الثلاثاء، تموز/يوليو 08، 2025

صيدا حرّرت، صيدا تغيّر

 
يومَ أعلن جيش الاحتلال الصهيوني اجتياح لبنان، هبَّ الجنوب بسواعد أبنائهِ دفاعاً عن أرضه وكرامته، فتصدّى وتحدّى وقاوم فانتصر وقدّم الغالي والنفيس انطلاقاً من صيدا، بوابة الصمود وعاصمة الجنوب، مروراً بصور والنبطية وبنت جبيل وسائر مدن وقرى الجنوب، ليسطَّر بطولات عمّدت الأرض بدماء الشهداء والفدائيين. واليوم يعاني أهل الجنوب، كما سائر الأهالي في كافة المحافظات على امتداد الوطن، من عدو آخر للشعب وهو النظام اللبناني الطائفي الذي نهب ثروات الوطن وهدر ماله العام واحتلّ مرافقه الحيوية وهجّر شبابه وسلب إرادة الناس واغتصب أحلامهم وحرم الشعب أبسط حقوقه المعيشية والاقتصادية وانتهك كرامته وكرّم العملاء وجرّم المقاومين وجعل الوطن عرضة للخارج ليتطاول عليه ويجعله رهن إملاءاتهم وسياساتهم. والمقاومة كما عبّر عنها الشهيد حسين مروّة وُلِدت بالأساس من أجل مواجهة الظلم بكلّ أشكاله سواءً تأتّى من احتلال أو حاكم فاسد أو ظلم. ولأنّ الطلقة الأولى جنوباً في وجه العدو الصهيوني انطلقت من صيدا، ولأنّها كانت السبّاقة دوماً في مناصرة قضايا الصيّادين والفقراء، انتفضت صيدا في الثالث والعشرين من شهر أيلول/ سبتمبر 2019 حيث تمّ نصب خيمة في ساحة الشهداء وتنظيم حملة شعبيّة اعتراضيّة تحت شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" والتي قامت بتنظيمها مجموعة من القوى السياسيّة الشبابيّة الوطنيّة ومجموعات من المجتمع الأهلي والقطاعي، حيث قامت بمجموعة من الأنشطة ودعت إلى تظاهرات شعبيّة تمثّلت بمسيرتين شعبيتين في أحياء المدينة والسوق التجاري تضامناً مع تجّار صيدا نظراً للأوضاع المعيشيّة الصعبة وتظاهرتين على مصرف لبنان، وقام المنظّمون آنذاك بمجموعة من الحوارات السياسيّة والاقتصاديّة، وفي السابع عشر من تشرين الأوّل/ أكتوبر، وبالتزامن مع الشرارة الأولى للإنتفاضة الشعبيّة، دعا المنظّمون إلى تظاهرة مسائيّة أمام شركة أوجيرو وسرعان ما توجّه المتظاهرون إلى تقاطع إيليّا الذي بات يُعرَف اليوم بـ"ساحة ثورة 17 أكتوبر"، وقاموا بقطع الاوتوستراد الشرقي الرئيسي تماهياً مع الحالة العامّة للانتفاضة، وقام المساهمون في تنظيم فعاليّات الانتفاضة في اليوم الذي تلاه بقراءة بيان سياسي أكّد فيه المنتفضون أنّ الجنوب ينتفض وصيدا تنتفض من أجل إسقاط النظام، ومن أجل تحقيق العدالة والمساواة الإجتماعيّة، ومن أجل إقرار قانون انتخابي نسبي خارج القيد الطائفي بهدف كسر هيمنة ونفوذ واحتكار الطبقة الحاكمة للسلطة السياسية، ومن أجل محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين، ومن أجل استعادة المال المنهوب ووقف الهدر، كذلك من أجل فرض الضريبة التصاعدية على أرباح المصارف والريوع العقارية، وأخيراً، أنّ الجنوب ينتفض وصيدا تنتفض من أجل بناء الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة المدنيّة.وسرعان ما انضمّ إلى جموع الانتفاضة في صيدا كافّة القوى والفعاليّات السياسيّة الوطنيّة والمدنيّة والجمعيّات الأهليّة والكشفيّة والقطاعيّة وقاموا بتشكيل تنسيقيّة محليّة بهدف المساهمة في تنظيم فعاليّات الانتفاضة الشعبيّة في المدينة، وازداد التجاوب الشعبي جرّاء الظروف المعيشيّة والاقتصاديّة الصعبة، حتّى امتلأت ساحة انتفاضة 17 أكتوبر بالآلاف من المنتفضين بشكل يومي من حياة الانتفاضة المجيدة. كذلك كانت للانتفاضة في صيدا الفضل في انطلاقة الانتفاضة الطلّابيّة لطلّاب المدارس والجامعات والتي تميّزت بحضورها ووعيها السياسيّيْن، ودفعت بالحركة الطلابيّة على امتداد الوطن في اليوم التالي أن حذت حذوها، وعلى إثر الانتفاضة الطلّابية استعادت الساحات في كافّة المدن والمناطق وهجها. وقد طالت تحرّكات المنتفضين المرافق العامّة والمصارف ومصرف لبنان المركزي وفرضت عليهم حالة الإقفال التامّة لأيّام متتالية، وذلك لأنّ المعركة الرئيسيّة لهذه الانتفاضة كان يجب أن تتمركز حول رفض السياسات الماليّة لمصرف لبنان وفي المطالبة بفرض الضرائب على أرباح المصارف التي وصلت خلال عقدين من الزمن إلى 320 مليار دولار أي ما يعادل ثلاثة أضعاف الدين العام. وبهدف رفع مستوى الوعي السياسي للمنتفضين وتفعيل النقاشات السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة، تمّ تنظيم عشرات الحلقات الشعبيّة الحواريّة في ساحة ثورة 17 أكتوبر في صيدا، استضافت فيها الساحة العديد من الخبراء القانونيين والاقتصاديين والسياسيين والنقابيين والتربويين، ووجوه ثقافيّة وفنيّة. وقد نجحت الإنتفاضة في تعزيز حسّ المسؤوليّة والمشاركة الفعّالة تجاه ما يجري والانخراط في كامل أنشطة الانتفاضة التي باتت دوريّة يوميّة.ترسم صيدا اليوم طريقاً للتغيير نحو مستقبل أفضل، بعزيمة أهلها وشبابها وشاباتها الذين وجدوا في الانتفاضة الشعبية أملاً في التقدّم والتغيير، وهويةً جديدةً حرمهم منها النظام القائم.  

نساء الانتفاضة، انتفاضة النساء

 
منذ انطلاقة هذه الانتفاضة، استحال إيجاد قيادة موحّدة مركزيّة لها عند كل التنظيمات والأحزاب والمجموعات السياسية. لكن غياب القيادة المنتخبة لم يعنِ غياب قيادة فعلية للنساء، في تغطية الانتفاضة إعلامياً وتوجيه التحركات والقرارات وفي التنظيم وتوثيق الانتفاضة ويومياتها. نحن عصب الانتفاضة نقول، لأننا أكثر من يستغّله النظام. تمشي ببطء وتعب. يجرّها ابنها من يد، بينما تحمل علماً في اليد الأخرى. أتخيّل ما يمكن أن تكون قصّتها، امرأة تمشي في مظاهرة نسوية، وحيدة لا تعرف أحداً منهنّ. أمُطلّقة هي ويحاربها زوجها والمؤسسة الدينية بكل عتادها ليأخذ ابنها منها؟ أم هي تريد الطلاق ولا تستطيع طلبه لأن أهلها يرفضون استقبالها في بيتهم إن أصبحت مطلّقة، وهي لا تملك مالاً لتستأجر بيتاً لأنه لم يسمح لها بالعمل منذ زواجهما؟ أم أنّه يهينها ويضربها ويهدّدها بالزواج عليها كلَّ صباح؟ أم أنها فقط لا تريد البقاء معه، ولا تعرف كيف تهرب بابنها دون أن تخسر حياتها ثمناً لذلك؟ غيرها كثيرات في هذه الانتفاضة، نساء تحاربن وحوشاً ليس بالمُستطاع حتى تخيّلها. نمشي في المظاهرة النسوية، واحدة من العديدات اللاتي تغطّي شوارع المناطق خلال هذه الانتفاضة، وكلّ منّا تحمل قصصاً لا تنتهي من الاستغلال والقهر. فهذه الانتفاضة تربط وبشكل واقعي وراديكالي في الوقت عينه، القصص الكثيرة التي تحدث لنا تحت نظام رأسمالي قاهر، ليكون اليومي والشخصي والسياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفني والعلمي حلقات مترابطة من المنظومة الاستغلالية ذاتها. ما يحصل اليوم في الانتفاضة هو تظهير واقع النساء، أي تظهير القمع الذكوري من جهة، وتظهير ما تقوم به النساء كل يوم من عمل سياسي. وبما أن النسوي سياسي بامتياز، فإن عمل النساء في الانتفاضة لا ينفكّ يقويّ الخطاب القائل بأن قمع النساء هو جزء من النظام الرأسمالي. في إطار تشكّل الوعي النسوي عند الفئات الأوسع من النساء في بيروت والمناطق، نجد أيضاً تحرّراً من منطق الجمعيات غير الحكومية ومفاهيمها للعمل النسوي ولأسباب الاستغلال. فبينما تُرفع اليوم الشعارات النسوية رافضة النظام الذكوري الأبوي، رابطة الاستغلال الرأسمالي باستغلال النساء واللاجئين والعمّال (ومن بينهم العمّال غير الشرعيين)، يصبح السقف أعلى ممّا يمكن لهذه الجمعيات تحمّله. فالخطاب السياسي الاقتصادي التقاطعي يطرح ما لا تريده هذه المؤسسات، يطرح صلة واضحة بين حالات النساء الفردية وممارسات النظام غير الفردية. أي أن الخطاب النسوي الحالي يُخرج معاناة النساء (في ظل النظام الرأسمالي والذكوري الأبوي) من خانة المشاكل العائلية أو سوء المعاملة بسبب سوء الأحوال (وهي حجج واهية) إلى حالة النهج الذكوري الأبوي: من الفردي الذي يجدر السكوت عنه و"تكبير العقل" لكي لا تزيد المشاكل والتحمّل لأن هذا هو "دور النساء"، إلى المنظومة الاستغلالية المتكاملة التي تعتبر النساء مخلوقات من مستوى أدنى. وإذ نعتبر أن الانتفاضة ليست نشاطاً سياسياً في الشارع فحسب، بل لحظة وعي أو إمكانية وعي، نعي بأن العمل النسوي الحاصل اليوم هو أيضاً لحظة بلورة الفكر في الشارع وبين النساء، ولحظة تشذيب الرؤيا ودفعها خارج الأطر التي وضعها النظام لها. فمن داخل منظومة الهيمنة، وُجِد خطاب يحمل ظاهراً داعماً للنساء بينما هو في باطنه يهمّشهنّ ويعيدهنّ إلى صفوف المتلقيات والتابعات. ويعمل هذا الخطاب عبر استخدام الخدمات كوسيلة أساسية للعمل النسوي، وعبر فصل النسوي عن السياسي ضارباً بعرض الحائط كل أعمال النسويات اللواتي أظهرن الارتباط العضوي للمفهومين، كما يجعل من النسويات ناشطات - موظّفات فيختصر عملّهن السياسي بوظيفة مكتبية خدماتية أو يحوّل عملهنّ السياسي إلى عمل مدفوع الأجر. ما يجري اليوم في بيروت والمناطق، هو خروج النساء عن سيطرة هذا الخطاب، رافضات في الوقت عينه الخطاب الفوقي التلقيني للجمعيات هذه، والذي يعتبر بأن نساء المدن مثلاً أكثر وعياً من نساء القرى والمناطق، وأن المتعلّمات أكثر وعياً من غير المتعلّمات وأن الوعي النسوي ملك خاص لـ"أنتلجنسيا" استطاعت أن تحصل عليه بسبب علاقتها بمؤسسات تربوية أجنبية أو عبر تدريبات على النوع الاجتماعي تبعتها ورش عمل في فندق ما. الوعي ليس ملكاً خاصاً لأحد، وهو بالتأكيد ليس ملكاً خاصاً للطبقة المهيمنة، هذا ما تثبته النساء كل يوم في عملهن السياسي. الانتفاضة، في أساسها ليست فقط رفض للنظام الحالي بشكله الواضح، وإنّما هي أيضاً رفض لتجليّاته المنمّقة وأشكاله الكامنة المختبئة في أثواب متنوّعة: هي رفض للوعي الزائف والثورة المضادة المتخفّية بإعادة تدوير الخطاب المهيمن. تنتصر هذه الانتفاضة كل يوم للجماعات المهمّشة والطبقة العاملة في لبنان، مظّهرة الصراع الطبقي أكثر فأكثر، رابطة كل الأزمات التي تواجهنا ببعضها البعض. وفي قلب هذه الانتفاضة، تكون النساء، تدفعن نحو الواجهة بالقضايا التي كانت تعتبر ثانوية، لتكون الصورة أوضح وأعمق، لماهية قسوة هذا النظام ولكيفية مقاومته.  

الطلاب يصنعون المستقبل، الآن!

 
لقد أثبت الطلاب اليوم، سواء طلاب المدراس والثانويّات أو طلاب الجامعات، عن وعي كبير للمرحلة التي يمر بها الوطن، وهو ما يؤكّد على الدور الريادي الذي لطالما قامت به الحركة الطلابيّة في لبنان. نشهد اليوم على حركة طلابيّة لم تنتظر من أحد اعترافاً صريحاً بشرعيّتها أو بوعيها، لم تقف هذه الحركة عند حاجز "سن الرشد القانوني" الذي يحول دون إمكانيّة مُشاركتها بالقرار السياسي في هذا الوطن، دون إمكانيّة مُشاركتها بانتخاب السلطات التشريعيّة في وطنها. ومن هنا، نسأل اليوم، ألم يحن الوقت للاعتراف لهذه الشريحة بقدرتها على التعبير عن رأيها السياسي، عبر تخفيض سن الاقتراع إلى سن الثامنة عشر؟ ألم يُبرهِن طلاب الثانويّات اليوم عن وعي كامل، يكاد يفوق وعي الكثيرين من أبناء هذا الوطن الذين حرِصوا على وصول تلك السلطة الفاسدة إلى سُدّة الحكم؟ دورنا اليوم في هذه الانتفاضة الشعبيّة، كطلّاب في الجامعة اللبنانيّة، هو أن نوحّد الصفوف ونسعى إلى بلوَرة مطالبنا المُحقّة، الكفيلة بالنهوض بجامعتنا، التي تُشكّل السبيل العلمي الوحيد للنهوض بالوطن.إنّ استقلاليّة الجامعة اللبنانيّة الإداريّة عن السلطة السياسية، هي أولويّة اليوم، وذلك بهدف حمايتها من التجاذبات السياسيّة والتدخّلات الحزبيّة، المُرتكزة على المُحاصصة والعلاقات الزبائنيّة، التي تعكس الواقع السياسي العام في لبنان؛ كما تُشكّل الاستقلالية المالية للجامعة ضرورةً في هذه المرحلة، يمكن تأمينها من خلال المداخيل المُباشرة، عوضاً عن تجيير مئات آلاف الدولارات سنويّاً، من جيوب الطلّاب إلى الشركات الخاصّة (Libanpost) عبر تلزيم تلك الأخيرة تخليص المُعاملات الإدارية التي تُشكّل مداخيل سنويّة ثابتة.لقد عملت هذه السلطة طيلة السنوات الماضية على تفريغ جامعتنا الوطنيّة من إمكاناتها الماديّة والمعنويّة، ومنعها من تفعيل دورها كمؤسّسة لإنتاج وممارسة وتعليم البحث العلمي، فيما تُخرّج كليّاتها ومعاهدها سنويّاً "جيشاً" من الباحثين والباحثات، القادرين على رصد ومعالجة مشكلات الوطن.لذا يتوجّب علينا اليوم كطلّاب المطالبة بإعادة تأسيس الجامعة كرافعة للمجتمع، من خلال البحث العلمي المُتخصّص الذي يربط بين الاختصاصات والمسارات التخصصيّة في كليّات ومعاهد الجامعة، وبين القطاعات المُختلفة في لبنان، لتكون الجامعة الوطنيّة قلعة للإنتاج البحثي والمعرفة العلميّة، بحجم مهمة بناء وطن منيع مستقل اقتصاديّاً وسياسيّاً. وقد عبّرت حناجر وصرخات الناس على امتداد البلاد عن ملامح هذا الوطن، في الانتفاضة المجيدة، منذ 17تشرين الأول/ أكتوبر. الأحداث الأخيرة التي شهدتها الحركة الطلابيةشارك طلاب الجامعات والثانويات في الانتفاضة منذ أيامها الأولى ولكن الحراك الطلابي لم يتبلور ليكون حالة أساسية في المشهد السياسي إلّا منذ أيام قليلة وبعد عدة تراكمات منها دور المكاتب التربوية في إجبار الطلاب على الحضور وتهديدات مدراء المدارس للطلاب بالطرد، كلها عوامل أدّت إلى تفجّر الحركة الطلابية من صيدا وانتقلت لتعمّ كل أرجاء الوطن.فعمّت المسيرات الطلابية، في مختلف المناطق اللبنانية، حيث توسّعت دائرة المشاركة من طلاب الجامعات والمدارس في موازاة استمرار المتظاهرين في استراتيجيتهم الجديدة في التحرك بالاعتصام أمام المؤسسات الرسمية.كانت محطة الاحتجاج الأكبر في بيروت عند وزارة التربية، حيث أُقفلت الطريق بشكل كامل، ورفع الطلاب يافطات تطالب باستحداث مدارس رسمية وتندّد بارتفاع الأقساط في المدارس الخاصة. عمد الطلاب إلى التنقل بين الجامعات داعين زملاءهم للانضمام إليهم ومطالبين الإدارات بإقفالها، توافد مئات الطلاب إلى ساحة رياض الصلح بعد الظهر وهم يهتفون بالشعارات الوطنية الموحدة بين كل اللبنانيين بعيداً عن الطائفية، مطالبين بإحداث تغيير وطني صحيح يبدأ بمحاسبة الفاسدين وإعادة المال المنهوب. ونُظّمت مسيرة مماثلة في جونية وانتقلت إلى ساحة المدينة حيث افترش الطلاب الأرض، وانتقلوا بعدها إلى مكاتب شركة «ألفا» مغلقين مدخلها. وفي عاصمة الشمال طرابلس، خرج آلاف الطلاب بمسيرات عدة جابت شوارع المدينة، رافعين الأعلام اللبنانية. تحرك مجمع الحدث... حدث تاريخيدعا تكتل طلاب الجامعة اللبنانية إلى تظاهرة طلابية في مجمع الحدث وذلك الخميس 7 تشرين الثاني/ نوفمبر، تحت عنوان "من الجامعة اللبنانية إلى الوطن". لبّى الطلاب الدعوة بكثافة وكُنّا أمام مشهد تاريخي، حيث وصل عدد المشاركين إلى ما يزيد عن ثلاثة آلاف طالب. جابت المسيرة أرجاء مجمع الحدث كاسرة لحاجز الخوف الذي لطالما هوّلت الأحزاب الطائفية به. وفي قراءة هذا التحرك عدة معطيات أساسية:- تلاحم الحركة الطلابية مع القضية الوطنية، أي أن الطلاب تحرّكوا لمطلب أشمل من قضية جامعية تفصيلية. تحرّك الطلاب من أجل وطنهم وسعياً لبناء مستقبل أفضل.- المطالب المرفوعة تعكس وعي طلابي عالي، ومنها استقلالية الجامعة اللبنانية الإدارية وإقرار قانون البحث العلمي وميزانية الجامعة اللبنانية. تكتل طلاب الجامعة اللبنانية بديل عن اتحاد طلاب الجامعة اللبنانيةشكل تكتّل طلاب الجامعة منذ تأسيسه من سبعة شهور علامة فارقة في التاريخ الحديث للحركة الطلابية. تأسّس هذا التكتّل في خضم إضراب أساتذة الجامعة اللبنانية أواخر الفصل الثاني من العام الدراسي 2018-2019. وقد لعب التكتّل دوراً أساسيّاً في تحصيل وحماية ميزانية الجامعة اللبنانية ودفع بشكل فعّال ليحقق أهل الجامعة انتصاراً على السلطة السياسية الساعية وبشكل ممنهج لتدمير الجامعة. ويضاف إلى ذلك، الإعلان الذي اتخذه التكتل بمعارضة ومقاطعة الإنتخابات الطلابية وفق قانون أُسقط على الطلاب من قِبل مجلس الجامعة، رافضين الهرمية والأحادية في اتخاذ القرارت في القانون كما النسبية المشوّهة، اللوائح المكتملة الإقصائية والعنصرية المتمثلة في إقصاء الطلاب غير اللبنانيين من حقهم في الانتخاب والترشح. غابت الانتخابات الطلابية منذ عشر سنين، وتمّ ضرب اتحاد طلاب الجامعة الوطنية خلال الحرب الأهلية مما جعل طلاب الجامعة اللبنانية دون ممثل فعلي طيلة سنوات طويلة. تكتل طلاب الجامعة اللبنانية هو تكتل للطلاب المستقلين الساعين بحسب تعريفهم لحماية الجامعة اللبنانية وتحصيل حقوق طلابها. كما يسعون للارتقاء بالعمل الأكاديمي والبحثي في الجامعة. هذا في التعريف، أمّا بالشكل العملي، التكتل موجود في معظم فروع الجامعة اللبنانية في مختلف المناطق. وهذا الانتشار ساهم في تحركات طلابية في مختلف أنحاء الوطن خلال الانتفاضة الشعبية الحالية. بناء على ما تقدم هذا التكتل قد يكون بديل فعلي على الأرض عن أي اتحاد تعيد السلطة إحياءه بما يخدم مصالحها، ليترك تكتل طلاب الجامعة اللبنانية بصماته في تاريخ الحركة الطلابية والوطن.  

استخَفّوا بالشعب، فانفجرت الانتفاضة الشاملة

 
لم تكن انتفاضة شعبنا الرائعة وليدة الساعة. وهي ليست فشة خلق عابرة ولا هي بدفع من زعيم سلطوي لطائفة أو مذهب. إنها انتفاضة شعبية عابرة للطوائف والمناطق. وهي نقيض سلطة التحاصص الطائفي التي لم تنجح في تحويلها إلى صراع طائفي. فالشعارات والمطالب التي ترفعها الحشود الهادرة في الساحات والشوارع في جميع المناطق اللبنانية، متماثلة وواحدة: إسقاط النظام وإسقاط السلطة، محاسبة الفاسدين سارقي مال الشعب واستعادة المال المنهوب، رفض أي ضريبة على الطبقات الشعبية وفقراء لبنان ورفض الطائفية،... وتميّزت المطالب بصرخة الشباب المدوّية لضيق فرص العمل، ولعدم شمول الضمانات الصحيّة كل اللبنانيين. وقد عبّرت مئات ألوف المنتفضين بل التظاهرات المليونية، عن وجعها وغضبها على السلطة القائمة، وسياساتها المعتمدة منذ 30 سنة. وقالت بكل وضوح انها لم تعد تثق بالطبقة السلطوية وممارساتها وتوافقاتها، التي أوصلت البلاد والشعب إلى حالة الانهيار. لذلك رفضت الحشود الضخمة ما يُسمّى بورقة الإصلاح التي أقرّتها الحكومة، والتي رغم أن إقرارها تحت ضغط هذه الانتفاضة، يظهر قدرة الشعب ودوره، فإنّ الناس ذاقت مرارة التجربة الطويلة مع الطبقة السلطوية ووعودها التخديرية. لذلك تستمر المواجهة بين الشعب وحقوقه ومصالحه من جهة، وبين الطبقة السلطوية وزعاماتها ومصالحهم من جهة أخرى. وما دامت طبيعة السلطة السياسية هي هي، فلا خروج للبلاد من المأزق والانحدار إلى عمق الهاوية، ولا استعادة لمصداقية فقدتها. فمعالجة العجز السنوي المتزايد في موازنة الدولة، لا يمكن أن تستقيم إلّا باستعادة المال المنهوب الذي يتجاوز الثلاثمائة وعشرين مليار دولار إن لم يكن اكثر، وفق معلومات مصادر أوروبية، وبوقف الهدر ونمط الصفقات والتحاصص. لقد وصلوا في ممارساتهم البشعة إلى تشويه السياسة والعمل السياسي، وجعلوا الناس تنقم على أحزابهم أيضاً، بوصفها أحزاب طوائف وسلطة، وهي ليست أحزاب وطن وشعب . لكل ذلك جرى الانفجار الشعبي متجليّاً في هذه الانتفاضة التاريخية، التي لم تكن منفصلة عن المسار الطويل لتحركات ونضالات قام بها جماهير شعبنا وكان الشيوعيون في صفوفها الأمامية. من تظاهرة إسقاط النظام الطائفي، إلى هيئة التنسيق النقابية، إلى تظاهرات الأول من أيار وأثناء بحث وإقرار موازنة 2019، وغيرها. وقد أسهمت كلها إلى جانب أشكال أخرى، كالندوات والاعتصامات والاحتفالات الجماهيرية، في عملية تراكم الوعي، وكشف ممارسات السلطة وفسادها ونظامها الطائفي العاجز. فتنامي هذا الوعي من جهة، والضائقة المعيشية وبطالة الشباب من جهة ثانية، ومحاولات السلطة فرض ضرائب جديدة على الطبقات الشعبية، أدّى إلى انفجار الغضب الشامل، بانتفاضة لم يسبق أن جرى في ضخامتها في تاريخ لبنان. لذلك رأى الشيوعيون أنّ الاحتفال بالعيد الـ95 لتأسيس حزبهم، هو في مواقع النضال، في الشارع مع شعبنا، الذي ناضل هذا الحزب طيلة السنوات التسعين من أجل حقوقه وقضاياه. فمسيرة هذا الحزب وتضحياته التي يعتز بها الشيوعيون، هي من عوامل انتفاضة شعبنا، ولتحقيق مطامحه في إقامة دولة وطنية ديمقراطية حديثة، دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية المنفتحة على أفق اشتراكي، بديلاً للدولة الطائفية، دولة المصارف وحيتان المال وزعامات الطوائف. إنّ هذا الانفجار الشعبي الكبير، وشموله كل المناطق اللبنانية، قد فاجأ الطبقة السلطوية وزعاماتها. فكانوا يستخفون بدور الشعب، ويستعظمون قدرتهم في لجم أو تكبيل اكثريته الساحقة، بالطائفية، والخدمات الفردية والتبعية لهم، وبدور عصا السلطة، لكن رغم تأثير ذلك، فقد أظهرت هذه الانتفاضة جرأة الجماهير وكسر حاجز الخوف. فالساحات والشوارع هي للشعب الذي سيخيف، من الآن وصاعداً، الطبقة السلطوية وفسادها. فالشعب الذي أوصلها إلى السلطة، هو الأقدر على محاسبتها. فالقمع والعنف الوحشي الذي مارسته أدوات السلطة مساء الجمعة 18 تشرين الأول/ أكتوبر في ساحة رياض الصلح، لم يرهب الناس. فكان الرد عليه بحشد مليوني في يومي السبت والأحد وبالحشود الضخمة نهار الاثنين. وبدون إحداث تغيير على صعيد السلطة السياسية، باستبدال حكومة الفساد بحكومة انتقالية تجري انتخابات برلمانية جديدة خلال أشهر وفق قانون انتخاب نسبي وفي الدائرة الوطنية وخارج القيد الطائفي، ستستمر المواجهة ويتواصل الصراع بأشكاله المختلفة. فالتغيير على صعيد السلطة السياسية، هو الطريق الأسلم لولوج مسار إصلاح جدي سياسيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، لأنّ الانسداد ومنع حركة التطور والتغيير الطبيعي يؤدي إلى انفجار الشعب بقوة أكبر. لقد حرّكت القضية الاجتماعية – الاقتصادية شعبنا فانتفض، وأظهرت أنّها أساس وحدة التحرك الشعبي ووحدة الهوية الوطنية، وأنّ الشرعية هي الشرعية الشعبية التي تجلّت في الشارع. وأنّ الشعب قادر على صنع التغيير.  

التراكم التاريخي لانتفاضة ١٧ أكتوبر

لم يكن الوصول إلى انتفاضة ١٧ تشرين الأول/ أكتوبر سهلاً بل سبقه مئات الحملات والتحركات بعناوين سياسية ومطلبية واجتماعية عديدة إلى أن تفجّر الغضب الشعبي في لحظة تاريخية. سيتطرق المقال إلى مراحل زمنية عدّة كان لها تأثير إيجابي على مستوى زيادة الوعي السياسي والطبقي لدى المواطنين وزيادة مستوى انخراطهم في الحياة العامة. أولاً: مرحلة التسعينيات – الحقوق المدنية تتصدّر إنّ إحدى النتائج السلبية للحرب الأهلية تمثّلت في وجود آلاف المخطوفين والمفقودين حيث لم تسعَ الدولة ومنذ تاريخ انتهاء الحرب إلى معالجة هذا الموضوع بجدية وبخاصةً بعد صدور قانون العفو العام. في خضمّ الحرب الأهلية (١٩٨٢) تأسّست لجنة أهالي المخطوفين في لبنان، وتلاها عام ١٩٩٠ تأسيس لجنة دعم اللبنانيين المعتقلين (تُعرَف باسم سوليد). نجحت اللجنة في ممارسة أشكال مختلفة من الضغط على صنّاع القرار، وكان عام ١٩٩٩ مفصليّاً لها، إذ تمّ إنشاء حملة "حقنا نعرف" وهي هيئة مدنية لدعم لجنة الأهالي وحضنها. بدأت الحملة بتنظيم اعتصامات بشكل أسبوعي قرب مقر مجلس الوزراء كمحاولة للضغط على السلطات لمعرفة مصير المخطوفين والمفقودين. فور انتهاء الحرب ودخول البلد في مرحلة السلم الأهلي، كان لا يزال عند السلطة السياسية خوف كبير من تنظيم الانتخابات البلدية، فكان من المفترض أن تتمّ الانتخابات البلدية فور تنظيم أوّل انتخابات تشريعية، أي عام ١٩٩٢. في أواخر العام 1997، أطلقت حملة "بلدي بلدتي بلديتي" بمبادرة من الجمعية اللبنانية من أجل ديمقراطية الانتخابات، بالإضافة إلى منظمات شبابية وناشطين في الحقل العام وأكاديميين. الهدف الأساسي للحملة كان الضغط على السلطات اللبنانية لإجراء أول انتخابات محلّية في لبنان منذ العام 1963. عملت الحملة على تنظيم عشرات المحاضرات والحلقات التثقيفية والاعتصامات واستطاع منظمو الحملة جمعَ تواقيع مئة ألف مواطن. كان للحملة دورٌ أساسي في دفع الطبقة السياسية لتنظيم الانتخابات البلدية عام ١٩٩٨.خلال هذا العام أيضاً، بادر اتحاد الشباب الديمقراطي اللبناني إلى جانب قوى ومنظمات شبابية أخرى إلى إطلاق الحملة الوطنية لخفض سنّ الاقتراع إلى ١٨ عاماً. مارست الحملة أنواع عديدة من أساليب الضغط الشعبي من تنظيم لقاءات وتوزيع مناشير والضغط على صنّاع القرار باتجاه تعديل الدستور. ولعلّ أبرز تلك الأساليب كان جمع تواقيع ٨٩ نائباً في المجلس النيابي ينتمون إلى أحزاب سياسية مختلفة مؤيدة لهذا الحق. توّجَت الحملة تحركها خلال انتخابات العام ٢٠٠٠ حيث عمدت إلى وضع صناديق موازية لصناديق الاقتراع في مختلف المحافظات بهدف تحشيد الرأي العام للمطالبة بهذا الحقّ. ثانياً: فترة ٢٠٠٠- ٢٠٠٥: مطالب معيشية بالمفرّقكنتيجة مباشرة لسياسات الحكومات النيو-ليبرالية التي ترأسها الحريري، بدأت نتائج هذه السياسات بالتأثير على قطاعات واسعة من الشعب اللبناني وبالأخص الطبقة الفقيرة. عام ٢٠٠١، أقرّت الحكومة الضريبة على القيمة المضافة TVA فزادت أسعار جميع السلع والمنتوجات. في شباط ٢٠٠٢، بادر الحزب الشيوعي اللبناني والاتحاد الوطني لنقابات العمال والمستخدمين إلى تنظيم مظاهرة ضخمة ضمّت آلاف المواطنين تنديداً بهذه الضريبة وبالسياسات الاقتصادية المتبعة من الحكومة آنذاك. عام ٢٠٠٤ وكنتيجة لزيادة أسعار البنزين نزل مواطنون يقطنون في منطقة حي السلم – إحدى مناطق الضاحية الجنوبية - ليحتجّوا على هذه الزيادة إلّا أن الجيش والقوى الأمنية قمعت هذه المظاهرة وأطلقت الرصاص على المتظاهرين مما أدّى إلى استشهاد 6 مواطنين وجرح 20 آخرين. خلال هذا العام أيضاً، نظّمت نقابات النقل البري اعتصامات احتجاجاً على زيادة أسعار المحروقات مطالبين الحكومة بتثبيت سعر الوقود. ثالثاً: حراك إسقاط النظام الطائفي (٢٠١١)أواخر عام ٢٠١٠، اندلعت الانتفاضات العربية بعد أن أضرم محمد بو عزيزي النار في جسده فحدثت انتفاضات في أكثر من بلد عربي مما ولّد ديناميات سياسية جديدة. في هذا السياق، تداعت في 27 شباط 2011 تيارات مدنية ومجموعات شبابية إلى تظاهرة انطلقت من الشياح ــ عين الرمانة وهو المكان الذي شهد بداية الحرب الأهلية. كرّت سبحة المظاهرات من بعدها فكان يوم الأحد موعداً أسبوعياً لمظاهرات اخترقت الأحياء الشعبية في بيروت رافعة الشعار الذي بات على كل لسان مواطن عربي "الشعب يريد إسقاط النظام". رفع المشاركون في هذه التحركات لافتات طالبت بدولة مدنية وقضاء عادل وقانون انتخاب نسبي وتأمين كافة الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين، إلّا أن وهج الحراك قد انطفأ بعد قرابة الثلاثة أشهر على انطلاقته. رابعاً: معركة سلسلة الرتب والرواتب (٢٠١٢- ٢٠١٤)عام ٢٠٠٨ تم تأسيس "هيئة التنسيق النقابية" كإطار نقابي ضمّ روابط الأساتذة والمعلمين في التعليم الرسمي ورابطة موظفي الإدارة العامة. خاضت الهيئة ومنذ تأسيسها معركة لرفع الأجور المجمدة منذ العام ١٩٩٧. عام ٢٠١١ رفعت الحكومة الحدّ الأدنى للأجور ليصل إلى ٦٧٥ ألف ليرة (ما يوازي ٤٥٠ دولاراً في الشهر). وبعد هذه الزيادة، طالب الأساتذة والمعلّمون وموظفو القطاع العام برفع رواتبهم وبدأ الضغط في الشارع لإقرار سلسلة الرتب والرواتب. استطاعت حينها هيئة التنسيق النقابية حشدَ عشرات آلاف الأساتذة والموظفين في ظاهرة لم يشهدها لبنان إذ توحّدت قواعد الأساتذة والموظفين متخطّين بذلك الانقسامات الطائفية والمذهبية في ما بينهم. كما أعلن موظفو القطاع العام الاضراب المفتوح وكان الأول من نوعه منذ انتهاء الحرب الأهلية. بين هذين العامين أيضاً، برزت تحركات قطاعية ونقابية عديدة كان أهمها إضراب مياومي مؤسسة كهرباء لبنان وإضراب عمال "سبينيس". خامساً: الحراك الشعبي (٢٠١٥)كنتيجة مباشرة لإقفال مطمر الناعمة وعدم إيجاد الدولة لحلول مناسبة لمعالجة النفايات المستخرجة من بيروت وجبل لبنان، تكدّست كميات كبيرة من النفايات في شوارع العاصمة مما أدّى إلى سخط شعبي واسع وظهر للمواطنين بشكل جلي عدم جدية السلطة بمعالجة هذا الموضوع. فكان أن أقيمت تظاهرات واعتصامات في الناعمة وبرجا وبيروت خلال تموز ٢٠١٥. في ٢٢ آب، نظّمت قوى ومجموعات الحراك المدني اعتصاماً في ساحة رياض الصلح تحوّل إلى حشد شعبي غير مسبوق لتنهال القوى الأمنية من بعدها على المتظاهرين بالضرب مستخدمةً شتّى أساليب القمع وصلت إلى حدِّ إطلاق الرصاص المطاطي والحي، فوقع العديد من الجرحى آنذاك. ذروة هذا الحراك كانت في ٢٩ آب حيث امتلأت ساحة الشهداء بآلاف المتظاهرين. وحّدَ هذا الحراك اللبنانيين بعناوين مطلبية وبيئية واضحة لكن سرعان ما خفّ وهجه بسبب عدد من العوامل الذاتية والموضوعية، إلاّ أن هذا الحراك خلق فضاءً عاماً للعمل السياسي وكسر الكثير من التابوهات كما قدّم حلولاً علميةً لكيفية معالجة مشكلة النفايات ودفع بالمشاركين فيه إلى التأثير على مستوى عملية صنع القرار وزاد من الرقابة الشعبية على سياسات الحكومة، وبالأخص البيئية منها. في الطريق إلى ١٧ أكتوبرالثلاثاء في ١٥ تشرين الأول/ أكتوبر، اندلع ما مجموعه ١٠٣ حرائق في مناطق مختلفة في لبنان. وكالعادة كانت الدولة مقصرّة تجاه كارثة طبيعية بهذا الحجم. وزاد الطين بِلّة أن الطوافات الثلاث التي استقدمتها السلطات الرسمية لإطفاء هذه الحرائق جميعها خارج الخدمة ولم تخضع للصيانة اللازمة منذ تاريخ جلبها عام ٢٠٠٩. ولّد هذا الامر استياءً شعبياً واسعاً أدّى بالمواطنين إلى إنشاء مجموعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي لمساعدة الأهالي المتضرّرين من الحرائق. زاد منسوب التضامن الإنساني وأدرك اللبنانيون حينها أن عدوّهم الأساسي هو السلطة السياسية بكلّ مكوّناتها. ويوم الأربعاء في ١٦ تشرين الأول/ أكتوبر، اجتمع مجلس الوزراء للبحث في تأمين واردات للدولة لموازنة العام ٢٠٢٠ والتي كانت حينها قيد التحضير. اقترح وزير الاتصالات، محمد شقير، فرض ضريبة قُدّرت بـ ٢٠ سنتاً على كل اتصال يومي على تطبيق "الواتساب"، أي ما يعادل ستة دولارات شهرياً، ووافق على هذا الاقتراح مجلس الوزراء مجتمعاً. كان هذا الأمر كافياً لأن تندلع ثورة الفقراء في لبنان وسرعان ما عمّت الانتفاضة الشعبية كل لبنان تتويجاً لمسار طويل من المواجهة مع طبقة سياسية أخذت البلد باتجاه الانهيار، وأحدثت فيه فقراً وبطالةً وهجرةً وتفاوتاً في توزيع الدخل والثروة.