أربعون يوماً والانتفاضة الشعبية مستمرّة، والسلطة السياسية بأطرافها عموماً لم تُقدِم حتى تاريخه على تشكيل حكومة، أية حكومة، لا تكنوقراط ولا تكنوسياسية، ولا حكومة أكثرية. وحتى تاريخه، لم تتجاوب السلطة مع مطالب الانتفاضة بالانخراط فوراً في طريق الإصلاح وإعادة تكوين قواعد السلطة. كما أنّها، بتجاهلها لانتقال الأزمة الاقتصادية والمالية من مرحلة بدايات الانهيار إلى مرحلة الذروة فيها وسط عدم وجود أية حكومة، تحاول نفض يدها والتنصّل من مسؤوليّتها المباشرة عن الجريمة الوطنية الكبرى المتمثّلة في كارثة الانهيار المالي والنقدي الذي يعرّض اللبنانيين للإفقار والبطالة وصولاً إلى المجاعة.
إنّ السلطة، بفعلتها هذه، تعمل من دون تردّد على إلقاء تبعات النتائج الاقتصادية والاجتماعية المدمّرة على عاتق الأغلبية الساحقة من اللبنانيين، ولا سيّما الفقراء منهم، فتضعهم بشكل قسري أمام خيارين أساسيّين: إما الخضوع لسياساتها أو تعميم الفوضى المحفوفة بالعودة إلى زمن النزاعات الأهلية المدمّرة. وتستقوي السلطة في الحالتين بتبعية نظامها السياسي الطائفي للخارج الذي تعود له الكلمة الفصل في تعيين رؤساء الجمهورية والحكومة والمجلس النيابي وكل ما يعود لحيثيّات "الحرية والسيادة والاستقلال". وهذا بالتحديد ما نشهده اليوم من خلال ما يتسرّب من معطيات ومؤشرات عبر قنوات التفاوض مع الطرف الأميركي، على تشكيل حكومة تكنوسياسية تخضع لمواصفاته وتوجيهاته وتعيد تجديد النظام الطائفي المحتضر، بدلاً من الاستجابة لمطالب الانتفاضة الشعبية وطرق أبواب الإصلاح السياسي الذي هو المدخل الفعلي لأيّ إصلاح اقتصادي أو مالي يمكن البناء عليه. هذا مع العلم أنّ تسليم الأوراق للطرف الأميركي، والغربي عموماً، يأتي في الوقت الذي يتراجع فيه نفوذ هذه القوى في المنطقة العربية وخصوصاً في لبنان.
إنّ رفض السلطة السياسية اللبنانية تشكيل حكومة انتقالية، وطنية من خارج منظومتها الحاكمة، وبصلاحيات استثنائية بما في ذلك صلاحية التشريع، يثير قلقاً كبيراً في صفوف اللبنانيين حول عدم استرجاع المال والأملاك العامة المنهوبة وعلى عملية إلقاء تبعات الأزمة الاقتصادية والمالية على الفئات الاجتماعية المسحوقة. وهذا القلق المشروع يعود إلى أنّه من غير المعقول أن تشرّع هذه السلطة قوانين ضدّ مصالحها السياسية والطبقية، وتكشف بشفافية عن المكامن الملموسة لفسادها، الأمر الذي سوف يحمّلها المسؤولية الأساسية عن تفجّر المحنة الاقتصادية والاجتماعية التي تثقل راهناً كاهل الشعب اللبناني.
ويأتي في الإطار ذاته، ما دأبت عليه بعض قوى "المعارضة" السلطوية التي تركب موجة الانتفاضة للتهرّب من تحمّل مسؤولياتها عن الأزمة وارتباطاً بأجنداتها الخارجية، إلى اعتماد اسلوب قطع الطرقات، مدركة أضراره في هذه الظروف على الانتفاضة لجهة حرفها عن أهدافها الوطنية والاجتماعية، بوضع شارع في وجه شارع آخر الذي سرعان ما استجاب وأطلق التهديدات على المنتفضين التي طالت المقاومين في محافظتي الجنوب وبعلبك-الهرمل الذين لم يقطعوا لا طريقاً ولا زاروباً حيث تمّ الاعتداء (المُدان) عليهم في ساحة المطران في بعلبك وساحة الحرية (دوار العلم) في صور وحرق خيمهم للمرة الثانية، في رسالة واضحة إلى الشعب اللبناني مفادها الآتي: "اختاروا أيها اللبنانيون إمّا الموت غير المباشر جوعاً او الموت المباشر قتلاً بالفتنة"، وهو الأمر الذي لطالما دأبت عليه تاريخياً الأطراف المتنفّذة داخل هذه السلطة كلّما تهدّدت مصالحها السياسية والطبقية في مواجهات شعبية كبرى. تلك هي بوصلة الانتفاضة في تجاوز هذه التحديات مقدّمين أحرّ التعازي إلى عائلتيْ شهداء الوطن الذين سقطوا على طريق الجية حسين شلهوب وسناء الجندي.
مثل هذا السلوك السلطوي هو الذي يجرّ البلاد دونما شكّ نحو الفوضى ويفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية وازدياد الضغوط الأميركية السافرة والمُدانة، بحسب ما تشير إليه يوماً بعد يوم بيانات السفارة الأميركية والتصريحات المتكرّرة للمسؤولين الأميركيين، وآخرهم فيلتمان، والتي تستوجب المزيد من التصدّي الشعبي لها وإطلاق كل المبادرات المتاحة ضدّها بمختلف أشكال وأساليب الشجب والاستنكار. وهذه التدخلات مرشّحة للتصاعد طالما بقيت السلطة مفتقدة لاستقلاليّة قرارها السيادي، الأمر الذي يتيح لتلك التدخلات توظيف ما يحصل من تطورات في لبنان في خدمة مشاريعها العدوانية المعادية لمصالح الشعب اللبناني ومصالح شعوبنا العربية. وهذا ما ينطوي على أخطار ينبغي التصدّي لها ولأدواتها الداخلية من قِبل كل القوى الديمقراطية والهيئات واللجان الشعبية المنخرطة في الانتفاضة.أربعون يوماً مضت على الانتفاضة الشعبية، والسلطة لم تحرّك ساكناً لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية التي انتقلت مظاهرها من مرحلة بدايات الانهيار باتّجاه مرحلة الذروة فيها. وتهدف السلطة من خلال تجاهلها للواقع الاقتصادي والاجتماعي المأساوي، إلى إرباك الانتفاضة وضربها واجتثاث ما حملته من معانٍ ودلالات عميقة سوف تبقى راسخة في الحاضر والمستقبل. أمّا أبرز مظاهر التسارع في هذا الانهيار فتتمثّل في الآتي:
• بلوغ تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار ( دولار مقابل 2000 ل.ل) والحبل على الجرار، ما يعني تهديد القوة الشرائية للرواتب والأجور والتعويضات ومعاشات التقاعد، حيث لم يعد بالإمكان توفير الحاجات الضرورية للعاملين الذين يتقاضون مداخيل بالليرة اللبنانية.
• اتساع ظاهرة الفقر والعوز والجوع لا سيّما لدى المُعطّلين عن العمل والمهمشين الذين بالأساس لا أجور أو مداخيل لديهم إضافة إلى المياومين وعموم المواطنين الذين يفتقدون إلى الضمانات الاجتماعية.
• ازدياد خطر تبخّر قيمة تعويضات صندوق نهاية الخدمة في الضمان الاجتماعي وسائر الصناديق الضامنة، لا سيّما إذا ما تم إقرار مشروع قانون ضمان الشيخوخة الحالي الذي لا تزال معظم مرتكزاته موضع جدل وتباين.
• احتمال التوقف عن دفع أجور العاملين في المصانع والمتاجر والمؤسسات بسبب الإقفال والصرف الكيفي.
• ازدياد القيود المنفذة في المصارف على الودائع والتحويلات، حيث يعجز أصحابها عن سحبها أو الحصول عليها أو تحويلها كما يريدون لتسيير أعمالهم وصرف أجور موظفيهم جراء تفرد المصارف في تقرير العلاقة مع المودعين والمقترضين بمعزل عن الدولة، كما هو واقع الحال راهناً.
• وصول تأثير الانهيار المالي إلى السلع والمواد الأساسية المستوردة بالدولار من الخارج نتيجة القيود المفروضة على التحويلات بالدولار، حيث أنّ بعض السلع بدأت تُفقَد من الأسواق والمستشفيات أعلنت أنّ احتياطاتها من المعدات الطبية تتضاءل بشكل سريع.
• التصاعد المريع في معدلات البطالة والارتفاع غير المسبوق في الديون المشكوك في تحصيلها من المؤسسات المتعثرة والمفلسة.
• تفاقم مشكلة السكن جراء تحرير جزء كبير من عقود الإيجارات بالدولار في حين أنّ أجور ومداخيل معظم المستأجرين هي بالليرة، مع تسجيل ندرة متزايدة للدولار الأميركي في الأسواق المحلية.
إن العجز المتمادي للسلطة السياسية عن فرض الآليات والاجراءات التي يجب القيام بها لفرض التعامل بالليرة اللبنانية – بدلا من الدولار - في عمليات الشراء والبيع في الأسواق الداخلية، وسط استمرار عدم الاستقرار في أسعار الصرف.إزاء ما يحصل على المسارات كافة، فإنّ قوى الانتفاضة مطالبة بالانتقال إلى مرحلة تصعيدية جديدة، بدءاً من توسيع دائرة الحوار المتعلق بالانتفاضة الذي استهلّته الورشة الحوارية حول المرحلة الانتقالية وبرنامجها، مروراً بتوسيع وبلورة إطار المواجهة الشعبية وتصعيد أشكالها، ضمن خطة تحركات تصعيدية متدرجة وصولاً إلى إعلان العصيان المدني. وهذا يشمل أيضاً التوجّه إلى المتضررين -الذين دفعوا ويدفعون وسيدفعون أكثر فأكثر تكاليف الانهيار فقراً وبطالة وهجرة- كي يشبكوا الأيادي ويوحّدوا الصفوف منعاً للفوضى والفتنة ووقوفاً بوجه التدخلات الخارجية وأدواتها السلطوية وحيتان المال، وكذلك بوجه محاولات بيع ما تبقّى من مؤسسات للدولة تحت شعار كاذب ومخادع هو تنفيذ ما يُسمّى "الورقة الإصلاحية"، مع ما تتضمّنه من خصخصة للمرفأ والمطار والاتصالات والمرافئ وشركة طيران الشرق الأوسط والكازينو وغيرها وتعميم التعاقد الوظيفي وضرب نظام التقاعد.
إنّ أية حكومة يُراد تشكيلها يجب أن لا تعيد إنتاج السلطة السياسية عينها ما سيزيد الأزمة السياسية والاجتماعية تفاقماً بينما المطلوب حكومة انتقالية وطنية قادرة على التصدّي للتدخلات الخارجية والضغوط الأميركية وتقديم حلول ملموسة لكلّ ما تقدّم من مخاطر حول مظاهر الانهيار المالي والنقدي والاجتماعي، وفي أولوية برنامجها مسألتان أساسيّتان:
أوّلاً، رؤيتها لبرنامج المرحلة الانتقالية، وفي مقدّمها: إقرار قانون للانتخابات النيابية على أساس النسبية وخارج القيد الطائفي (المادة 22 من الدستور)؛ وتحديد طرق استرداد الأموال العامة المنهوبة؛ وتأسيس نظام ضريبي تصاعدي يطال المداخيل والأرباح والثروات والريوع الكبيرة؛ وابتداع إجراءات مفصلية تتيح إعادة هيكلة مكوّنات القطاع العام، لا سيّما المؤسسات العامة والمصالح المستقلة.
ثانياً، معالجة مظاهر الانهيار المالي والنقدي بما يؤمّن الحماية الاجتماعية بشكل أساسي للعمال والأجراء والموظفين والفئات الدنيا الفقيرة والمتوسطة، ليُصار إلى تركيز الإجراءات على الفئات التي استفادت بالدرجة الأولى من سياسات الحكم واستحوذت على الريوع والفوائد والأرباح وشاركت في نهب المال العام.
Read more...