يصدِفُ أن تلتقيَ بشخصٍ تعرفه وأنت تمشي في الشارع ليسارع بسؤالك السؤال الآتي "شو وين صرتو؟" وكأنّه ينتظر من الانتفاضة الشعبية أن تحقّق تغييراً شاملاً لسلطة متجذّرة ولدت إبّان إعلان دولة لبنان الكبير عام ١٩٢٠، من خلال خمسين يوماً من التظاهرات. عجيبٌ أمر هذه الشريحة من المواطنين وكأنّ الانتفاضة ستعطي مفاعيل وتأثيراتٍ في غاية السرعة. ثمّة قوانين ناظمة لأيّ حركةٍ جماهيرية علّمتنا إيّاها تجارب الشعوب المنتفضة، بالاستناد إلى التراث الماركسي- اللينيني، فقد وضعت الأخيرة الأسسَ التنظيمية للثورة اشتراكية التي تبدأ بتنظيم صفوف الطبقة العاملة، وتمرّ بحتمية رفع مستوى وعي هذه الطبقة، ومن ثمّ تأطير نضال الطبقة العاملة على المستوى السياسي وأخيراً القيام بالفعل الثوري.
في حقيقة الأمر، دائماً ما يُنظر إلى "الحراك- الانتفاضة- الثورة" وكأنّها تأخذ خطّاً مستقيماً تصاعدياً وهذا ما تدحضه ثورات الشعوب المنتفضة في أمكنة وأزمنة عديدة. إنّ الاعتقاد بأنّ "الحراك- الانتفاضة- الثورة" يأخذ هذا الخطّ التصاعدي يحيلنا إلى الاعتقاد بأنّ الرسم البياني لها هو عبارة عن منحنى الجرس أو ما يعرف بالـ "bell curve". على عكس هذا الاعتقاد، فإنّ مسار "الحراك- الانتفاضة- الثورة" هو أقرب إلى تعرجات غير مستقيمة، أفقياً وعموديّاً، تماماً كما حركة التاريخ، فكما قال لينين أنّه يمكن أن تمر عشرون سنة في التاريخ مفعولها كيوم واحد، وأن يمر يوم واحد يراكم في مساره ما يعادل عشرين سنة.
في هذا السياق، فإنّ شكل "الحراك- الانتفاضة- الثورة" هو بالضرورة عبارة عن أطوار مختلفة تتشكّل من منحنيات مختلفة. فلنأخذ الثورة المصرية مثالاً، فإنها مرّت بأربعة أطوار لغاية الآن. في الطور الأوّل، سقط حسني مبارك (٢٠١١) ليستلم من بعده الحكم المجلس العسكري لفترة انتقالية قادت إلى تنظيم انتخابات جديدة وتعديلات دستورية. الطور الثاني كان عندما أفضت الانتخابات الرئاسية لعام ٢٠١٢ إلى فوز محمد مرسي، الذي ينتمي إلى الإخوان المسلمين، بسدة الرئاسة. الطور الثالث حدث عندما أُزيح مرسي بفعل انقلابٍ عسكريّ وبضغط شعبي قاده عبد الفتاح السيسي (حزيران ٢٠١٣) ليتولّى المنصب رسميّاً عام ٢٠١٤. الطور الرابع والحديث نسبيّاً تمثّل في تظاهرات شهدتها عدّة مدن مصرية في أيلول/سبتمبر من العام الحالي (٢٠١٩). بهذا المعنى، فإنّ الثورة هي سيرورة مستمرة في الزمن.
ولكلّ "حراك- انتفاضة- ثورة" نقطة تحول (turning point) هي عبارة عن تجميع كمّي لظروف ذاتية وموضوعية، بعضها مرئي وبعضها الآخر غير مرئي، ومن ثم تلتئم في ظرفٍ سياسي معيّن ليتحول هذا التراكم الكمّي إلى تحوّل نوعي (راجع المقالة السابقة: التراكم التاريخي لانتفاضة ١٧ أكتوبر). عند إسقاط هذه النظرية على الحالة اللبنانية، فإنّ نقطة التحول التي أّدّت إلى اندلاع الانتفاضة كانت ضريبة الواتساب التي اقترحتها الحكومة السابقة، على محدودية أبعادها السياسية. ولّد هذا الأمر انفجاراً شعبياً هائلاً، فكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير فأطلقت الثورة الشعبية من قمقمها. لقد أدّى ذلك برئيس الحكومة الى إعلان استقالة حكومته بعد ١٢ يوماً من المظاهرات في مختلف المناطق اللبنانية. اليوم وبعد أكثر من خمسين يوماً من عمر الانتفاضة الشعبية لتاريخه، فإنّ الانتفاضة قد استنفذت جميع أشكال الاعتراض الشعبي في طورها الأوّل من خلال اعتصامات وتظاهرات وقطع طرقات وإقفال مرافق عامة وحملات على المصارف وتحركات طلابية وقطاعية عديدة. إنّ انتقال الانتفاضة من الطور الأوّل إلى الطور الثاني مرهونٌ بظروف وتطوّرات، بعضها ذاتي ينتج عن مدى قدرة قوى الانتفاضة بالانتقال من شكلها الحالي إلى شكل أكثر جذرية، وهنا المسؤولية الأساس تقع على عاتق الحزب الشيوعي اللبناني بصفته الحزب الثوري الفاعل في صفوفها. والبعض الآخر من الظروف هو ظروف موضوعية تمليها تطورات الوضعين السياسي والاقتصادي وما قد ينتج عنهما.
في الشقّ السياسي، فإنّ تشكّل حكومة تكنو-سياسية يرأسها الحريري أو غيره، قد يكون محطة مفصلية أخرى للانتفاضة لأنّ التغيير الموعود في هذه الحالة لم يعكس المزاجَ الشعبي المطالب بحكومة وطنية انتقالية من خارج المنظومة الحاكمة، وعندئذٍ سيكون للانتفاضة كلمتها لناحية رفض هذه الحكومة. أمّا في الشق الاقتصادي- الاجتماعي، فينبغي النظر إلى خمسة مسارات سيكون لها تأثيرات سلبية على مختلف الشرائح الاجتماعية، وبالأخص الطبقتين الفقيرة والمتوسطة. المسار الأوّل هو استمرار المصارف بحجز أموال المودعين الصغار وتقييد عملية السحب النقدي. المسار الثاني يكمن في موجة الغلاء المستمرة في الأسواق مع ما يقابلها من إمكانية فقدان أو شحّ المواد الغذائية الأساسية والأدوية والمستلزمات الطبية. المسار الثالث يكمن في توجه مؤسسات القطاع الخاص بتسريحٍ جماعي للعمّال والموظفين أو قضم حقوقهم عبر إعطائهم نصف معاش، وعبر ذلك ستزيد أعداد العاطلين عن العمل بشكل مطّرد في سوق عمل يتميّز أصلاً بقلّة فرص العمل فيه. المسار الرابع يكمن في تناقص سيولة الدولة اللبنانية إلى الحدّ الذي سيجعلها غير قادرة على دفع رواتب وأجور العاملين في القطاع العام بمؤسساته المختلفة. المسار الخامس والأخير يكمن في استمرار تقلّبات سعر الصرف مقابل الدولار الأميركي حيث وصل إلى عتبة الـ٢٣٠٠ ليرة (الخميس في ٢٨ تشرين الثاني/ نوفمبر). إذاً مراقبة هذه المسارات وتفاعلها مع المسار السياسي سيكون له نتائج وتأثيرات عديدة على مستوى الانتفاضة الشعبية وانضمام شرائح اجتماعية عديدة إليها، وبالتالي تجذّرها أكثر على مستوى الفاعلية والخطاب السياسي المرافق لتطوّرها. إنّ اشتداد وقع الازمة الاقتصادية- الاجتماعية بدأ يدفع بالمواطنين بالإقدام على الانتحار في مؤشّرٍ خطيرٍ لما آلت وستؤول إليه الأوضاع. وفي هذا السياق، فقد سُجّلت ثلاث حالات انتحار في الفترة الممتدّة من ١ كانون الأول/ ديسمبر وحتى ٤ من الشهر نفسه.
بناءً على ما تقدّم، فإنّ انتهاء الطور الاوّل من الانتفاضة لا يجب أن يحيلنا إلى اعتقاد بأنّ الانتفاضة الشعبية انتهت أو خفّ وهجها، بل هي في مرحلة انتقالية للدخول إلى الطور الثاني. ولا يمكن التكهّن بالمهلة الزمنية للانتقال إلى هذا الطور لأنّ ما جعل الطور الأول يبدأ ويتفاعل لم يكن في الأساس "قراراً حزبياً" من حزب الطبقة العاملة أو من النقابات التي تدور في فلكه وإن كنّا نأمل ذلك!
على أيّ حال، ينبغي متابعة نضالنا اليوميّ ضدّ النظام بكافة قواه وفروعه وفي طليعتها طبعاً الأوليغارشية المالية وجعله يأخذ مستوى أكثر جذريةً. وينبغي علينا التأكيد في كلّ مناسبة أنّ معركتنا مع هذا النظام هي معركة طبقية في المقام الأوّل، وبأنّ مسار المواجهة مع هذه السلطة العفنة سيطول حتماً ولكنّ الأهمّ أنه بدأ في ١٧ تشرين الأول/أكتوبر.
سأصطحب هذا المقال معي أينما حللت للردّ على سؤال الشاب الاستفزازي "شو وين صرتو؟".