، مظّهرة الصراع الطبقي أكثر فأكثر، رابطة كل الأزمات التي تواجهنا ببعضها البعض. وفي قلب هذه الانتفاضة، تكون النساء، تدفعن نحو الواجهة بالقضايا التي كانت تعتبر ثانوية، لتكون الصورة أوضح وأعمق، لماهية قسوة هذا النظام ولكيفية مقاومته.