...اتحدوا
من خلال نظم تابعة وأصحاب السلطة والمال والريوع المرتهنين لأولياء جيوبهم، مالكي رؤوس الأموال والشركات العقارية، شاحذي سكاكين غلّهم وحقدهم ضد مصالح الطبقات الشعبية ومكتسباتها، ممعنين في المزايدة للنيل منها. فإلى كل الأجيال التي ملأت المصانع والمزارع والطرقات والساحات، وهي تكدّ وتكتب التاريخ بنضالاتها، وتخط رسالتها إلى كل عمّال العالم بأن "اتحدوا"، وإلى كل تلك الصرخات المعجونة بالتعب والمثابرة ووضوح الرؤية، والتي انتزعت بقوتها تلك المكتسبات كحقوق ترعاها القوانين والتشريعات وليست منّة من أحد، ألف تحية ووردة حمراء في عيدها؛ فالتلازم الطبيعي بين التحرر الوطني من سياسات القهر والتبعية وبين التحرير والمقاومة، والناتج، بدوره، من وعي ثوري خالص لا لبس فيه، هو ما يجعل النضال الطبقي معبراً أساسيّاً ووجهةً واضحة لمسار سياسي لكلّ من آمن بهذا الخيار وبالسير لتحقيقه من دون أن يضيّع بوصلته. فمسألة التصدي لكل ذلك البؤس، المتمادي في العالم نتيجة تغوّل الرأسمال المهيمن، يجب أن تصبح القضية المركزية والتي بسببها ومن أجلها يجب أن تتركّز أسس المواجهة واتّجاهاتها.
إن الوضع السياسي والاقتصادي الحالي في لبنان، بما يختزنه من مشاكل بنيوية في أسسه، وبما يحمله من مخاطر تمسّ الجميع، قد وصل إلى مستوى من الخطورة بات يهدّد بانهيار سيطال بمفاعيله أكثرية الشعب اللبناني؛ فالتبعية الاقتصادية، والناتجة بدورها من طبيعة النظام السياسي التابع بدوره هو أيضاً، القائمة على الاستجابة الطوعية لمندرجات مؤتمرات الديون ولشروطها الاقتصادية والاجتماعية وموجباتها، كما الاستجابة السياسية، جعل منه خاصرة ضعيفة في البنية العامة للدولة. ديون أعلى من الناتج بكثير، نمط ريعي، فساد، تبعية، هدر، محاصّة، زبائنية... كلّها عناصرٌ دخلت في التركيبة الهجينة للواقع الاقتصادي، المعمول به منذ انتهاء الحرب وحتى اليوم، وانعكست اهتراءً بنيوياً في التركيبة الاجتماعية، المرتبطة بطبيعة مصالحها، بشقّي أزمة النظام: السياسية والاقتصادية.
إن السياسات المعمول بها اليوم والمُتفق عليها مسبقاً بين أربابها من أصحاب المصالح، والتي أُقرّت كبرنامج عملٍ للحكومة الحالية، لم تأتِ نتيجة لدراسة الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي يمر بها الشعب اللبناني، وليس تلبية لحاجات أصبحت ملحّة عند عامة المواطنين، كمحاربة الفقر والبطالة والفساد وتوفير الصحة والتعليم والأمن...، وليس منعاً لانهيار اقتصادي، قد يصيب مفاصل الدولة وماليّتها العامة، وليس تحسّباً من أي هزة مالية قد يكون للبنان نصيبٌ منها، إنما تأتي لتنفيذ ما تتضمّنه مؤتمرات الديون المتلاحقة، واستجابة لشروطها ولشروط الدول المانحة، والتي، وكما بات معروفاً، ستضع مصالح الشعب اللبناني، من حقوق وتقديمات اجتماعية، في طليعة استهدافاتها، مروراً بتقليص القطاع العام وإمرار مشاريع الخصخصة ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وصولاً إلى زيادة الضرائب المباشرة وغير المباشرة وخفض الأجور وتجميدها واقتطاع نسبة منها... وبهذا التوصيف، هو استمرار السلطة الحاكمة في انتهاج السياسات نفسها التي اتّبعتها منذ الطائف وحتّى اليوم، والتي أوصلت البلد إلى ما هو عليه، من انسداد في الأفق السياسي واستكمالاً الاقتصادي والاجتماعي.
هذا الواقع وتداعياته يدعونا إلى رفضه ومواجهته بعناوينه وقضاياه، في سياق حركة اعتراض سياسي وتحركات متنوعة ومتصاعدة تهدف إلى بناء كتلة شعبية من كل المتضرّرين ومن الموقع النقيض؛ كتلة مؤلفة من قوى سياسية واجتماعية وأهلية ونقابية ومدنية تشمل أوسع فئات المجتمع، وبخاصة المهمشة منها كالكتل الكبرى، من سكّان المدن والأرياف والمتعطلين عن العمل والعمال المكتومين... كي تضغط من أجل إحداث تغيير حقيقي في بنية النظام السياسي القائم وسياساته، والذي أوصل البلاد إلى وضعٍ خطير من التأزّم وعلى المستويات كافة، وأن يجري العمل عليها من خلال مسار تصاعدي ومدروس، يسعى لجذبها إلى دائرة الفعل السياسي والاجتماعي القائم في مواجهة سياسات المنظومة الحاكمة، التي تهدّد حياة شعب لبنان وكادحيه، وإلى انتزاع مساحة واضحة في المشهد السياسي العام للقضايا الاقتصادية – الاجتماعية. هذا الأمر يستوجب اليوم إعادة صوغ الموقف السياسي - الاعتراضي ربطاً بتلك المستجدات الحاصلة وتوضيح التموضع في تلك المواجهة؛ فعملية بناء "الدولة"، بشكل عام، لا تقوم إلّا على أساس بنىً اقتصادية واجتماعية ثابتة ومنتجة، أي بانتهاج سياسة اقتصادية تشكّل قطعاً بنيوياً مع النمط السائد والمسيطر والمعمول به والذي أوصل الوضع إلى هذه النتيجة الكارثية. وعلى هذا الأساس تُصبح قضية بناء تلك "القطبية" المعارضة ضرورة تفرضها موجبات تأسيس البديل؛ بديل ناتج من طبيعة مختلفة كليّاً عن السائد في السلوك السياسي الذي أنتجه وينتجه فريق السلطة: معارضة وسلطة على الضفة نفسها، ما يجعل الاعتراض على السياسات منوطاً بأصحاب الدولة أنفسهم ومن موقع المناكفة السياسية أو تحسين شروط المحاصة فقط لا غير.
إن البديل المطلوب بناؤه اليوم، لا يجب أن يكون استمراراً ولا تقليداً للنظام السياسي الطائفي القائم حالياً، والذي هو شكل من تجليات النظام الرأسمالي، الذي يهدّد لقمة العيش كما يهدّد السلم الأهلي، بل من خلال تطوير "إطار سياسي-اقتصادي"، يكون مرتكزاً على برامج "ثورية" في مقارباتها وطروحاتها، وبخبرات تمتلك الإمكانية المطلوبة كي تفند السياسات المتبعة والتي أدّت إلى الأزمة، وتقدم رؤى أخرى من موقع سياسي واقتصادي مختلف عبر اقتراحات واضحة وبرامج قصيرة وطويلة الأمد، بالإضافة إلى العمل على استقطاب قوى سياسية، تتشارك معها الهواجس نفسها، وتبدي الحرص على إعادة بناء الدولة وفق منطق مختلف ومبدأ التشارك، وأيضاً قوى نقابية أو مكونات قطاعية من خارج عباءة السلطة والتفتيش عن قواسم مشتركة مع بعض الذين يمكنهم أن يساهموا في تلك القضية، سواء أكانوا قطاعاتٍ أو أشخاصاً أو حملاتٍ شعبية، مركزية أو مناطقية، والنظر بإيجابية إلى كل القوى والشخصيات والهيئات التي تقدم مقترحات أو تمارس فعلاً اعتراضيّاً جدّياً وحقيقيّاً في مواجهة سياسات السلطة، التي ستؤدي حتماً إلى المزيد من التفكك الاقتصادي المهدِّد للوحدة الاجتماعية، والتي ستصل في نهاية المطاف إلى انحلال الدولة وتفككها.
إن الانتقال من مرحلة المبادرة إلى مرحلة بناء الأطر القيادية التنسيقية في المناطق والمدن وصولاً إلى إنتاج قيادة تشكل مرجعية وطنية لإنقاذ البلد أصبح أمراً ملحّاً يفرضه تسارع الأحداث، كما يستوجب، وبالضرورة، إنتاج برنامج موحّد وبديل، تُشكّل مواده قضايا وتحركات (مناطقية، قطاعية، ومركزية)، ويقدم رؤية مختلفة عن السائد، مبيّناً ماذا تفعل السلطة وما تريد، وما نريده نحن وما يجب علينا فعله. هذا الأمر وكما أسلفنا، يستوجب توسيع دائرة الصلات بهدف جذب فئات اجتماعية جديدة ومن الموقع النقيض للمنظومات الحاكمة، وقواعد اجتماعية مُهمّشة نتيجة السياسات الاقتصادية المجحفة، أو فئات قطاعية من مهن حرة أو غيرها... أو حتى من قوى سياسية تعتبر نفسها رافضة لكل تلك السياسات المتبعة ونتائجها.
إن إرساء نمط جديد من السياسات الاقتصادية يتطلب الإقلاع عن سياسة المعاندة والكيدية والمراهقة القائمة على إرضاء أولياء النعم؛ فالاقتصاد المنتج المتحرر من التبعية لا يقوم إلّا على ركائز صلبة ومتينة، وهذا ما يجب العمل عليه. إن بناء الاقتصاد المنتج في بلد كلبنان لا يقوم إلّا على أساس علاقات سياسية واقتصادية سليمة بين لبنان وسوريا، وكذلك مع الأردن، كضرورة وطنية قبل أن تكون إقليمية، وأن تتطور كي تصل إلى حدّ التكامل. فتلك العلاقات ستشكل أساساً صلباً لاقتصاد متين يُبعد تلك البلدان عن الأدوار الاقتصادية الوظيفية أو الاستلاب السياسي لقرارها. وما مسألة إعمار سوريا والمشاركة فيها بشكل فعّال إلّا مدخل أساسي لإعادة بناء الاقتصاد الوطني اللبناني وفق منطلقات جديدة، تأخذ مصالح الشعب وموجبات بناء الدولة في أول سلّم الأولويات، بالإضافة إلى تمكينه من الصمود أمام أي أزمات إقليمية أو دولية، وإكسابه مناعة تعطّل مفعول أي ابتزاز أو عقوبات أو شروط. فعملية الإعمار، وقرب الموانئ البحرية والجوّية اللبنانية منها، يجب أن لا تجعل من لبنان منصّة لمحاصرة سوريا أو الضغط عليها تلبية لإملاءات غربية أو عربية، بل، على العكس من ذلك، يجب أن تشكل فرصة جدّية لإعادة النظر في عملية التنسيق الاقتصادي بين البلدين من خلال ربط البنى التحتية المتداخلة بينهما كشبكات الطرق والمصارف ومصادر المياه والكهرباء،... بطريقة تكون عملية الاستفادة منها أكثر إنتاجية وفاعلية، ومقدّمة لفضاء عربي اقتصادي مشترك، والذي لا حل لمشاكل التنمية والفقر في بلداننا من التبعية والارتهان والتحرّر من دون هذه السوق العربية المشتركة التي يجب أن تقوم على فكرة التكامل.
التحرر والتحرير هما مساران متوازيان لا ينفصلان. وفي الحالتين أصحاب الهمّ الوطني من فقراء وعمال وفلاحين ومثقفين ثوريين وطلاب وشباب وشعوب مقهورة... هم من سيتحملون وزر النضال القائم على موجبات ذلك التوازي، فإلى هؤلاء جميعاً سيكون العيد وسترفع معهم أقواس النصر؛ فالأول من أيار هذا العام سيكون محطة ضرورية لتأكيد خيارنا في المواجهة ولاجتراح البديل الوطني الحقيقي ومن الموقع النقيض، البديل الواضح على مستوى القوى والمنطلقات؛ فإلى كل المعنين بهذا الخيار نقول: اتّحدوا واجعلوا من شوارع بيروت والمناطق شواهد حيّة لقبضاتكم المرفوعة وأصواتكم الهادرة، ولتبدأ مسيرة بناء البديل الوطني الحقيقي القائم، في الأساس على فكرة التغيير الديمقراطي ارتباطاً بمصالح أكثرية الشعب اللبناني ومستقبله.