تسجل الانتفاضة الشعبية، انتفاضة 17 اكتوبر، ولأول مرة في لبنان، حدثاً تاريخيّاً بكل المقاييس، وهوحدثٌ سيؤثّر حكماً، ويطبع بطابعه المرحلة المقبلة، وفي اتجاهين؛ أفقياً، على اتساع الوطن وشمولية القطاعات والقضايا، وعمودياً، على مستوى القوى المنخرطة فيه على ضفتي المواجهة؛ السلطة ومكوناتها، والشعب بكليته وبقواه السياسية – الجذرية منها أو المتسلقة على أكتاف المناسبات للاستفادة الآنية من نتائجها– يضاف إليهما الخارج، وهو الممسك ببعض الداخل، من قوى سياسية مرتبطة به وبمشاريعه، والمعني بالأساس، بالتركيبة السياسية القائمة في لبنان، والتي بطبيعتها تابعة بالسياسة والاقتصاد، لتعكس توازنات إقليمية ودولية محكومة بنمط من علاقات الدول ومصالحها.
فالقراءة السياسية لهذا الحدث محكومة إذن بتلك التعقيدات؛ فالتركيبة الهجينة للنظام السياسي جعلت مساحة التقاطع الإقليمي والدولي واضحة وجليّة، ما يجعل كل قراءة تغفل أيّاً من تلك العوامل، ناقصة. وفي المقابل، أي تعامٍ عن الظروف الداخلية للأزمة، والتي لا تنقصها الأدلّة ولا الإشارات، ستجنح بالابتعاد عن الفهم الموضوعي المطلوب في هذا الوقت. فأدلّة الداخل لا تنقصها مؤشرات الخارج، لأن بناءه لم يكن في الأساس من خارج عباءة ذلك الخارج وتأثيراته، لا بل أكثر من ذلك، كان من صلب مشروعه الإمبريالي المستمر. فالنظام السياسي القائم في لبنان، ومنذ وجوده ككيان مستقل، لم يكن، لا في الشكل ولا في المضمون وكذلك في الوظيفة، إلّا استجابة لخارجٍ استثمر مبكراً في طبيعة هذا البلد وتركيب منظومته، السياسية والاقتصادية، القائمة على الجمع بين الطوائف، ككيانات "مستقلة" ضمن منظومة تحاصص واحدة، لكنها ليست ثابتة، تتبدل أدوارها وفق تبدل الوصايات الدولية؛ فَعَمِل، أيذلك الخارج، على ترسيخ تلك الوضعية كما على تطويرها وحمايتها. فأي خلل ناتج عن سلوك هذه التركيبة أو مشغليها، كان يُعَبّر عنه بتوترات وحروب أهلية، تَخرج البلاد بعدها بنمط علاقات جديدة تُصاغ بين مكوناتها "المستقلة" تعكس نتائج تلك الحروب.
فعلى ذلك التقاطع، البنيوي والشديد الوضوح، القائم بين الداخل والخارج، سنقدم الرؤية المفترضة لفهم الظروف ولقياس المقاربات؛ فالطبيعة التابعة–المستدامة للنظام السياسي في لبنان أعطت لذلك الخارج "مونة" وازنة على الداخل، وهذا مفهوم ومعلن وليس مستتراً، وقد طاول حجم التدخل، مختلف القضايا وبكل الأساليب والطرق، ما أوجد أرضية التقاطع تلك، الواقعة بين تحديات مشاكل المنطقة وتطوراتها وتعقيداتها من جهة، واستجابة القوى الموجودة لتنفيذ أدوار مطلوبة منها في الصراعات الدائرة من جهة أخرى. هذا التناقض أوقعها في انفصام جليّ ومستدام فيطبيعة موقفها وسلوكها والدور المطلوب منها، ولو أدّى ذلك إلى تناقض مع "شريكها" المحلي. وهذا ما شهدناه تكراراً طوال مرحلة من عمر لبنان المستقل.
بالاستناد إلى هذه القراءة يمكننا مقاربة هذا الحدث "التاريخي"، الذي يجري اليوم، بغض النظر عن النتائج المتوقعة أو المرجوة منه؛ هو حدث غير مسبوق في التاريخ المعاصر للبنان، بحيث ينتفض الشارع متخطّياً، ولو بالشكل، حدود الانقسام المذهبي والطائفي والمناطقي الذي عاشه أطواراً متتالية من الزمن. فهذا الانزياح "الجنيني"، الذي ظهر، وفي كل المناطق، والذي عُبّر عنه بخطاب موحّد، إلى حدٍ يمكن البناء عليه، قد يجعل إمكانية التفلت من كوابح المذاهب والطوائف أمراً متاحاً ولو جزئياً، بالإضافة إلى تلمس حالات من التمرد الخجول على خطابات سياسية، لطالما ربطت الجمهور بمصالح من خارج مصلحته المباشرة، فظهر الناس في انتفاضتهم اليوم وهم أكثر جرأة على الإشهار بغضبهم، والذي لم يرقَ بعد إلى حالة من التفلت أو الانفكاك عن وعيهم الطائفي باتجاه آخر وطني أو طبقي، وهذا أمرٌ لا يمكن التغافل عنه أو تخطّيه، إذ لا يمكننا هنا تسجيل تقدم ملحوظ في هذا المجال بل إرهاصات محسوسة أو مفترضة لذلك التقدم، لا بدّ من التدقيق فيها، وأخذها من ثمّ، في الاعتبار.
وعليه، يبقى الرهان على تجذير تلك النزعة "الانفصالية" الحاصلة ولو جزئياً وتطويرها إذا أمكن، ومن ثم تثبيتها عند الحدود التي نستطيع البناء عليها. هذا الأمر يتطلّب إحداث تلك النقلة النوعية المطلوبة، وبعيداً عن أي أوهام أو التباسات، بين حدّين متوازيين: حد المجاهرة المعلنة برفض السائد والموروث، وحدّ الاقتناع بالخطاب المعلن والموجود اليوم والمُعَبّر عنه في الشارع، ولو بطريقة مرتبكة. وهذا لن يتم إثباته والركون إليه، إلّا من خلال توضيح السقف السياسي وخطابه المعلن ونتيجته، والتي ستشكل فرزاً واضحاً في المواقف، لا لبس فيه ولا التباس، وهذه هي النقلة النوعية المطلوبة اليوم والتي يمكن الرهان عليها لبناء المستقبل.
إن المجاهرة في رفض النظام السياسي القائم، وتحميله وزر الأزمات المتلاحقة، والتي أوصلت البلد إلى الانهيار واستكمالاً، تحميل من تولى السلطة المسؤولية السياسية عن ذلك، باتت من ثوابت كل تلك الساحات، وإن تباينت أو التبست بين ساحة وأخرى، أو اندرجت في خانة ردة الفعل العفوية، وأحياناً المفتعلة. كما أن ضرورة إحداث تغيير في بنية السلطة السياسية وفي المنظومة الحاكمة، شغل قسماً كبيراً من الخطاب السياسي المواكب، والذي كان يترجّح بين سقوف متباعدة، وأحياناً متناقضة. فالمسافة بين الحد الأقصى والحد الأدنى للخطاب، لا تقاس هنا بالفارق الجوهري أو النوعي، بل بمنطق الاختلاف الحاصل والمعلن بوضوح في الوعي السياسي لهذا الشخص أو ذاك أو لهذه المجموعة أو تلك وكذلك لخياراتها. فنكاد نتحصل، وفي الوقت نفسه، على موقف سياسي واضح وعالي السقف من كل الساحات وأيضاً نقيضه. وهذا إن دلّ على شيء، فإنه يدل على حجم التفاوت الموجود بين المشاركين، وأيضاً على شمولية الحراك الذي يشمل أكثرية الشعب اللبناني، بمناطقه وإقطاعاته السياسية والطائفية والاجتماعية والطبقية.
بناءً على ما تقدم، فإن استخراج الموقف السياسي من نبض الشارع يصبح بذاته أمراً أكثر إلحاحاً، وإن لم يشكل إجماعاً آنياً. الخلاصة المحققة من كل تجارب التعايش مع هذا النظام السياسي تؤكد بأنّ لا حل إلّا بتغيير أساسه، وإعادة تكوين السلطة على قواعد جديدة، انطلاقاً من ثابتة، ولو أنها غير مكتملة العناصر، وهي أن الشعب قد تخطّى، ولو مرحليّاً، حاجز الخوف الوجودي الذي وضعه فيه أصحاب الطوائف. وعليه، يصبح الانطلاق من هذه الأرضية الصلبة للموقف الذي سيُبنى عليه المشروع، قادراً على إطلاق برنامج تأسيسي لدولة وطنية بمهام وبرامج وسياسات تستطيع من خلالها التصدي، بكفاءة وبمسؤولية، للتحديات الكبرى التي ستواجهها مستقبلاً، إن كان على مستوى مواجهة الأخطار والمشاريع الإمبريالية من خلال إقفال أبوابها إلى الداخل وتعطيل مفاعيلها، أو على مستوى تحديات مشاكل الداخل الذي يعاني، بدوره، فقدان المناعة المطلوبة. إن بناء الدولة يجب أن يلحظ ضرورة الربط ما بين طبيعتها ووظيفتها، لأن التركيبة الداخلية للمنظومة السياسية هي شرط أساسي لإشهارالأساس الحقيقي لبرنامج المواجهة.
لقد أهدرت التركيبة الحالية، المتوارثة والمهجّنة، والتي حكمت البلد منذ مدة طويلة، الكثير من الوقت والفرص والإمكانيات؛ فطبيعة النظام السياسي القائمة على المذهبية والطائفية، قد أفقد النظام متانة وحدته الضرورية للتصدي لمستلزمات بناء الدولة بكليتها. كما أن العلاقة التشاركية بين الكتل المكوّنة لتلك التركيبة جعلت نمط العلاقات البينية بين أطرافها تتّسم بالريبة وأحياناً بالتوجس، ما جعلها تهتز عند أي حدث، داخليّاً كان أم خارجيّاً. فمع تلك التركيبة المصطنعة، وبدورواضح من الخارج، أصبح لكل مكوّن علاقاته الداخلية، التي ترسمها خطوط الطوائف وحدود مصالحها وتقاطعاتها وطبيعة سلوكها، وأيضاً نمط علاقاته الخارجية، التي يستمد منها الدعم والمؤازرة متى تطلبت خياراته الداخلية ذلك، أو متى طلب منه الخارج تنفيذاً لأجنداته. في الحصيلة المضمونة، أصبحت المناعة الداخلية للبلد، ربطاً بنظامه السياسي، غير قادرة على الوقوف في وجه هذه التحديات.
ومع هذا الثقب الأسود المُتأتّي من ذلك، وخطورة فتح الطرقات الداخلية أمام تلك المشاريع، فإن البناء على شمولية التحرك يصبح الهدف المطلوب، وإن شابه بعض التشويش المقصود أو المخطط له، نظراً لأنّ الغاية الكبرى (الشمولية) تفسد الغايات المشتبه فيها (الجزئية) وتعطّلها، حتى ولو أدارتها دول ومنظمات ورؤوس أموال لها ارتكازاتها الطائفية والمذهبية. كما أن الانكفاء خلف نظرية المؤامرة، والتي هي موجودة بكل تأكيد، والتستّر بها، لا يمكن أن يؤسس لمواجهة جديّة معها، لا بل يعطي أصحابها دفعاً إضافياً نحو تحقيق غايةٍ من اثنتين: إمّا تحقيق أهدافهم وإمّا إحباط الأهداف الحقيقية للانتفاضة، وفي كلتا الحالتين هو انتصار لهم وهزيمة لنا. لذلك يصبح فرز الساحات ضرورة تفرضها موجبات المواجهة وضمانة مزدوجة، للنجاح ولمنع المصادرة في الوقت نفسه.
على تلك الأرضية، يصبح طرح شعار إسقاط النظام السياسي في لبنان ضرورة في المواجهة الشاملة مع المشاريع الإمبريالية المقيمة في منطقتنا أو القادمة إليها؛ فالطبيعة التابعة للنظام السياسي هي بذاتها إحدى أدواته، وعليه تصبح المقاربة أكثر جدية وموضوعية ووضوحاً، وأكثر قابلية للتحقّق، فيما لو أن زخم تلك التحركات جرت الاستفادة منه في هذا الإطار. وأيضاً، فإن الدور الخارجي لن يكون بعيداً عن الاستفادة من هذا الوضع، وأن يستثمر فيه تنفيذاً لمشروعه، منطلقاً من نقاط ارتكاز محلية، سياسية ومالية واقتصادية. أمّا مهمة التصدي لهذا "العدوان"، فيجب أن تكون من خلال تعديل موازين القوى لمصلحة من يرى في النظام السياسي الحالي وسياساته وسلوكه استجابة لمشاريع غربية تحاول وضع يدها بالكامل على المنطقة، ما يحرم الخارج، في هذه الحالة من أدواته، ومن لعب دوره، ما قد يفقده إمكانية الاستخدام والتجيير والاستفادة.
إنّ الانتفاضة الشعبية دخلت لاعباً جديداً على خط التوازنات السياسية والتحالفات في لبنان. وعلى هذا الأساس يصبح تطويرها وتصعيدها مسألتين ضروريتين تفرضهما طبيعة المواجهة القائمة؛ فتغيير السياسات مرتبط بتغيير موازين القوى وإعادة تشكيل السلطة وفق مكونات جديدة، تعكس، إلى حد مقبول، طبيعة القوى السياسية والمجتمعية التي تمثل، ليس على صعيد القضايا فقط، بل على صعيد نبض الشعب اللبناني الذي يرفض المشاريع التقسيمية في المنطقة وفي لبنان، ويعمل على مقاومتها والتصدّي لها، كما يرفض في الوقت ذاته التبعية للسياسات الاقتصادية والمالية والارتهان لها ولمؤسساتها الدولية، والتي تشكل الذراع المالية للإمبريالية. وعلى هذا الأساس نرى اليوم بأن المهمة الأساس هي استكمال تلك المواجهة، باتجاه إعادة تشكيل السلطة وفق آليات جديدة تعكس المستجد الحاصل داخلياً، مع الإشارة، لا بل التأكيد، أنّ "الخرق"، باتجاه بنية النظام، لن يكون إلّا أحد الأهداف التي يجب الوصول إليها، وأيضاً من خلال التحوّل باتجاهات جديدة في الاقتصاد وبوجهة تحررية، من إرث متوارث لا يزال معمولاً به إلى آخر يكسر بأبعاده، وبما يهدف إليه، التبعية المتوارثة، ويفتح أفقاً جديداً يتماشى مع المتغيرات الحاصلة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
فالتكامل الاقتصادي بين الدول مع الانفتاح على أسواق أو وجهات جديدة يمكنها أن تشكّل الخرق الحقيقي لتغيير مسار تقليدي أوصل البلاد إلى الأزمات المتتالية التي نعيشها. هذا الأمر يتطلب النظر في اتجاهات جديدة تخالف السائد، وتعمل لاستمالة قوى إضافية، ومن مواقع متقاربة؛ قوى تستطيع تقديم دعم إضافي، مطلوب بإلحاح الآن، إن أردنا التأسيس لمرحلة جديدة في الوضع اللبناني ومساره، وإلّا سيلزمنا عقوداً إضافية من السنوات كي يعاود الشعب اللبناني حركته هذه؛ ربما لأن دورة "الاستفاقة" له، يلزمها أطواراً كي تتجدّد.
Read more...