الثلاثاء، تموز/يوليو 08، 2025

عكّار: همّشها النظام، فأعادتها الانتفاضة إلى قلب الوطن

 
جاءت انتفاضة الشعب اللبناني عامة والعكّاري خاصة ضد النظام الطائفي الفاسد في ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر لتعبّر عن وجع النّاس الّذي يعيش ثلثهم تحت خطّ الفقر الأدنى وثلثهم تحت خطّ الفقر الأعلى، فيما يتحكّم ١٪ من اللبنانيين بالجزء الأكبر من ثروات البلد. وكان لانتفاضة الأطراف المهمّشة كعكار والجنوب والبقاع والهرمل الدّور الأساسيّ في دعم هذه الانتفاضة. فلنأخذ عكار مثالاً، لم يجد أبناؤها مكاناً لهم في النّظام الاقتصاديّ الرّيعيّ الّذي أرست دعائمه السّلطة الطائفيّة الفاسدة بتحالفها مع المصارف وانصياعها للسياسات الاقتصادية التي رسمها البنك الدّولي ومن خلفه أميركا. فأولاد عكار، المزارعون بأغلبهم، فقدوا دورهم في هذا النّظام الاقتصادي الرّيعي الّذي قوّض إمكانيّة بناء اقتصادٍ منتجٍ دعامته الزراعة والصناعة، فكان من الطبيعيّ أن تقع أراضي السّهل الزّراعية فريسة للمضاربات العقاريّة وتتحوّل كتل أسمنتية في نظامٍ اقتصاديٍّ حوّل الأرض لسلعة تُباع وتُشترى طمعاً في الرّبح السّريع. تحرّك أبناء عكار مع أبناء شعبهم بهدف تحقيق مطالبهم المحقة وهي: إسقاط النظام الطائفيّ الفاسد بجميع رموزه وإقامة دولةٍ مدنيّةٍ تساوي بين مواطنيها دون تمييز بين طائفةٍ أو منطقة، تشكيل حكومة إنقاذ وطنيّة تشرف على إجراء انتخابات نيابيّة مبكرة خارج القيد الطائفي، محاسبة أهل السلطة والمصارف الفاسدين واستعادة الأموال المنهوبة عبر اقرار قانون الإثراء غير المشروع. وأكد المنتفضون في عكار على وطنيّة حراكهم، وأوضحوا أن القضيّة الفلسطينية قضيّة حقٍّ جامعة ورفضوا استغلال القضيّة والمقاومة للدفاع عن الفساد والطائفيّة. فكان اجتماعهم اجتماعاً لمواطنين من النسيج العكاري تركوا خلفهم انتماءاتهم الطائفيّة والحزبية واتحدوا تحت العناوين والأهداف المذكورة، يجمعهم وجع أبناء عكار المحرومة وهموم الوطن، فكانوا يداً واحدةً وقلباً واحداً، وسهروا وناضلوا وتعبوا في سبيل أن تكون عكار في قلب لبنان لا خارجه كما أرادت السّلطات الطائفية الّتي تعاقبت على لبنان منذ تأسيسه. وبالرّغم من الصعوبات العديدة التي يواجهونها نتيجة رفضهم التّبعيّة لأحد، استمرّوا في انتفاضتهم الوطنيّة، فرفضوا التّمويل من الأحزاب والجمعيات التي عرضته كي يبقى قرارهم مستقلّاً وأهدافهم وطنيّة. وحاول المتضرّرون من انتفاضتهم إفشالهم بشتّى الوسائل ومنها: بثّ الشائعات عن تبعيّة الحراك لأحزاب معيّنة وخلق مشاكل ذات طابع طائفي أو عائلي أو بلدي وهو ما كذّبته ممارساتهم على أرض الواقع، بالإضافة إلى محاولات لتسلّق الحراك من قبل أعوان السلطة الطائفية وجمعيات المجتمع المدني المموّلة من المنظمات الدولية أو السفارات مثل الـUSAID التابعة لوزارة الخارجية الأميركية، ومحاولات لشقّ الساحة إلى ساحات متناحرة تختلف أهدافها ومطالبها مما يضيع بوصلة الصراع. كما واجهتهم مشاكل داخليّة سعوا لحلّها بالتّنظيم والتّنسيق ومنها مشكلة تمويل الحاجات اللّوجستيّة، فأنشأوا صندوق تبرعات لا يكاد يسدّ حاجاتهم الأساسية. استغلّت السلطة وأعوانها حجّة قطع الطرقات للهجوم على التحرك في عكار، فروّجوا الشائعات ووصفوا المنتفضين بقطّاع الطرق بهدف تأليب الناس عليهم، غير أنّ المنتفضين أكدوا منذ البداية، قولاً وفعلاً، أنّ قرار قطع الطرقات مرتبطٌ بصدور قرار فتح المدارس والجامعات بهدف الضغط على السلطة، فلم يقطعوا طريقاً على فقيرٍ أو مريضٍ أو آليةٍ عسكريةٍ أو حاجات أساسية (مواد غذائية، مشتقات نفطية، أدوية…)، أما بعض التجاوزات التي حصلت وتمّ ضبطها فهي نتيجة طبيعيّة لحماس الشباب الثائر في وجه السلطة الطائفية الفاسدة، واعتذروا من الأهالي عن كلّ التجاوزات التي حصلت، وأكّدوا أنّهم بذلوا ويبذلون قصارى جهدهم لتفاديها عبر التّنظيم الّذي يتبلور يوماً تلو الآخر. كانت انتفاضة الأطراف رافعة الانتفاضة اللبنانية، وحققت مع أبناء المناطق المنتفضة انتصارات عديدة على هذه السلطة الطائفية الفاسدة أبرزها: كسر الحواجز الطائفية الّتي زرعتها السلطة وغذّتها في النّفوس فنزل الجميع معاً ليطالبوا بحقوقهم المنهوبة، كسر الحواجز المناطقيّة التّي أوجدتها هذه السلطة، فهتف ابن عكار لابن الجنوب وابن البقاع لابن طرابلس وابن جبل لبنان لابن الهرمل. وحاولوا إجبار الحكومة التي أرادت خنق الفقراء بالضرائب، على الاستقالة، وهو المطلب الأول الذي تحقق من سلسة المطالب. وكان لاستمرار المنتفضين في عكار الدور الرئيسي في إفشال محاولة السّلطة باللّعب على الوتر الطائفي بعد استقالة الحريري، وهو السيناريو المرسوم لجرّ الشارع إلى الاصطفاف الطائفيّ من جديد بحجّة أنّ الانتفاضة أرادت النّيل من "الموقع السني". بعد سقوط الحكومة، قام المنتفضون بفتح الطرقات المقطوعة وانتقلوا إلى المرحلة التالية من الضغط الشعبي عبر إغلاق الإدارات الرسمية (ما عدا الإدارات الصحية) وخاصةً الإدارات المُخصخصة مثل "أوجيرو" و"ليبان بوست" وشركتي "ألفا" و"أم تي سي"، إضافةً إلى إغلاق المصارف (مع السماح بممارسة الأعمال حسب جدولٍ يسمح للموظفين والمتقاعدين بقبض رواتبهم). والهدف من ذلك توجيه بوصلة الصراع إلى النظام الاقتصاديّ الريعي والمصارف، وهو ما يعتبر ترجمةً لشعار "يسقط حكم المصرف" الّذي رفعه المنتفضون في عكار منذ اليوم الأول. وحول مستقبل الانتفاضة، يواجه المنتفضون في عكار محاولات لحرف الصراع عن أهدافه عبر توجيهه إلى تحركات مطلبية مناطقية، فبدأوا حلقات حوارية يومية في خيمة الاعتصام في حلبا تهدف إلى تشارك الآراء ووجهات النظر وتوعية العكاريين إلى أنّ الحرمان الذي يطالهم على كافة المستويات الصحية والتعليمية والوظيفية والخدماتية إنما هو نتيجةٌ طبيعية لهذا النظام الطائفيّ الزبائني والنظام الاقتصادي الريعي الفاشل، وأنّ حلّ هذه المشاكل لا يكون إلا بحلّ المسببات، أي التخلّص من الطائفية السياسية وإقامة نموذج اقتصادي وطني منتج بدل الاقتصاد الريعي المرتبط بالخارج.

عن أمل غير كاذب من بيروت

 
لم تنسَ بيروت، مثل كلّ المناطق، الاختناق الذي سبّبته الحرائق في منتصف شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر، فالناس وقفوا عاجزين أمام تخاذل مستفزّ للسلطة التي وقفت تتفرّج هازئة بحال الجموع عبر تصريحاتها. لم تخبُ خنقة المواطنين حين أمطرت السماء مساء الثلاثاء في 15 تشرين الأوّل/ أكتوبر، بل زادت وتيرتها مع ضرائب الحكومة التي نزلت كالصاعقة لتضرب المسمار الأخير في النعش، فانتفض الشعب عفويّاً ليطفىء حينها خنقة الحرائق. والتعاون الذي حصل في مناطق الحرائق وتبعه تنسيق من بيروت ومناطق أخرى لأجل تزويد الناس بكافّة احتياجاتهم، و"فتح الناس بيوتهم لناس لا يعرفونهم" قد يكون صورة مصغّرة للمشهد في بيروت بعد 17 تشرين الأوّل. أن تنتظر الناس الوقوف على شرفات المنازل ونوافذها لتقرع الطناجر عند الساعة الثامنة مساء، ولتتناقل الابتسامات والتحيّات مع إيقاع الطناجر، هو الأملُ في بيروت. شيء ما خفيٌّ – وليس مؤامرة- يجمع الناس في الساحات. المشهد جميل على الأرض بين الناس في ساحات بيروت، ولكنّه مختلف حينما نراه من الخارج. ربّما، وبسبب تسارع وتيرة الأحدث والانتقال من يوم أوّل إلى عشرين دون تحليل منطقيّ للأيّام، لسنا قادرين على أن نعي ما حقّقناه في الانتفاضة هذه، ولسنا مدركين كيف بنيت علاقتنا بحيث أصبحنا نعرف وجوه بعضنا نحن الذين أعَدنا أملاكاً سرقوها منّا لتتنقّل فيها أشباح السلطة وداعموها. ووراء الوجوه المتعبة في الساحات، صوتٌ داخليّ فرح بالوجوه الأخرى، صوتٌ يقول: نحنا ما زلنا هنا. ورغم الضياع في الموافقة على خطوات قادمة محدّدة، وفي توقّع ما سيحصل وما ستفاجؤنا فيه السلطة، يبقى ثابت واحد: لا عودة إلى الوراء. كسرت الانتفاضة تراكم سنوات من تبعيّة للسلطة وأحزابها، وفرضت نفسها في الشارع لأكثر من 24 يوما حتّى الآن. الإحباط الآن في بيروت مشروعٌ ومنطقيّ، ولكن لن نترك المصارف تهزمنا. التقلّبات النفسيّة والمزاجيّة، لا تتناقض والإصرار على استمرار الانتفاضة أبدا، بل على العكس هي المكان الوحيد الذي يمكن أن نرتاح فيه قبل العودة إلى الساحة قلبا وقالبا. طلّاب الجامعات والمدارس، التحرّكات التي تنتصر على سلطة النقابة والاتحاد العمالي العام، استرجاع الأملاك العامّة، وجعل ساحتي الشهداء ورياض الصلح ساحاتنا اليوميّة الأكثر حياة، بعد سنوات من وظيفة ساحات لأشباح سوليدير، والصمود بعد كلّ محاولة خبيثة للسلطة، هذه كلّها هي الدعم النفسيّ لنا. سقط كلّ شيء، الآن نعرف كيف نستغل الإحباط أو نضعه في سياق واضح للانتفاضة وأحداثها. المعركة الآن طبقيّة أكثر من أيّ وقت مضى، هكذا تخبرنا المصارف المغلقة، كلّما ظهر رئيس حزب سلطويّ ليحاول التلويح بمعركة طائفيّة. والمعركة طبقيّة وعليها ألا تضعنا في مواجهة مع من نالوا تسمية "زعران" للأسف، مهما حاولت السلطة العمل على ذلك. المعركة الأساسيّة هي أن نصبح فعلا في الخندق ذاته مع شباب الخندق والضاحية والشياح وحي اللجا ومع فقراء جميع أحزاب السلطة أو أولئك المضطرين إلى خوض التبعيّة لكي يضمنوا سلامة أهلهم وعملهم أو تعليمهم. المسألة مسألة وقت ربّما، ولكن الأمل الأكبر ينحصر فيها. يعيش الناس روتينهم اليوميّ المتغيّر في التنقّل بين مرافق الدولة ومساحاتها العامّة وساحات نقاشها دون أن تغيب النبطيّة وصور وطرابلس وعكّار عن تفكيرهم. وهناك في بيروت، حيث السّلطة المركزيّة، ما زلنا مستمرّين في المواجهة. وفي بعض المناطق، حيث وقفوا الناس في وجه الزعماء، لم تجد أحزاب السلطة مخرجاً غير الضرب والتهديد والتكسير حين شعرت بانقلاب شعبيّ عليهم وخسرت شريحة كبيرة من الطبقة الفقيرة والوسطى التي كانت تابعة لهم بسبب الحاجة الماديّة أو اللعب على وتر الدين والعقيدة. شيء ما انكسر هناك، لن نترك له مجالاً ليعودَ كما كان. حتّى تبقى بيروت جميلة، عليها ألّا تتخلّى عن من في ساحة المعركة الحاسمة. لا يغيب عن بال الناس في بيروت الأزمة الماليّة التي تنذر الدولة بها، ولكنهم يعرفون من سببها، ولذلك لن يتركوا الشارع في بيروت. لن تبقى بيروت جميلة إن خلت ساحاتنا وإن تركت أملاكنا العامّة في متناول الطبقة البرجوازيّة وأصحاب النفوذ السلطويّ، وإن لم نستيقظ صباحا لنتوجّه تلقائيّا إلى ساحة الرياض الصلح، أو قصر العدل، أو شركتي الاتصالات أو بحرنا الذي أطلقوا عليه تسميات غريبة مثل "زيتونة باي" و"إيدن باي". ما بعد الانتفاضة، لا نهتمّ بالإحباط والروتين، ما يشغلنا هو كيف ستظلّ بيروت جميلة مثل اليوم.

الانتفاضة في طرابلس: ضدّ الطائفية، والتبعية والطبقية

 
"أم الفقير" لقب عرفت به مدينة طرابلس التي صُنّفت أفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسّط. هي نفسها المدينة التي أُقحِمت بنزاعات سياسية لا ذنب لها فيها فشهدت 22 جولة معارك تسببت بلقب جديد "قندهار لبنان".مدينة طرابلس كما نعرفها في كتب التاريخ، مدينة صناعية، أمّا في الواقع، هناك غياب تام لهذا القطاع عنها، الأمر الذي أدّى إلى انتشار البطالة فيها بشكل كبير، في حين تتفنّن السّلطة في "تشحيد" أبنائها قطرات من الأموال في مواسم الانتخابات مستغلّة الفقر المدقع الذي يعانون منه. طرابلس الفيحاء التي اشتهرت برائحة الليمون تفوح في أرجائها، استعاضوا عنها برائحة النفايات التي غزت المدينة بجبل نفايات يبلغ علوّه 37 متراً، والأخطر أنّ هناك توجّهاً لاستحداث "جبل" جديد. كلّ ما سبق ليس إلّا دافعاً لينتفض الشّعب الطّرابلسي، ويعطي درساً في الثّورة الحقيقيّة الّتي انبثقت في 17 تشرين الأوّل. وبعد مرور أكثر من ثلاثة أسابيع على انتفاضة الشعب، وجّهت طرابلس البوصلة نحو المصارف وذلك لأن شعبها المتهم بعدم وعيه السياسي أدرك وبكلّ وعي أنّ صلب أزمة الانهيار الاقتصادي يدور في فلك المصارف ولا سيّما مصرف لبنان وهندساته المالية، فكان الهدف الرّئيس للثّوار الاعتصام أمام مصرف لبنان وإقفاله. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل أخذ المتظاهرون يجولون شوارع طرابلس وتوقّفوا أمام كلّ مصرف، هاتفين "سكروا سكروا". وأعلن أهل طرابلس الإضراب العام والعصيان المدني من خلال إغلاق جميع الدّوائر الرسمية والمصارف والمرافق العامة. تبلور الوعي بسرعة هائلة خلال هذه الانتفاضة، بنبذ طرابلس للطّائفية وهي المتّهمة بالتّقوقع المذهبيّ فأظهرت وجهها الآخر الحقيقي، لتهتف لكل أرجاء الوطن المنتفض، لتصدح آلاف الحناجر من طرابلس بشعارات مثل "صور صور صور كرمالك بدنا نثور" و"من طرابلس للنّبطية معركتنا طبقيّة". ولا يُخفى على أحد أن ساحات وشوارع المدينة شهدت محاولات عدّة من قبل السلطة وأحزابها للتّدخل وخرق الانتفاضة. ففي اليوم الثاني منها، تلوّنت أرض ساحة النور بدماء شبابها بعد دخول سيارة تابعة للنائب السابق مصباح الأحدب وهو بداخلها، بهدف الانضمام إلى الشعب والادّعاء بأنّه يشارك أبناء المدينة وجعهم. لم تمرّ هذه المسرحية على الشعب الطرابلسي الذّي هتف لخروج الأحدب من بين المتظاهرين، فجاء ردّ مرافقي الأخير بإطلاق النار على الثوار العزّل. أدّت هذه الجريمة الموصوفة بحقّ الطرابلسيين إلى حالة من الغضب، اتجه على إثرها مجموعات كبيرة نحو شركة خاصّة للاحدب ونحو منزله وأضرموا النار فيهما. في الواقع، لقّن الطرابلسيون السلطة درساً في يومهم الثاني في ساحة النور، فأكّدوا أنهم لن يسمحوا لأيٍّ كان بالتّسلق على ثورتهم وانتفاضتهم، الأمر الذي دفع إلى نزول حوالي ٧٠ ألف مواطناً إلى الساحات، التي ما زالت تحتشد كلّ يوم بالمنتفضين وبشكل متواصل. والسّلطة اللبنانية، من جهتها، دائماً تتفوّق على نفسها في ارتكاب المزيد والمزيد من الهرطقات، فبعد استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، حاول منتسبو حزبه وأنصاره اختراق الساحات والتواجد بين الناس كحزب سلطة، محاولاً كسب الشّارع الطرابلسي من جديد، إلا أنّ الطرابلسيين، وللمرّة الثانية على التّوالي، أظهروا وعيهم في إدراك ألاعيب السّلطة، ولم يسمحوا لهم بتشويه المطالب المحقة أو التخريب. من جهة أخرى، لا يمكن حصر محاولات إفشال الانتفاضة بأحزاب السّلطة فقط، فللأجهزة الأمنية حضورٌ بارز بين ثوار طرابلس، فهي تحاول السيطرة على مكبّرات الصوت في الساحة وتوجيه الناس نحو نعرات طائفية والتصويب السياسي فقط نحو العهد. إلّا أن أهل طرابلس مدركون أنّ الازمة لا تتمحور نحو العهد فقط، بل حول النظام الطائفي الذي كرّس ميليشيات الحرب الأهلية في لبنان وطرابلس. وقد صرخ أهل طرابلس في يوم انتفاضتهم الثالث في ساحة ثورتهم "الحرب الأهليّة انتهت في ١٧ تشرين!". هذا بالإضافة إلى "المهرجان الفني" الذي تحاول زرعه الأجهزة الأمنية لتشتيت مطالب الانتفاضة، والذي شكّل استياءً وامتعاضاً لدى معظم المنتفضين من طلاب وعمال ومُعطّلين عن العمل. ولا شكّ أنّ العمل على الأرض مع الناس لتوجيه الخطاب السياسي شكّل تحديّاً كبيراً لهم، إلّا أنّهم عمِلوا جاهداً على التنسيق في ما بينهم وقاموا بتنظيم مسيرات وحوارات وحلقات نقاشية تهدف إلى توجيه المطالب وتسيطر على هذا التشتيت الممنهج الذي تعمل السلطة على خلقه. يبقى الأمل في هؤلاء الطلاب والعمال الذين تواجدوا في الساحات ولا يزالون في الواجهة، مستمرّين في مطالبهم، في ظل غياب الاتحادات الطلابية والنقابات الفعّالة المستقلة عن أحزاب السلطة."عمّال وفلاحين وطلبة" يعملون ليلاً ونهاراً لاغتنام هذه الفرصة الذهبية لخلق تغيير فعلي وواقعي من خلال انتفاضة ١٧ أكتوبر.

انتفاضة النبطية، قلب الجنوب وقلب لبنان

 
في 17 تشرين الأول/أكتوبر، أعلنت النبطية كباقي المناطق أنها من وفي قلب الوطن. يتصل صديق لي ويقول: " عكفرمان يلا الناس كتار ورايحين عقلب النبطية". وصلت إلى دوار كفرمان والناس في حالة من الهلع تركض نحو النبطية. أوقفوا حركة السير، قطعوا الطرقات بمستوعبات كبيرة.يزداد عدد المتظاهرين شيئا فشيئاً، فيعلو صوت واحد: "الشعب يريد إسقاط النظام!". وصلنا إلى السراي في النبطية التي غصّت بأصوات الجموع تردد الجملة عينها. النبطية بحيثياتها السياسية والاجتماعية والتي تميل إلى الثنائي الشيعي كأكثرية واضحة، وصورتها الدينية البحتة، لم تجعلنا نتوقع يوماً مشاركة هذا الكم الهائل من فئات لا يمكن لشيوعيي أنصار وكفرمان وبلدات المنطقة حشدها. جاب المتظاهرون في الليالي الأولى للانتفاضة شوارع النبطية وبيوت نوابها، حيث أن ضغط الشارع كان كفيلاً بحرق لوحات مكاتب النواب. إرباك حتى الصباح في النبطية، وأعداد هائلة للقوى الأمنية واستمرار المعتصمين بين دوار كفرمان والنبطية وإقفال الطرق. في اليوم الثاني للانتفاضة، اقتلع المتظاهرون "البارك ميترز" والأعداد في تزايد مستمر حتى منتصف الليل، قبل هجوم بلطجية قوى الأمر الواقع وفتح الساحة. لم تنتهِ الأمور هنا فحسب، بل في يوم ٢٣ تشرين عمدت البلدية إلى شنّ هجوم منسق ضمّ أفراداً من بلدية النبطية ومحازبين لحركة امل وحزب الله وانهالوا على المتظاهرين ضرباً بالعصي، بطريقة وحشية بهدف فضّ الساحة أمام السراي حتى وصول الجيش ليقف بين الشارعين.هذه القوى قسّمت الشارع ،بين أُناس يطالبون بحقوقهم وبين فقراء آخرين.لم ترضَ القرى المجاورة بما حصل ففي اليوم التالي استمرت الاعتصامات والمسيرات دعماً للمنتفضين وضد الاعتداء الذي حصل.النبطية ليست كما غيرها من المدن، النبطية تعيش اليوم أفضل أيامها، تعيش اليوم حركات طلابية ضخمة وتظاهرات كبرى يغيب عنها الإعلام اللبناني، مع العلم أن الشيوعي في كفرمان له فائض القوة في الصمود إلى يومنا هذا ومؤازرة متظاهري المدينة. تقول إحدى الرفيقات: "إنّ ما حصل في الأسبوعين الفائتين كان إثباتاً حتميّاً لانتصار النبطية، التي غدت أيقونة الثورة وعروسها. النبطية التي نحب! أناس خلعوا رداءهم الحزبي، قالوا كلمتهم المحقّة، هتفوا ضد الثنائي الشيعي كاسرين القيود والأطر باسم الحرية وحدها. لم أتخيّل قط أنّ مدينة كالنبطية كانت ولا زالت تضم الاكثرية الغالبة من مؤيدي حزب الله وحركة أمل أن تنتفض على هذه الشاكلة، أن تنتصر فيها كلمة الفقير، أن تجرؤ، وبالكامل، على رفض التبعية السياسية والفساد بجميع أشكاله، الاجتماعي، السياسي، التربوي، الصحي والمالي، أن تجرؤ على تسمية الأمور كما هي، غير آبهة بنتيجة الغد لأنّ فقر الأمس ومآسي اليوم قد نهشا كرامتها الإنسانية.وقد كان ملفتاً في اليومين الاخيرين، موجة تحركات طلابية من شمال لبنان وصولاً إلى جنوبه. وكان للنبطية دورٌ كبيرٌ فيها، حيث ساهمت جلُّ الجامعات والمدارس والمعاهد في إضرابٍ عن التعليم. وكان من اللافت أيضا كلمات وهتافات الطلاب والتلاميذ المطلبية التي كانت تطال السياسات التعليمية والفساد التربوي برمّته. لقد أثبت جيلُ الغد بأنّه جيلٌ لغدٍ أفضل. ليس بوسعنا إلّا أن نعبّر عن صورة النبطية الجديدة، بحلّة ثائرة، رافضة للفساد، تحكمها كلمة الحق. لن تسمح النبطية مجدّداً أن تعود للتبعية ولا للحيثيات السياسية التي كانت ترخي بثقلها على المنطقة وتؤطر حريتها في التعبير عن مطالب أهلها وناسها". ضجّت النبطية بأهلها يوم الأحد الفائت، في 10 تشرين الثاني، وبالأخص نساء كفرمان وأنصار اللواتي كنّ في مقدمة التظاهرة تحت عنوان "صرخة نساء الجنوب".ما حصل، وما يحصل في مدينتنا الأم ثورة لم نشهدها قط، وما عجزت عنه قوى الاعتراض في الانتخابات النيابية يقوم به رجال ونساء وطلاب النبطية في حالة الاعتراض هذه رغم بطش قوى السلطة وتهديداتها المستمرة في القرى. حين قلنا أنّ هذه الانتفاضة عليها أن تنصف مدينتنا فعليّاً، فعليها إذاً أن تذكّرَ القريب والبعيد أن النبطية في قلب الجنوب والجنوب في قلب الوطن، وأن المقاومة للجميع كما الأرض.

برجا والإقليم: انتفض الليل على سواده

 
لا يمكنك توقع الكثير خلال الليل، تسعى جاهداً إلى حصر أفكارك وتكثيف تخايلاتك لكن الصورة الأوضح في الليل يسودها السواد. فتحاول مجدداً ومجدداً توسيع أفق تساؤلاتك معتمداً على سؤال مركزي "ما الذي يحدث؟"، ومن ثم تترجّل مجموعة متسلسلة من الأسئلة التي تخرج بتراتبية غريبة وكأنها جاهزة مسبقاً: "من؟ كيف؟ الآن؟ لماذا؟". ويأتيك الجواب المختصر الذي يسبق كل الإجابات "مكان الشعب الطبيعي عندما يُظلم هو الشارع". وسرعان ما يبدأ السواد في الصورة من الانسحاب ليحلّ مكانه وضوح الخطوات التي تدنو مسرعةً للالتحاق بالشارع دعماً للمنتفضين. وصلنا مع مجموعة من الشباب إلى الأوتوستراد وكان قد سبقتنا مجموعة أخرى، الطريق مقفل بالإطارات المشتعلة وحالة من الغضب والرفض تسيطر على الموجودين من مختلف الفئات: عمال وأجراء مهندسين، محامين، سائقي تكسيات، طلاب جامعيين وعدد كبير من المتخرجين المُعطّلين عن العمل. بالتشاور والاتفاق أتى قرار المعتصمين، لا عودة من الشارع ولا سكوت بعد اليوم على تصرفات وسياسات السلطة، وبناءً عليه تم الاتفاق على ضرورة بقاء عدد من الشباب لساعات الصباح الباكر عند بداية شروق الشمس، وهو الوقت الذي تعتمده القوى الأمنية في العادة للتدخل وفتح الطريق لأن الأعداد تكون أقل ويكون التعب والنعاس قد اجتاح صفوف المعتصمين، وبالفعل هكذا حصل وصل جنود الجيش اللبناني عند الساعة السادسة إلى نقطة القطع الأولى عند محطة الكيلاني، فترجّلوا من آليّاتهم وتعرّضوا بالضرب للمعتصمين بمحاولة منهم لفتح الطريق. فوصل الخبر إلى نقطة القطع الثانية التي تبعد حوالي ٤٠٠ متر عند مفرق برجا حيث كان هناك عدد أكبر من الشبان الذين تراجعوا خلف النيران المشتعلة واصطفّوا انتظاراً لوصول الجيش. وما لبث أن حضر جنود الجيش وكان اللافت استخدامهم السريع للقوة والقمع، فتوجه بعضهم نحو تلة محاذية للأوتوستراد وبدأوا برمي الحجارة من الأعلى على المعتصمين، أما الجنود الآخرين أطلقوا وابل من الرصاص الحي من بنادقهم، بعضها صعوداً في الهواء، وأخرى أطلقوها باتجاه الأسفل بين أقدام المعتصمين. وبعد عدة محاولات لتفريق الموجودين وعمليات الكر والفر، أعاد الشباب التجمع وجلسوا على الأرض بمحاولة منهم للتعبير السلمي، ولكن ذلك لم يمنع الجيش من التعدّي بالضرب والركل واعتقال عدد من المعتصمين، ما أثار غضب الأهالي الذين وصلتهم أخبار التعرض لأبنائهم المعتصمين وأدّى إلى تزايد عدد المعتصمين بشكل كبير. أُقفِل الطريق مجدّداً، وبالرغم من توقّع السلطة بفتحه خلال ١٤ دقيقة من التهويل، استمرّ قطع الطريق لأربعة عشر يوماً وتحوّل إلى ساحة لانتفاضة الإقليم، يتوافد إليها يوميّاً آلاف المعتصمين والمشاركين من مختلف مناطق الإقليم. فتحوّل الحراك العفوي والطارئ إلى إطار نضالي أكثر تنظيماً عبر شعارات مطلبية أكثر عمقاً وتجذراً في صلب الصراع الطبقي الحقيقي المحرّك للنظام اللبناني المتخفي تحت غطاء الطائفية التي حاول البعض استعادتها وضخّها داخل الاعتصامات بمحاولة لتشويه مسار الانتفاضة وتحجيم شعاراتها ومطالبها. يوماً تلو الآخر زاد التنسيق والتنظيم بين الشباب المعتصمين وشكّلوا ما يشبه اللجان التنظيمية واللوجستية التي سعت إلى الحفاظ على مسار هذه الانتفاضة وحماية المعتصمين والحؤول دون وقوع أي إشكال أو استفزاز يمكن أن يؤثر على استمرار هذه الانتفاضة. وبالإضافة إلى هذه اللجان، كان هناك مجموعات تجتمع بهدف التخطيط والتنسيق في ما بينها بشكل يومي بغية تحديد نقاط قطع الطرق في أماكن مختلفة على طول الساحل، ضمن المسار الذى اعتُمِد في كل الحراكات على مساحة الوطن بهدف تعطيل وشلّ الحياة اليومية من حركة الموظفين والمستخدمين الذين تعرضوا لضغوطات قذرة تجبرهم على الالتحاق بأماكن عملهم بمحاولة بائسة من السلطة لفضّ الحراكات وإعادة الحياة بالبلد إلى طبيعتها وكأن شيئاً لم يكُن. استمر قطع الطريق والاعتصامات 14 عشر يوماً وسقطت الحكومة على إثره. تلا ذلك نقاشٌ بين المعتصمين حول خطة تسمح باستكمال الانتفاضة وترتقي بها نحو مستوى أعمق وأوسع، فكانت الاستعاضة المؤقتة عن إقفال الطرقات. وهذا ما تحقق في اليوم التالي مباشرةً حيث تحدّد مكان لاعتصام دائم في برجا ليكون مساحةً للنقاش والحلقات الحوارية ومكاناً لانطلاق المعتصمين نحو تسكير وإقفال العديد من المؤسسات الرسمية والخاصة والمصارف بإطار تنفيذ إضراب عام والضغط على السلطة لتشكيل حكومة انتقالية من خارج الطبقة السياسية والتي من مهامها اقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي ولبنان دائرة واحدة ومحاسبة الفاسدين والسارقين واستعادة الأموال المنهوبة. كما شهدت هذه الساحة اعتصامات حاشدة للطلاب من مختلف مدارس الإقليم، وبدأت الحركة بالتوسع والانتشار في مختلف مناطق الإقليم التي يجمع بينها إطارٌ من التنسيق والتواصل.