الأربعاء، أيار 14، 2025

الشمال السوري والعدوانية التركية

مجدّداً يتهيأ جيش الاحتلال التركي لشن عملية عسكرية عدوانية على مناطق شمال سوريا. وكما العدوانين السابقين، فهذا العدوان هو أيضاً بتغطية وضوء أخضر أميركي وعدم رفض روسي يشابه القول الشعبي "السكوت علامة الرضى". أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مساء الأحد وبعد اتصال مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن جنوده سينسحبون من سوريا، واصفاً هذه الحرب بأنها "حرب سخيفة". وكعادته، اعتبر ترامب أن "بلاده دفعت الكثير من النقود للكرد" كي يقاتلوا معه، متجاهلاً أن "قوات سوريا الديمقراطية" دفعت في هذه الحرب ما يزيد عن 10 آلاف قتيل في مواجهتها لداعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية. فهذا الرجل لا يكفّ عن تحويل السياسة إلى عمليات تجارية، ولكن بفرق أن هذه العمليات لا تحتاج إلى طرفين ككل المعاهدات التجارية، بل هي فقط إلى موافقته هو، وفي حال رفض الطرف الآخر يستخدم سيف العقوبات الذي حوّل العلاقات الدولية إلى بلطجة أميركية. إن مشكلة الكرد أنهم لم يتعلّموا من كلّ التجارب التاريخية، وراهنوا ولا يزالون على الأميركي والأطلسي، وهذا ما جعلهم يدفعون الثمن دائماً، وآخر الرهانات كان في عفرين. يومها حاول القادة الكرد استدراك الموقف في اللحظات الأخيرة وعقد اتفاق مع الدولة السورية من أجل دخول قوات الجيش السوري إلى عفرين، إلا أن ذلك لم يحدث، وإلى اليوم الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى عدم استكمال هذا الدخول غير معروفة، على الرغم من أنه جرت مناورات ودخلت بعض أرتال الجنود التابعة لتنظيمات عسكرية رديفة للجيش. كلّ ذلك لم يكن كافياً، وها هي عفرين تخضع للاحتلال التركي منذ ذلك الوقت. هذا المشهد يتكرّر حتى الآن في العملية المزمع إطلاقها، إلّا أنّ الدولة السورية، وإلى وقت كتابة هذه السطور لم يكن قد صدر عنها موقف. أما الموقف الروسي، فهو عبارة عن تأكيد تركيا للجانب الروسي بالتزامها بوحدة أراضي سوريا. وهذا يعتبر غض نظر وموافقة على العدوان التركي. فتركيا وعلى لسان رئيسها وكبار المسؤولين في نظام حزب العدالة والتنمية، عبّرت عن أن هدف العملية إقامة "منطقة آمنة" على طول الحدود السورية التركية بعرض يقارب ال 40 كلم، وأنّها ستعمل على إعادة مئات آلاف النازحين السوريين في تركيا إلى هذه المنطقة، أي أنها ستعمل على تغيير النسيج الاجتماعي والديموغرافي. ومن جهة أخرى، سيقاتل إلى جانب الجيش التركي، مرتزقة تحت مسمّى "الجيش الوطني السوري"، قدر عددهم المتحدث باسم هذا الجيش بالمئة ألف مقاتل. بعد كلّ هذه المعطيات التي يعرفها الجانب الروسي طبعاً، يأتي التصريح القائل بأن تركيا تعهدت بالتزامها بوحدة الاراضي السورية. وبالتالي، كيف يمكن الوثوق بالجانب التركي الذي أثبت خلال السنوات التسع الماضية، أنه رأس حربة التآمر على سوريا والداعم الأساسي للتنظيمات الإرهابية من "جبهة نصرة" وأخواتها في إدلب وحلب وغيرها من المناطق. كيف يمكن الوثوق به وهو الذي نكث بكلّ تعهداته في المناطق التي تعهّد بإخراج الإرهابيين منها. والأهم، كيف يمكن السماح لاردوغان بتنفيذ مخططاته الإجرامية القائمة على التصفية العرقية بحق مئات آلاف السوريين المدنيين الآمنين الذي لم يعتدوا ولو لمرة واحدة خلال كلّ الأزمة على الجانب التركي. قبل يومين من اتصال ترامب - أردوغان، كان يجري الحديث في تركيا عن تعديلات دستورية يقترحها فريق أردوغان، تسعى هذه التعديلات إلى تخفيض نسبة الفوز بالرئاسة من 50% إلى 40%، وهذا طبعاً تحضير من قبل أردوغان لأي معركة رئاسية مقبلة، فعلى الرغم من أن موعد هذه الانتخابات لا زال بعيداً، إلا أن الحراك السياسي في تركيا يثير رعب أردوغان وحزبه، إذ أنّ "العدالة والتنمية" مقدِمٌ على انشقاقات كبيرة بعد خروج قادة مؤسسين من صفوفه (غول، أوغلو وباباجان) وعزمهم على تأليف أحزاب خاصة بهم، وهذا طبعا سيضعف "العدالة والتنمية" التي تقدّر الاستطلاعات أن عدد كتلتها الصلبة تراجعت إلى ما دون 35%. وطبعاً، لا ننسى هنا الانتخابات البلدية التي حصلت منذ أشهر قليلة، وتعرّض فيها "العدالة والتنمية" لانتكاسة في كلّ المدن الكبرى، بخاصة أنقرة واسطنبول. كلّ هذه المعطيات كانت تشير إلى أن أردوغان سيسعى إلى حلحلة الكثير من القضايا التي أنتجت نقمة شعبية على سياساته العدوانية تجاه سوريا، وبالأخص سياساته هذه التي أنتجت حرباً مدمرة، دفعت ملايين السوريين للنزوح إلى تركيا وغيرها من البلدان. وهذا الملف يضغط كثيراً على أردوغان. لذا، فإن أبعاد هذه الحرب تتلخّص بجانبين. أوّلاً، الداخل التركي (النازحون وشدّ العصب القومي)، وثانياً، البعد الخارجي (زيادة الأوراق التي يملكها أردوغان في أي مفاوضات مقبلة حول التسوية في سوريا). مع العلم أن أحزاب المعارضة الكبرى طالبت بوقف هذا العدوان، وحمّلت أردوغان وسياساته المسؤولية عن الوضع القائم، كما اعتبرت أن الحل يكون بإعادة العلاقات مع الحكومة السورية. على كلّ المعنيين بمصلحة ملايين السوريين الذين يعيشون في الشمال، من كرد وعرب وآشوريين وغيرهم من مكوّنات الشعب السوري، وبالأخص القوى المكوّنة لـ"قوات سوريا الديمقراطية" من جهة، والدولة السورية من جهة أخرى، قطع الطريق على أطماع أردوغان، والقيام بتنازلات تؤدّي إلى دخول الجيش السوري إلى هذه المنطقة، وحماية المدنيين من مجازر يسعى "العدالة والتنمية" إلى ارتكابها بهدف ترهيب سكان شمال سورية وتهجيرهم.  

لا حل في العراق إلّا بالتغيير الشامل

 
 في الأول من تشرين الأول، اندلعت مجموعة من الاحتجاجات العفويّة في بغداد وانتشرت في عددٍ من المدن في وسط العراق وجنوبه، بسبب الغضب من الفساد المتفشي للحكومة وعجزها عن توفير الخدمات والوظائف. وبعدما كانت التظاهرات سلمية في البداية، تسبّب إطلاق قوى الأمن للنار في اشتداد غضب المتظاهرين وازدياد عددهم قبل أن يعود الهدوء النسبي تدريجيّاً. كانت الانتفاضة الشعبية العراقية، بكل بساطة، مواجهة مكشوفة بين الفقراء والمهمشين والمعطّلين عن العمل من جانب، والمتخمين القابضين على السلطة ومحتكري ثراوتها من جانب آخر. فعراق ما بعد صدام حسين أولى التمثيل العرقي الطائفي على مؤسسات الدولة التي تدهورت بعدما ملأت الانتهاكات نظام تقاسم الإيرادات- المحسوبية. وفي غياب سياسة اقتصادية فعالة، نشأت حلقة مفرغة: فالأحزاب التي نجحت في المشاركة في الحكومة في انتخابات سابقة استخدمت سلطتها لمنح الوظائف والعقود لمؤيديها، بهدف تأمين الأصوات في الانتخابات التي أعقبتها. وفي الوقت نفسه، تمركزت الثروة متركّزة داخل الحكومة - فصادرات العراق الرئيسية الوحيدة هي النفط، الذي يمثّل 92 في المئة من الميزانية. واستفاد من النظام الجديد مناصرو الاحزاب الحاكمة، في حين تراجعت الخدمات والوظائف لباقي السكان. وإذا نظرنا إلى موازنة عام 2019 البالغة 111.8 مليار دولار، والتي تمثّل زيادةً بنسبة 45 في المئة عن العام 2018، فإن أكثر من نصفها سيذهب إلى أجور القطاع العام والمعاشات التقاعدية، ممّا سيقوّض الإنفاق الاستثماري غير النفطي اللازم لتطوير القطاع الخاص. وبعد تعاقب مثل هذه الحكومات منذ عام 2003، يبدو أن النظام قد اتخذ مساره. فثمة الكثير من الوظائف الحكومية سبق وأن جعلت القطاع العام في العراق من بين الأكثر تضخماً في العالم. وبما أنّ الطائفية والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان، فإن النظام الديمقراطي الذي كان يتوخّاه العراقيون انهار بدوره وافقد الناس ثقتهم بالطبقة السياسية التي تدير البلاد، وهكذا صار واحدٌ فقط من بين خمسة عراقيين يعتقد أن بلاده ما زالت ديمقراطية. ونتيجة لذلك، انخفضت نسبة إقبال الناخبين على التصويت بشكل مطّرد، من 80 في المئة عام 2005 إلى 44.5 في المئة عام 2018، في حين صارت الاحتجاجات قضايا موسمية. وعلى غرار أسلافه، يركّز رئيس الوزراء بشكل أكبر على تحديد أولئك الذين يقع عليه اللوم على الاحتجاجات بدلاً من إصلاح المشاكل التي أثارت هذه الاحتجاجات. ولإخفاء عجزها عن إيجاد الحل لجأت الحكومة ومكوّناتها المتنوعة إلى نظريتيْ مؤامرة متناقضتين: تتّهم إحداهما السعودية والولايات المتحدة بإثارة الاحتجاجات، وتلقي الأخرى اللوم على إيران وعملائها المحليين. ومثل هذا الارتياب لن يؤدي سوى إلى عرقلة جهود عادل عبد المهدي لتنفيذ الإصلاحات الجادة التي يطالب بها المنتفضون. ما يجري في العراق، شبيه بما جرى في عواصم عربية أخرى، وبالتالي، قد تلجأ قوى أو دول لاستثماره، وهذا أمر يشكّل خطراً على الحراك وشعاراته وأهدافه، لكنه لا يعني بالضرورة أن الأميركيين هم الذين يحركون الشارع العراقي أو أنّ كل المتظاهرين هم "مخربون" أو "مندسون" أو يأتمرون بأوامر سفارات المنطقة الخضراء، وفق الرائج في الإعلام العراقي الموالي للحكومة. الأزمة في العراق بنيوية وموروثة وعمرها عشرات العقود من الزمن، لكنها لا تبرر لأحد الترحم على نظام صدام حسين الذي لم يُعِد العراق بل الوضع العربي برمّته عقوداً من الزمن إلى الوراء، وبالتالي، من مصلحة القوى السياسية العراقية أن تتبنّى الحراك لتصحيح أهدافه ومنع بعض رموز النظام القديم من محاولة الإستثمار وإعادة عجلات الزمن إلى الوراء.يشكل العراق اليوم ساحة الاشتباك الأساسية بين إيران والأميركيين. ما يجري في الساحات الأخرى مثل سوريا واليمن ولبنان، لا يحجب حقيقة أن المعركة الأساس هي على أرض العراق، وحسناً فعل رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بقراره عدم حصر تحالفات بلاده بين محوري واشنطن وطهران، بل هو ذهب للتنويع عبر الانفتاح على الروس والصينيين. وهي خطوة أدت إلى استفزاز الأميركيين وانزعاجهم، لكنها لا تعني أن الرجل يتعرض لمحاولة اغتيال سياسية من الأميركيين، خصوصاً في ظل انتفاء البديل، من جهة، واحتمال أن يأتي خيار أكثر إيرانية من عادل عبد المهدي في حال سقوطه، من جهة ثانية، وهو أمر يدركه أغلب المراقبين للمشهد العراقي. القضية لم تعُد اقتصادية فقط، فالمطالب الآن ترفض النظام البرلماني الطائفي، وتريد نظاماً رئاسيّاً وطنيّاً، أو برلمانيّاً وطنيّاً. وهناك مطالب سيادية، تستهدف إنهاء الهيمنة الخارجية على العراق. وهذه الاحتجاجات ليست الأولى. وما لم تبطل الحكومة نهجها القاسي، ستشتد الاحتجاجات وإذا خمدت قد تتجدد بعد فترة بمضمون أكثر تطرّفاً، مع تداعيات مقلقة محتملة داخل البلاد وخارجها. وهكذا لا بديل عن إنهاء حاضنة المحاصصة والفساد والتمايز الاجتماعي والطبقي الصارخ، المتمثلة بالنظام السياسي القائم ورموزه، إنهائها عبر تغيير جذري مطلوب لتحقيق بديل الدولة المدنية الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.  

لماذا لا يستعاد المال المنهوب، ويبدأ التقشّف من فوق؟

 
لم يكن ما جرى يوميْ الأحد الفائتين من تحركات شعبية في بيروت ومناطق لبنانية أخرى، سوى عيّنة لما يمكن أن يحدث من جرّاء تفاقم الأزمة الاقتصادية الاجتماعية والضائقة المعيشية. ويؤكد شمول هذه التحركات مناطق عديدة، أن الجوع والفقر لا دين له ولا طائفة أو مذهب، وكذلك الثراء الفاحش والفساد. فاللبنانيون بمعظمهم، وبخاصة الطبقات الشعبية، ينتابهم القلق المترافق مع الشعور بعجز الطبقة السلطوية وسياساتها المتبعة، عن إيجاد الحلول لحاضرهم ومستقبل أبنائهم. فهم يشهدون يوميّاً إقفال مؤسسات جديدة متوسطة وصغيرة، ويلمسون تقلّباً وارتفاعاً بأسعار سلع ضرورية، وببدء انخفاض سعر الليرة حيال الدولار الأميركي. ويرون أن في الوقت الذي يتزايد فيه عدد البالغين سنّ العمل سنوياً، المتخرّجين من الجامعات والثانويات والمهنيات، تتناقص فيه فرص العمل التي تملي على أفضل الكفاءات والطاقات الهجرة القسرية. وما دام الاقتصاد الللبناني ريعيّاً وتابعاً لمراكز الرأسمال العالمي وصناديقه ووصفاته، فلا خروج من هذه الأزمات. وإذا ما كان السبب الأساسي لاستمرارها، يكمن في سياسات السلطات المتعاقبة منذ 30 سنة، والتي جعلت الاقتصاد اللبناني الريعي، أكثر تبعية لقوى الرأسمال الخارجي ووصفات صندوق النقد الدولي، فإن استمرارها في السنوات الأخيرة أدّى إلى تسريع الانحدار اقتصاديّاً وماليّاً وفي الوضع المعيشي، خصوصاً لذوي العمل المأجور والطبقة الوسطى. ورغم كثرة التحدّث عن الإصلاح ومحاربة الفساد، لم تُحل مشكلة. ولم يُحاسب فاسد واحد. ويجري الحديث عن اتخاذ تدابير غير شعبية، لتخفيض عجز موازنة 2020، بتحميل الطبقات الشعبية أكلاف أزمة هم ضحيتها وجعلهم أيضاً ضحية ترميمها. ولم يخطر في بال المسؤولين استعادة المال العام المسروق الذي يبلغ أضعاف أضعاف عجز الخزينة لسنوات طويلة. وإذا كان لبنان ليس مُفلساً بل منهوباً، فلماذا الصمت عن الناهبين؟ ولماذا لا يُفرض على حيتان المال في المصارف وكبار الأثرياء الذين راكموا أرباحهم من استغلال الشعب، أن يُسهموا بتخفيض بل إطفاء هذا العجز؟ فلم يعد بوسع الناس تحمّل أوجاع أكبر، وديون على لبنان أكثر، سيدفعها اللبنانيون وأحفادهم والأجيال الجديدة. فلم يتركوا للناس مجالاً واحداً ليتنفّسوا. فقد رفعوا خلسة، فاتورة الكهرباء في بيروت، برفع مائة كيلو واط من الشطر الأول المنخفض سعره، ومائتي كيلو واط من الشطر الثاني، وضمّهم إلى الشطر العالي، فتزداد فاتورة الكهرباء الشهرية حوالي 35%. عدا ما تتضمّنه هذه الفاتورة، وكذلك فاتورة الهاتف والمياه، من أصناف رسوم، تزداد عاماً بعد آخر. ويبشّر المسؤولون الناس، بأن من ضمن تدابير تخفيض العجز، زيادة ساعات تقنين الكهرباء، بعد 30 سنة على توقّف الحرب الأهلية. هذا إضافة إلى التلويح بزيادة أسعار المحروقات. وتأتي مشكلة قانون الايجارات الجديد، لتفرض تهجير من عجزت الحرب الأهلية عن تهجيرهم من بيروت والمدن، وفي ظلّ غياب خطة إسكانية لا حلّ لمشكلة السكن بدونها. ومع أن صندوق مساعدة المستأجرين القدامى لم ينشأ بعد، ثمة قضاة يحكمون على المستأجر بالإخلاء. وجرى توقّف القروض السكنية التي تنعكس سلباً خصوصاً على الشباب وبناء مستقبلهم. وعلى رغم الحديث عن التدابير غير الشعبية، نجد أن عادات السلطويين هي هي... من تشكيل الوفود الفضفاضة والفنادق الفخمة المكلفة جدّاً للخزينة المنهوبة، إلى صفقات في كلّ مشروع. فالتدابير غير الشعبية هي على الناس الذين هم ضحايا سياساتهم وفسادهم، ولا تطال تحاصصاتهم ومحميّاتهم. فتبقى الخزينة سلّة مثقوبة، ويحتمون بطوائفهم. فلماذا لا تطال التدابير غير الشعبية النواب والوزراء ونفقات الرئاسات وأصحاب المخصّصات الكبيرة والمصارف؟ ألا يجب أن يبدأوا بأنفسهم...؟ّ!لم ينسَ الناس الرئيس اليساري السابق للأوروغواي، خوسيه موهيكا، الذي انتهت ولايته منذ سنتين تقريباً. فقد اقتطع من مخصّصه كرئيس، المبلغ الذي كان يعيش فيه قبل رئاسته، وحوّل الباقي إلى جمعيات خيرية، وبقي على تنقله في سيارة فولزفاغن يمتلكها قبل رئاسته، ويتنقّل بدون طبل وزمر. كما شاهد الناس على الشاشات، رئيسة كرواتيا، كوليندا غربار كيتاروفيتش التي اختارت الانتقال إلى سوتشي ـ روسيا في القطار لأنه أقلّ كلفة من الطائرة لتشجيع فريق بلدها لكرة القدم في مباريات كأس العالم.فلماذا لا يبدأ التقشّف من فوق ويُستعاد المال المنهوب؟!!  

ادفع يا سعدو

 
تخيّل الأمر معي، إذا كان عليك دين لبائع الخضار بجوار منزلك (ليكن اسمه خضر). وأصبح الأمر ضاغطاً، ولنفترض أنه لديك أخ اسمه سعدو يعيش معك في المنزل ويأكل ممّا تشتريه من خضر. فماذا ستفعل في هكذا وضع؟ سيكون لديك خيار من ثلاث، أو تعمل على زيادة إنتاجيتك لتغطية الدين. أو تطالب سعدو بأن يتحمل مسؤوليته ويشاركك في سداد الدين. أو تسعى للحصول على المال عبر دائن ما. وبما أنك كنت قد بدأت بالاستدانة من خضر، فهذا يعني أنك غير قادر في ظرفك الحالي على زيادة إنتاجيتك. فلنعتبر أن أخاك لم يقبل بتحمل المسؤولية لا بل عرض عليك أن يقدم لك مستحقات خضر كدين ومع فائدة. في هكذا حالة لن يكون أمامك إلا الاستدانة. فلنفترض أنك حصلت على قيمة الدين من سعدو ولتكن قيمته 100$ مضاف إليه فائدة، ولتكن نسبتها 10%. في هذه الحالة ستتمكن من سد الدين المتوجب عليك لخضر. ومن جهة أخرى، تراكم عليك دين جديد قيمته 110$. هل انتهت القصة؟ أبداً. الحياة مستمرة، وحضرتك، بعد أن قمت بتسديد الدين لخضر، وراكمت دين جديد لدى سعدو. ستبدأ منذ اليوم الثاني في الاستدانة مجدّداً من صاحب محل الخضار خضر. خاصة إن كان إنتاجك أقل من مصروفك. فتخيّل معي إن كنت لا تنتج أصلاً. بهذه الحالة، سيكون عليك أن تراكم دين جديد من دائن جديد أو من سعدو نفسه، ولكن ليس لتدفع 100$ جديدة لخضر فحسب، بل ولتدفع الـ110$ لسعدو. وبهذه الحالة عليك أن تستدين 210$ لتسد الدين. وإن كان هذا الدين بنفس الفائدة الاولى، حينها سيصبح المبلغ المتوجب عليك 210$ مضاف إليهم فائدة 10%، أي الدين الإجمالي 231$. وإن استمرت هذه الحالة لمدة 30 سنة. فهذا المبلغ سيتضاعف مئات المرات. تقريبا هذا ما حصل في لبنان. عمد مصممو اقتصاده السياسي على جعله في خدمة دين عام، الذي هو بدوره في خدمة هؤلاء المصممين، أي تلك السلطة التي حكمت بعد الحرب بالتحالف مع ما يُسمّى "الطغمة المالية"، أصحاب المصارف والثروات المتوارثة. تخيّل معي أنك أحد الذين قدّموا لصديقنا في المثال قرضاً بقيمة 100$، ولتكن يا صديقي شخصاً جشعاً يعبد المال، ويسعى إلى تكديسه. فهل ستسعى إلى إيقاف هذه الدوامة في لحظة ما؟ أم ستقوم بتديين صاحبنا أكثر، ومن ثم تصبح خدمة الدين أو قيمة الفوائد المفروضة عليه أكبر بعشرات المرات من الدين الأساسي نفسه. وأن يبقى صديقنا في المثل الأول يدفع لك مدى الحياة دون التمكن من سداد الدين ولا حتى فوائده. ألن يكون ذلك عملاً رائعاً لشخصٍ جشع مثلك؟ من جهة أخرى. تخيّل معي يا صديقي الجشع أن يطلب منك أحدهم حلّاً لهذه المشكلة. ألا وهي إيقاف تدهور حالة صاحبنا المديون. فما الذي ستقترحه؟ أعتقد أنك ستطلب منه أن يتقشف. وإن قالوا لك هو أصلا لا يأكل، فستقول أن الله في عونه! سأبحث له عن دين جديد ليسدّد لي قسماً من مستحقاتي. سأتنازل من أجله وأتحول إلى شحاذ يصول ويجول على الدائنين لأؤمن له مالاً على شكل دين، ليعطيني إياهم على شكل خدمة دين. ولكن يا صديقي، أنت حققت ثروات طائلة من هذه اللعبة، وهي مستمرة منذ ثلاثين عاماً، ألا يجب أن تدفع أنت قليلاً؟ ألم يقم هذا الرجل المسكين بدفع لك دينك الأساسي مئات المرات خلال هذه الفترة؟ طبعاً ستقول: أنا لا دخل لي. هذه هي اللعبة. أنا اعطي الدين وهو يعمل كل حياته ليدفع لي. وماذا عن سعدو؟ فهو يأكل ويشرب ممّا يشتريه أخاه، فلماذا لا يدفع؟ ستقول: سعدو قام بواجبه، وقدم ديناً لأخيه كي يسدد دينه لخضر، هل نسيت؟ طبعا لم أنسَ. أخيرا. في حالة لبنان بعد الحرب، أفضل طريقة كان ممكن اعتمادها لتغطية عملية إعادة الإعمار هي ضريبة تصاعدية على الدخل والثروة، يتم من خلال عائداتها تمويل هذه العملية. وبهذه الحالة، لا يحتاج البلد الى الاستدانة. والان بالعودة الى مثالنا، صديقنا الجشع، وليكن اسمه فؤاد مثلا، بما انه أحد مصممي الاقتصاد السياسي لهذا البلد، طبعا لن يقبل أن يساهم في نهضة البلد عبر دفع ضرائب، لأنه بذلك لن يحقق اي عائدات مالية، بل سيكون مواطن كغيره يتحمل كلفة اعادة بناء الاقتصاد. لذا فؤاد، عمل وسيظل يعمل على إغراق الدولة بديون تكون عائدات فوائدها له. وهكذا سيكون كل اللبنانيين يعملون لدى فؤاد وأصدقائه. فكلما زاد حجم الدين زادت ثروات فؤاد وأصدقائه. أخبار متفرقة: الرئيس الحريري في الإمارات بهدف الحصول على أموال للبنان على شكل ودائع بفوائد عالية. الجراح وشقير يرفضون الحضور أمام المدعي العام المالي، ويستخدمون الغطاء الطائفي لمنع التحقيق معهم في قضايا فساد، وهو نفس الأسلوب الذي اعتمده فؤاد السنيورة عندما تم فتح ملف الـ 11 مليار. جمال ترست بنك اقفل نتيجة للعقوبات الأميركية.

مصر ولبنان والعراق: انتفاضات شعبية متشابهة؟

 
الشعوب العربية ليست على ما يرام. الحروب والاحتلال والاستغلال الطبقي والفقر والبطالة والتهجير والقتل والإرهاب والعقوبات والمذهبة والأصولية والقمع والاستبداد تلاحقها من كل صوب. منطقة تختزن ثروات نفطية هائلة، وموارد بشرية وأراضٍ ومساحات ومضائق وممرات وموقع جغرافي تكفي أن تصنع منها قطباً دوليّاً صاعداً لديه ما يكفي من الموارد والإنتاج لتأمين الأمن الاجتماعي والسياسي، وفرص العمل والتعليم والصحة والسكن والاستقرار لكل أبنائها. لكن، هيهات. كما كل التناقضات التي لا تجد حلولاً لها، لا بدّ لتلك الأزمة أن تنفجر، وأن تنعكس انتفاضات شعبية مستمرة على هذا الواقع المزري، وهذا ما يحصل اليوم. تعيش العديد من دول المنطقة موجةً جديدةً من انتفاضات الغضب الشعبي التي تأتي كردة فعل على الواقع المعيشي الحالك. ها هم الملايين ينزلون إلى شوارع مصر والعراق ولبنان والسودان والأردن والجزائر وغيرها لا لشيء إلّا للتعبير عن ذاك الألم والشعور بالمهانة والذلة وانتقاص الكرامة من هذا الواقع. انتفاضات لا زال يحكمها إجمالاً الطابع العفوي والشعبوي والقائم على رد الفعل و"فشة الخلق"، لكنّه أيضاً يحمل في طياته تعبيراً صارخاً عن الحاجة الماسة والتاريخية لإحداث تغيير جذري تقدمي على امتداد دول منطقتنا. مصر أمّ الدنيا التي كانت بوصلة المنطقة ورافعة العمل السياسي فيها، صارت مصر التي تنتظر صندوق النقد الدولي كي يمنّ عليها بقروض ميّسرة مقابل حزمة من الشروط و"الإصلاحات". مصر التي كانت محور الصراع مع العدو الصهيوني لعقود، صارت مصر التي تحاصر غزّة، والتي تتمنى على أثيوبيا أن لا تقطع عنها مياه النيل. حكمها "مبارك"، نيابةً عن المؤسسة العسكرية طويلاً، ومن بعده حاول أن يحكمها "مرسي" والإخوان، لكنّ مصر انتفضت على الأول وقاومت قمعه بالحديد والنار، ثم خرجت على الثاني فأقصته دون تردد، لينتهي بها الأمر بالنظام الجديد - القديم عبر حكم السيسي نيابةً عن المؤسسة العسكرية مجدداً. حملةٌ من الوعود الرنانة والأحلام الوردية رافقت حكمه، وكذلك رافقته ممارسات متجدّدة من كمّ الأفواه وترويض المعارضة وإسكات أي صوت منتقد، وتم الإمساك بالإعلام تماماً. 60 ألف مواطن مصري على لوائح الإرهابيين المطلوبين للدولة بينهم شيوعيون ويساريون تهمتهم أنهم... إخوان! هرول النظام نحو الصناديق المانحة، فهو يريد المال لإطلاق بعض المشاريع وإيهام الناس أنّ الوضع على ما يرام، وأن الأزمة أخيراً وجدت حلّها. المال الخليجي أتى بوفرةٍ، وبشروط سياسية منها ما هو مرتبط بالحرب على اليمن ومنها أو بالتنازل عن سيادة البلاد عن جزرها تيران وصنافير في البحر الأحمر. مال صندوق النقد الدولي أتى منه 12 مليار دولار، ومعه حزمه من الشروط، هي نفسها التي يطرحها علينا مهندسو "سيدر" اليوم في لبنان. في مصر، تحرير سعر الصرف، وتحرير أسعار المحروقات ورفع الدعم عنها، ورفع الضريبة على القيمة المضافة إلى 14%، كانت من الوصفات الجاهزة لدى الصناديق، يرونها تصلح لكل زمان ومكان. سلطة تعمل في خدمة رأس المال المصري والدولي لم تتردد لحظةً. أطلقت نيران إصلاحاتها القاتلة على شعب يئنّ فقراً أصلاً. فكانت النتيجة تدهوراً حاداً في حياة المصريين رغم بعض التحسنات الشكلية التي طرأت على أرقام الموازنة ومؤشرات الاقتصاد الكلي. لكنّ الاقتصاد الذي يعني الناس هو اقتصاد توزّع الثروة، وهو حال الطبقة الوسطى والفقيرة التي تدفع دوماً ثمن هذه السياسات لتضخ الثروة من جيوبها إلى جيوب الأغنياء. 100 مليون مصري يعيش 33% منهم الآن في حالة فقر مدقع حيث يعيشون بأقل من 48$ شهريّاً بحسب أرقام المؤسسات الإحصائية الرسمية، فيما تقدر جهات دولية وصول نسبة الفقر عموماً إلى حوالي 60% أي 60 مليون مواطن مصري. لم تعد الأكاذيب تجدي نفعاً، ولا أبواق السلطة وإعلاميوها. الناس الموجوعة سوف تخرج على الحاكم، سواء أعجب ذلك المفتين والضباط أو لم يعجبهم. إرهاصات أولى ظهرت في مصر في الأسابيع الماضية، ولا شكّ أن حاجز الخوف والترهيب يكسر من جديد، ولعلّ الشارع يريد أن يعلي صوته ليقول أن لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير، وأن حلم المصريين أن تعود مصر رافعةً للعمل الوطني كما للتغيير المنتظر. لبنان مختبر آخر لسياسات اللبرلة وضرب القطاعات المنتجة والاستدانة من أجل تمويل حاجات الخزينة التي يذهب جزء كبير منها سرقة لمصلحة أرباب السلطة. لبنان "عايش بالدين"، لكنّ هذه الوصفة لها حدودها التي لا بدّ ولا مجال إلا أن تنفجر إذا لم تكن الاستدانة من أجل التنمية والاستثمار والإنتاج. وبالفعل، ها هي تنفجر اليوم. لقد أدى اتفاق الطائف الذي عقد بتسوية سورية سعودية أميركية إلى إرساء معادلة جديدة في تقاسم السلطة، والتي قادها الثلاثي المستقبل وأمل والاشتراكي. ولتسهيل سيطرتهم كان لا بد من إقصاء المعارضة وإسكات صوتها ومصادرة النقابات عبر التزوير في الاتحاد العمالي العام، وصولاً إلى السطوة الأمنية وشراء الذمم. انهارت التسوية القديمة عام 2005، ثم أنتجت تسوية جديدة في العام 2007 أدت إلى تحويل ثلاثي الحكم إلى سداسي مع دخول القوات اللبنانية وحزب الله والتيار الوطني الحر بشكل فعال إلى جنّة الحكم وبقرته الحلوب، وبشكل أساسي بينهم التيار الوطني الحرّ. تغيرات كثيرة حصلت في الوجوه والأسماء والقيادات والأحزاب الحاكمة، لكن المضمون ظلّ واحداً. نموذج اقتصادي ريعي يقوم على الاستدانة لتمويل العجز، ويضع مقدرات الدولة كلها في خدمة مصالح رأس المال الريعي من مصارف وشركات عقارية كبرى وغيرها. ووسط هذا النموذج، تحول زعماء الميليشيات الذين ربحوا الحرب وركّبوا التسويات إلى رأس مال جديدٍ طفيلي قام على حساب المال العام فراكم مليارات الدولارات من النهب المنظم لخزينة الدولة وصناديقها ومشاريعها وتلزيماتها. تركز التحالف بشكل صلب ومتين بين رأس المال الريعي المتأصل وبين رأس المال الطفيلي الصاعد، فأنتجوا نظامنا اللبناني المستمر حتى اليوم. انتصارات جبارة تاريخية يسطّرها الشعب اللبناني في المقاومة ضد الاحتلال، ترافقها هزائم نكراء أمام نظام الاستغلال الرأسمالي. عمقت سياسات الأحزاب الحاكمة الفروقات الطبقية بشكل صارخ بين اللبنانيين، وبفضل النموذج الريعي صار 1% من الحسابات المصرفية يستحوذ على أكثر من نصف الودائع، أي على ما يقارب 90 مليار دولار، فيما اللبنانيون يكافحون صبح مساء لتأمين مسكن يأويهم ومدرسة لأولادهم ومستشفى لأهلهم، وبالكاد يجدونها. كما في مصر، 35% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، ومليون لبناني هاجر دون عودة خلال العقود الثلاثة الأخيرة بحيث من الصعوبة أن تجد بيتاً في لبنان لم يهاجر منه أحد أبنائه إلى أربع جهات الأرض بحثاً عن الأمل والخبز والكرامة. هذا هو نظام المذلة والإفقار، نظام السرطنة والقتل البطيء، نظام الاستغلال الطبقي والتهميش الاجتماعي، نظام الانهيار الاقتصادي الحتمي الذي لا إنقاذ منه إلا بالتغيير الجذري الشامل لهذه السلطة، ونظامها، وأحزابها الحاكمة. العراق ليس الجحيم، حتماً. لكن بالنسبة لفقرائه الذين لم يروا إلا القتل والحصار والقهر والاستغلال والقمع منذ عقود حتى اليوم، قد يكون يبدو لهم كذلك. فبعد عقود من الاستبداد الوحشي تحت حكم النظام السابق، والعقوبات الدولية التي قتلت مرضى العراق وأطفاله جوعاً ومرضاً، جاءت الحرب وجاء الاحتلال الأميركي المدعوم من أساطيل دول حلف شمال الأطلسي لتترك وراءها مئات آلاف القتلى وبلداً منهكاً ومدمّراً. ضربوا المثال سابقاً بـ"خراب البصرة"، وربما صار اليوم واجباً تعديل المثل الشعبي واستبداله بـ"خراب العراق". اليانكي الذي تخلى عن سياسات السيطرة الناعمة والنهب الرأسمالي المقونن وفق قواعد الامبريالية عاد إلى زمان الاحتلال المباشر وأحلّ جيشه وأمنه واستخباراته وفرق الموت الخاصة به على العراق منذ عام 2003. الآتون من الغرب ركّبوا نظاماً جديداً بالتعاون والتضامن مع أهل الشرق. تسوية أميركية إيرانية أفضت إلى إنتاج نظام "ملبنن"، يقسم العراق مذاهب وأقاليم وقوميات ليضع الكل بمواجهة الكل، كي تسهل السيطرة والتحكم. صار لكل منطقة ولكل حزب مذهبي ميليشياته، واتفق الجميع على ضرب بنية الدولة وعدم السماح بقيام جيش عراقي وطني، وإضعاف مؤسساتها ووضع مقدراتها في خدمة الفساد والمحاصصة والنهب المنظم الداخلي والخارجي. ذلك استمر حتى اليوم ليضرب أي امكانية لقيامة العراق، ولحقوق شعبه في ثرواته. منذ سنوات طويلة عاد إنتاج البترول العراقي كي يكون من الدول الأكثر إنتاجاً في العالم، لكن أين مال النفط العراقي؟ حتماً لن تجده في جيوب مواطنيه، ما خلا القلّة الحاكمة الفاسدة التي راكمت عشرات المليارات من الدولارات في حساباتها الخاصة فيما شعبها لا يجد القوت في بيته. خرج شعب العراق اليوم شاهراً سيفه. إنتاج نفطي هائل وأموال تفوق 60 مليار دولار سنوياً من عائداته، فيما الكهرباء لا زالت غير موجودة حتى اليوم، والبطالة في أوجّها، والفقر يقضّ مضاجع الملايين المنهوبين. البلاد في حالة صراع سياسي مستمر، والتوظيف السياسي لأي تحرك هو أمر متوقع خاصة في ظل الحرب الشعواء التي تخوضها الولايات المتحدة ضد إيران والقوى المتحالفة معها، لكن العبرة تكمن، بجميع الأحوال، في أنّ هذا النظام بكل مكوناته قد جلب الفوضى واللاستقرار، وأمن شروط النهب المنظم، وكرس الاستغلال وعمّق الانقسام، وأنتج رأسماليةً طفيلية تختزن عشرات المليارات من المال العام فيما البؤساء مهمشون على قارعة الحياة. خرجت الانتفاضات الشعبية، كردة فعل طبيعية متوقعة على هذا الحال، وهو أسوأ الأحوال. إنّ الصرخةٌ في وجه الظلم والهيمنة والنهب والفساد والاستغلال، سوف تجد الكثيرين ممّن يريدون استثمارها أو تحويرها أو خنقها في مهدها، لكن هل لها أن ترى من يسمعها ويلاقيها ليحمل لواءها؟ تتشابه المعطيات والظروف على امتداد منطقتنا، كما الوضع في مصر ولبنان والعراق، حيث تجثم على صدور الشعوب أنظمة تقوم بحماية النهب والاستغلال الداخلي والخارجي، لتبني قصوراً من ذهب، وحسابات مصرفية من 9 أصفار، على حساب الملايين الذين يئنّون ألماً ومهانةً ومذلّة. انتفاضة الفئات المهمّشة والمستغَلّة في كل البلدان العربية، التي نراها اليوم وتلك الآتية في المستقبل، هي النتيجة المنطقية والحتمية لهذا الوضع القائم، ولن يكون حلّها إلا في التغيير الجذري والشامل لواقعنا السياسي الراهن، وهذا هو الدور المأمول من قوى التغيير والتقدّم والتحرّر.